الشعبوية يمكن تعريفها كإيديولوجية، أو فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات، الأرقام والبيانات بمخاطبة عقل الناخب لا عواطفه.
ومن أكبر النتائج الكارثية للشعبوية هو قدرتها على اقناع عدد كبير من الشعب وغالبا ما يشكلون الأكثرية للقبول بالسلطة المطلقة للفرد أو لمجموعة من الزعماء.
أصل الكلمة
تشتق كلمة الشعبوية من كلمة أخرى ملتبسة هي "الشعب" وهي تعني نظرية الروائيين الشعبيين الذين يصورون بواقعية حياة عامة الشعب، و يفترض الخطاب الشعبوي التوجه المباشر إلى "الجماهير" وفق تقويم إيديولوجي للنيات والنتائج.
تاريخها
الشعبوية لها حضور واضح منذ أقدم العصور ففي اليونان القديمة، مع صعود الديماغوجيين من أمثال "كليون"، وانتكاس ديموقراطية أثينا، وما خَلّفَتْهُ من فوضى دفعتْ بأفلاطون وتلميذه أرسطو إلى نبذ والنظر بِدُونِيّةٍ إلى "جموع الرعاع"، وما ينتج عنهم من "حكم الرعاع" وقد أثّرَ التخليط وعدم الوضوح في استخدام المصطلحات على مصطلح "الديموقراطية" الذي غدا سلبيَّ المضمون طيلة قرونٍ.
وشهدتِ الإمبراطوريةُ الرومانيةُ صعودَ أباطرةٍ أو ضباطٍ شعبويين استخدموا قدراتهم الخطابية في تحريك "الجموع" عاطفياً، للوصول إلى مآربهم في التسلط الاستبدادي على الحكم ويعتبر كل من "الأخوين غراكي " في روما، و"يوليوس قيصر" من أبرز هؤلاء الشعبويين.
وفي منطقة الشرق الأوسط أخذ "الشعب" دور "الرعيّة" وممارسة طقوس الطاعة والخضوع بإذعانٍ مطلقٍ للراعي/الحاكم، الذي يسعى بدوره إلى تعزيز تسلط نظام الحكم عبر استغلال البُنى التقليدية كالعشيرة والقبيلة، والإبقاء على الجهل في صفوف "الشعب"، والحفاظ على مزاجٍ سائدٍ يخضع للعادات والأعراف واعتاد الكثير من المؤرخين على وصف "الشعب" بالرعاع أو السوْقة أو العوام أو الدُّون وغيرها من نعوت الازدراء التي توضَعُ في مقابل "النخب" من أهل الرياسة والسلطان والعلم والحلِّ والعَقْد لكن هذا الأمر لم يكن خاضعاً لقواعد مؤسساتيةٍ ثابتةٍ كما كانتْ عليه الحال في أوروبا (نبلاء، كهنوت كَنَسِيّ، حرفيين، فلاحين...) بل كان مستنداً إلى اعتباراتٍ عائليةٍ وقبلية وطبقية.
ومع قدوم عصر النهضة والتنوير الأوروبي وصعود الحداثة حَوَّلَتِ الثورة الفرنسية "عامة الشعب" من متفرجٍ إلى عنصرٍ فاعلٍ في المشهد العام وعلى خلاف الثورات الأنكلوفونية في بريطانيا أو الولايات المتحدة التي حافظتْ على مُكَوِّنٍ برجوازيٍ مُتَرَابِطٍ ومُنْسَجِمٍ مع الثورة، فقد اتبعت الثورة الفرنسية مقاربةً راديكاليةً وشعبوية ومع أنها أسّستْ لقطيعةٍ مهمةٍ مع الموروث الاجتماعي والفكري السائد في "النظام القديم" إلا أنها انزلقتْ في ممارساتٍ وسلوكٍ إقصائيٍّ وانتقاميٍّ فَقَدَ الكثيرون رؤوسَهُم بسببه، ما أفضى إلى عقودٍ من الاضطراب، وسمح بالنتيجة بظهور مستبدين جُدُد تسلّقوا على أكتاف "الشعب"، في "عصر الجموع" الذي تم فيه (انتزاعُ الحقِّ الإلهيِّ من المَلِكِ وإلباسُه "للشعب" ليُضْفِي على ما يقوله "الشعب").
ظهرت الشعبوية في ثلاثينات القرن العشرين وخاصة في أمريكا اللاتينية، حيث برزت الوجوه الأكثر شعبية نتيجة سياسات حكومات ضعيفة وفاسدة، والأكثر شهرة هي التجربة التي خاضها الزعيم خوان دومنغو بيرون والخطابات النارية لزوجته ايفيتا.
واستحكمت السياسات الشعبوية الجاذبة للجماهير في العالم العربي منذ أواخر الأربعينات ووصلت أعلى مستوى لها مع بروز الآيديولوجية الناصرية في مصر تحت قيادة جمال عبد الناصر وعلى عكس ما هو حال باقي التجارب الأخرى، انجذب للناصرية الكثير من المثقفين بل وحتى رجال الأعمال أكثر من الجماهير الفقيرة.
توالت الحركات الشعبوية في سياق البيرونية ولكن باسم مبادئ متناقضة وصولا إلى الزمن الراهن: في الإكوادور حيث أقترح الرئيس عبد الله بوكرم بين 1996 - 1997 تشكيل "حكومة من الفقراء" وهو محاط بأكبر أثرياء البلاد، أو أيضا مع الرئاسة "الاجتماعية" لهوغو شافيز في فنزويلا، فلقد نجح في توحيد وتوجيه موجة شعبية عاتية كانت ترفض فساد الطبقة السياسية وتتحرك للتغيير.
الخطاب الشعبوي
معاني الشعبوية متضاربةٌ، تتراوح بين الرومانسية الثورية والدُّونِيّة السياسية، لكن ما يجمع معظم دُعاة الشعبوية مقاربتهم التبسيطية في استخدامهم لمفردة "الشعب"، وادعاؤهم أنهم صوت وصدى وضمير هذا "الشعب"، فضلاً عن احتكارهم لتمثيله من دون مراعاة مفاهيم التفويض والتعاقد السليم، وتركيزهم على خطابٍ عاطفيٍّ يفتقر للرؤى الواضحة، مع ترويجهم، المباشر أو غير المباشر، لعداء الفكر.
والخطاب الشعبوي هو خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد أو يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد، من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية ويُكْثِرُ الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ إيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي.
ويرى الباحث الفرنسي بيير أندريه تاغييف أنه من الخطأ مساواة الشعبوية مع الديماغوجية فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه ويقول الباحث بأن للشعبوية عددا من الخصائص الأولية أولها أنها تمثل ثورة ضد النخبة وهي تزعم أن السياسة هي شيء سهل ويمكن إدراكها بالنسبة للجميع وأن اعتبارها معقدة يعود إلى مكيدة وضعها النخبويون لإبقاء المواطنين العاديين خارج عملية صنع القرار.
ويرى تاغييف أن معظم جمهور الخطاب الشعبوي من الأميين والفقراء خصوصا في المناطق الحضرية، وهي الشريحة التي وصفها كارل ماركس بنبرته النخبوية المترفعة بـ "البروليتاريا الرثة" أو بقاع المجتمع.
الغضب الاقتصادي وتصاعد الشعبوية
يرصد روبرت ريش، وزير العمل الأمريكي الأسبق، وأستاذ السياسات العامة بجامعة كاليفورنيا، في مقاله "صعود الشعبوية"، مظاهر وأسباب تصاعد الغضب الشعبي ضد النخبة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة ويبرز ريش في هذا المقال ازدياد الفجوة في الدخل والنفوذ بين النخبة والطبقة المتوسطة الأمريكية، وما يراه تواطؤا بين النخب السياسية والاقتصادية يؤدي إلي إلحاق الضرر بالمصالح الأساسية للطبقة المتوسطة، ويحد من قدرتها علي تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
يعزو الكاتب تصاعد مشاعر الغضب والتوتر في المجتمع الأمريكي، عقب الأزمة الاقتصادية، إلى تزامن التراجع الاقتصادي العام، مع إحساس الطبقة الوسطي بالحرمان النسبي فرغم تلقي الأغنياء في الولايات المتحدة ضربة موجعة عام 2008، فإن معظمهم قد استرد عافيته بحلول عام 2010 ، بينما ظلت الطبقات المتوسطة والفقيرة تعاني البطالة والحاجة وبذلك، عادت الفجوة بين الأغنياء وباقي المجتمع الأمريكي في الاتساع مرة أخري.
وعلى سبيل المثال، حققت مؤسسة جولدمان ساكس أرباحا في عام 2009، مكنتها من دفع 16.7 مليار دولار مكافآت لموظفيها، بينما قدمت مؤسسة جي بي مورجان تشيس 27 مليار دولار كمكافآت لموظفيها في العام نفسه وقد انفجر الغضب الشعبي في مارس 2009، بعد أن اتضح أن شركة AIG، التي تكلفت الحكومة الأمريكية أكثر من 150 مليار دولار لإنقاذها، قد دفعت لقياداتها العليا 165 مليار دولار مكافآت.
وقد توجه مواطنون إلى منازل قيادات هذه الشركة للتعبير عن غضبهم، كما أمطروهم بوابل من الخطابات الغاضبة ويرجع غضب الطبقة المتوسطة الأمريكية إلي أنها فقدت معظم قيمة أهم الأصول التي تمتلكها - وهي المنازل - نتيجة للتدهور الذي أصاب سوق العقارات، بل وخسر الكثير منهم هذه المنازل لعدم قدرتهم علي سداد الأقساط، وذلك كنتيجة مباشرة لسوء تصرف البنوك والمؤسسات المالية وشركات التأمين.
يرى ريش أن تركيز الدخل والثروة في الشريحة العليا من المجتمع الأمريكي أصبح يضع قيودا على إمكانية الطبقات الأقل حظا في تحقيق التقدم الاجتماعي فأبناء الطبقة العليا هم الأكثر حظا في الحصول على التعليم الجيد في الجامعات الخاصة ذات المصاريف الباهظة، مما يعزز من فرصهم في الحصول على أفضل الوظائف بأعلى الرواتب.
وتاريخيا، لم تؤد هذه الفروق الكبيرة في مستوي المعيشة والدخل إلى حدوث اضطرابات اجتماعية في الولايات المتحدة، نظرا لإيمان غالبية الأمريكيين بأن لديهم الفرصة، من خلال العمل الجاد، للحصول علي حياة أفضل ومزايا اقتصادية أكبر لهم ولأبنائهم لكن الأمريكيين باتوا يشعرون بالقلق الشديد، نظرا لاجتماع الثروة مع القوة السياسية، واستخدام الثروة لشراء النفوذ السياسي.
وفي هذا الإطار، يشير الكاتب إلي التبرعات الضخمة التي تضخها مؤسسات وول ستريت في خزائن كل من الحزب الجمهوري والديمقراطي فقد تبرعت مؤسسات وول ستريت ومديروها لأعضاء الحزبين بنحو 42 مليار دولار في الفترة ما بين نوفمبر 2008 ونوفمبر 2009، خاصة لأعضاء اللجان البرلمانية المختصة بالقضايا المالية وقد تبرعت مؤسسات وول ستريت، أثناء الحملة الانتخابية لعام 2008، بنحو 88 مليون دولار لمرشحي الحزب الديمقراطي، و 67 مليون دولار لمرشحي الحزب الجمهوري في هذا الإطار، يري الرأي العام الأمريكي استعداد النخبة السياسية لإنفاق الأموال الطائلة لإنقاذ البنوك من الإفلاس، ثم تغاضيها عن عودة البنوك لنفس ممارساتها السابقة، بعد أقل من عام دون أي تدخل، تواطؤا بين الطرفين.
يرصد ريش تجلي رد الفعل الشعبي لكل هذه الممارسات في ظهور خطاب سياسي يتميز بالمرارة والغضب، يهاجم بشدة النخب التي تنظر بتعال إلى الأمريكيين "العاديين" من أعضاء حركة "حفل الشاي"، ويسعي إلى الخلاص منها كما اتخذ رد الفعل شكل الهجوم علي فكرة "التعددية الثقافية"، واتهام المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة بتهديد القيم الأمريكية المستمدة من التراث المسيحي - اليهودي وبسبب هذا المناخ المتوتر، أصبح الكثير من الأمريكيين علي استعداد لمساندة إجراءات اقتصادية تسبب ضررا للنخبة الاقتصادية، حتي وإن عادت بالضرر عليهم أيضا.
وفي هذا المناخ غير العقلاني، يتم الهجوم على التوسع في نشاط الحكومة في إدارة المجتمع من ناحية، وعلى مؤسسات وول ستريت من ناحية أخري وإذا استمر تفاقم الغضب الشعبي، نتيجة لامتداد فترة الأزمة الاقتصادية، فقد يتم تصعيد زعامات ديماجوجية تسعي للحصول على سلطة مطلقة، وتتبني سياسات سوف تضر بالولايات المتحدة داخليا وخارجيا.
"الشعبوية" الأمريكية وتداعياتها على السياسة الخارجية
في مقاله "حزب الشاي والسياسة الخارجية الأمريكية"، يرصد والتر رسل ميد، أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير، الجذور التاريخية للحركة الشعبوية الأمريكية، والتي تعود إلى المرحلة الاستعمارية وبحسب ميد، عادة ما تعاود هذه الحركات ظهورها عند انتشار شعور عام بالاستياء من النخبة المميزة اجتماعيا واقتصاديا، مع تفاقم الشكوك تجاه دوافع وممارسات النخبة الحاكمة وينسب هذا التيار الشعبوي الأمريكي المسمى "بالجاكسونية" إلي الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، الذي استغل الزخم الشعبوي السائد في عام 1830 في إعادة تنظيم النظام الحزبي، وتوسيع رقعة المشاركة الشعبية في الانتخابات.
تعتمد الجاكسونية رؤية تتميز بالإيمان الشديد بالتفرد والتميز الأمريكي، وبرسالة الولايات المتحدة العالمية يقوم النظام العالمي، وفق هذه الرؤية، على التنافس بين دول تسعي في المقام الأول لتحقيق مصالحها الخاصة ولهذا، فهي لا تؤمن بإمكانية قيام نظام عالمي ليبرالي وفي حالة وقوع أي اعتداء على الولايات المتحدة، فإن أنصار هذا التيار يؤيدون القيام بحرب شاملة، هدفها إلحاق الهزيمة الشاملة بالعدو وتحقيق استسلامه غير المشروط.
وعبر التاريخ، واجه الرؤساء الأمريكيون مشكلة في إقناع هذا التيار بدعم سياساتهم الخارجية واجه الرئيس فرانكلين روزفلت هذه المشكلة، عندما كان يحاول تحقيق الدعم الداخلي للتدخل ضد قوي المحور أثناء الحرب العالمية الثانية، وإن كان وقوع الاعتداء الياباني علي بيرل هاربور قد قدم له مخرجا في ذلك الوقت وقد لجأ الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، ووزير خارجيته دين أشيستون، إلى خلق "فزاعة" الخطر الشيوعي لحشد الدعم لسياسات تهدف إلي مساعدة أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها مشروع مارشال علي سبيل المثال.
وفي إطار الدفاع عن الولايات المتحدة ضد الخطر الشيوعي، ساند التيار الجاكسوني ميزانيات الدفاع العالية، والتدخل الأمريكي العسكري في الخارج وقد استغلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة فكرة التنافس مع الاتحاد السوفيتي لحشد الدعم لعديد من السياسات التي أسهمت في تشكيل نظام عالمي ليبرالي يضم الدول غير الشيوعية.
وبعد 11 سبتمبر 2001، سادت قناعة بأن الولايات المتحدة تتعرض لخطر داهم وشديد لذلك، فإن الرأي العام كان على استعداد لبذل المال والدماء لدرء هذا الخطر وقد كان أمام إدارة الرئيس جورج بوش الابن الفرصة لتبني سياسة خارجية نشيطة لدعم نظام عالمي ليبرالي في ظل هذا الدعم الشعبي وسوف يتناقش المؤرخون لسنوات طويلة قادمة حول الأسباب التي أدت بهذه الإدارة لتفويت هذه الفرصة.
وعند توليه السلطة، قررت إدارة الرئيس باراك أوباما انتهاج منهج مختلف، حيث تخلت عن "الحرب على الإرهاب" كمظلة لعملها الخارجي ولذلك، تواجه إدارة أوباما عقبات حقيقية في بناء دعم داخلي لسياساتها الخارجية، في إطار مناخ سياسي يتميز بالاستقطاب الشديد، حيث تمر الولايات المتحدة اليوم بلحظة جديدة من الزخم "الجاكسوني"، نتيجة لتضافر عدة عوامل داخلية وخارجية فهناك استمرار لخطر الإرهاب من جانب متطرفين من الداخل والخارج، وهناك خطر الصعود الصيني الذي يمثل تهديدا علي صعيد الأمن الدولي في آسيا، وعلي صعيد المنافسة الاقتصادية التي ترتبط في أذهان التيار الجاكسوني بمشاكل الطبقة الوسطي الاقتصادية وهناك أيضا أزمة الدين الفيدرالي التي تهدد أمن واستقرار البلاد.
وعلى الصعيد السياسي، هناك تصاعد لخطاب تصادمي بين رجل الشارع الأمريكي والنخب الأمريكية التي يراها متعالية، وتعتمد أفكارا تستعصي على الفهم.
يرى ميد أنه من الصعب التنبؤ بتداعيات هذا الزخم الشعبوي الجديد، والذي يتجسد في حركة "حفل الشاي" على السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن يمكن القول إن هناك إجماعا في هذا التيار على أن أمن الولايات المتحدة الداخلي لا يمكن تحقيقه بدون نشاط أمريكي واضح في الخارج وكلما زاد شعور الجاكسونيين بالخطر، سواء من الصعود الصيني أو من الإرهاب، سوف يزيد إصرارهم على توفير الإمكانيات، وتكوين التحالفات لمواجهة هذا الخطر.
الشعبوية والديمقراطية
كثيراً ما يغيب عن المرء التمييز بين الشعبوية والديمقراطية فيخيل إليه أنه يعالج الأمور العامة بميزان ديمقراطي بينما هو في الحقيقة يستعين في تقييمه لها بمعايير شعبوية، والعكس بالعكس
ولقد اشتدت هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة، خاصة في إطار الجدل حول قضية الهجرة والمهاجرين، وتحولت إلى أرض جدل فكري وسياسي عميقين، وإلى صراع ونقاش ساخن حول مستقبل الاتحاد الأوروبي بين تيارين رئيسيين داخل الاتحاد الأوروبي
الأول الذي يضم النخب السياسية الأوروبية، خاصة في أوروبا الشرقية وبريطانيا، التي تدعو إلى إعادة النظر في سياسة التساهل والباب المفتوح تجاه المهاجرين، وإلى الانتقال إلى سياسة جديدة تصل، في نهاية المطاف، إلى التراجع عن العديد من المشاريع والخطوات التي خطتها الدول الأوروبية في بناء الاتحاد الأوروبي.
الثاني، الذي يشمل النخب السياسية في بقية مناطق الاتحاد ممن تفضل السير بالمشروع الأوروبي إلى الأمام، ولكن مع شيء من التباطؤ بقصد إعطاء المجال أمام الدول بغيرها من الدول المتقدمة.
وبصرف النظر عن المشهد الأوروبي الراهن، فإن الافتقار إلى التمييز الدقيق والواعي بين مفهومي الشعبوية والديمقراطية لم يبدأ مؤخراً، بل منذ سنوات كثيرة، وكذلك فإنه لم ينحصر في منطقة معينة من العالم ومجالات محددة فيها، بل انتشر في شتى البلدان، أو المجالات، وفي أكثر الحالات على نحو يعطل الانتقال إلى النظم الديمقراطية، ومن ثم ترسيخها وتنميتها.
وخلال عقود ماضية غلب على الشعبوية الطابع الاقتصادي، كما لاحظ توماس بوتومور، أستاذ العلوم الاجتماعية البريطاني الراحل.
وشدد بوتمور على ثلاث مدارس اتبعت هذا النهج، فهناك المدرسة الروسية التي كانت تعبر إلى حد بعيد عن نزعة العداء للرأسمالية المتفشية بين الملاكين الزراعيين الروس، وقد دعا مفكرو هذه المدرسة إلى تحويل روسيا إلى دولة صناعية من دون المرور بالطريق الرأسمالي، والاعتماد على الكوميونات الروسية من أجل إقامة مجتمع مساواة مطلقة بين الأفراد
المدرسة الثانية، انتشرت في أمريكا اللاتينية بين الملاكين الزراعيين أيضاً ولكنها دعت إلى تحالف هؤلاء مع الطبقات والفئات الاجتماعية المهمشة من اجل إنجاز الانتقال إلى مجتمع صناعي ومتقدم.
أما المدرسة الثالثة، فهي التي انتشرت في جنوب الولايات المتحدة بين الملاكين الزراعيين أيضاً، ولكنها لم تصل إلى مستوى الراديكالية الذي وصل إليه نظراؤها في أمريكا اللاتينية وروسيا.
ينتمي إلى هذه المدرسة الأخيرة عدد من السياسيين الأمريكيين الذين دخلوا المجال العام، وخاضوا معارك ضد النخبة السياسية الأمريكية التي كانت تمثل المصالح المهيمنة تقليدياً على الاقتصاد وعلى المؤسسات الحاكمة.
وإلى هؤلاء ينتمي دونالد ترامب، المرشح الجمهوري للرئاسة والذي يتوقع مراقبون أن ينجح في الحصول على تبني الحزب الجمهوري له وينتمي ترامب، شخصياً، إلى فئة الرأسماليين الذين بنوا ثروتهم من المضاربات العقارية والجزء الأكبر من هذه الثروة ورثه من أبيه لكي يكمل طريقه ويضاعف ثروته.
إذاً، ترامب لا ينتمي إلى الملاكين الزراعيين الكبار الذين يشكون في الأوليغاركية الرأسمالية ويسعون إلى الحد من ثرائهاإنه بالعكس، واحد من هؤلاء ولكن ترامب الذي أتى إلى الحقل السياسي من خارجه والذي يجهل مداخله ومخارجه، والذي يفتقر في الحقيقة إلى «التسيس»، يعوض عن هذا النقص بالتعبير عن مشاعر وتطلعات الأمريكيين مثله، ومنهم الكثيرون من الملاكين الزراعيين، ومن الأمريكيين الذين ينتمون إلى الطبقتين المتوسطة والشعبية ولا يثقون بالنخبة الحاكمة في واشنطن.
إن الكثيرين من الصنف الأخير من الأمريكيين يؤيدون المرشح "الديمقراطي" الاشتراكي بيرني ساندرز، ولكن التنافس على أصوات الناخبين الأمريكيين لا يتركز في المجال الاقتصادي البحت، إذ تلعب الاعتبارات السياسية والمشاعر والتطلعات الدينية والعوامل الإثنية والعرقية والجندرية دوراً مهماً في التأثير في الناخبين الأمريكيين.
ففي دراسة أجرتها مؤسسة بيو للإحصاءات، تبين أن الأمريكيين المسيحيين البيض قد أصبحوا أقلية في الولايات المتحدة إن هذه الإحصاءات، إضافة إلى انتشار العمليات الإرهابية في المجتمعات الغربية، ولو على نطاق محدود، كل ذلك يثير مخاوف كثيرة لدى الأمريكي العادي الذي ينحدر من أصول أوروبية.
وبين هؤلاء نسبة عالية من الأمريكيين والأمريكيات من هم على استعداد للتغاضي عن العجز الديمقراطي الذي يعانيه بعض المرشحين، وعن شعبويتهم لقاء ميلهم المعلن إلى تنمية القدرات العسكرية الأمريكية، وإلى إعلانهم التزامهم بسياسة القوة من أجل محاربة أي خطر يهدد الولايات المتحدة، ودول الغرب بصورة عامة.
ينطلق أنصار الشعبوية الاقتصادية والسياسية من الاعتقاد بأن الديمقراطية لا تضمن استمرار الرفاه الاقتصادي للدول الغربية ولا أمن الغرب واستقراره لذلك يبحثون عن البدائل في أنظمة أخرى وهذه النظرة لا تنحصر في أوساط معينة في دول الغرب فحسب، بل إنها منتشرة أيضاً في المنطقة العربية أيضاً، في الأوساط الرسمية والشعبية.
والذين يعتنقون مثل هذه النظرة لا يتوقفون عند النجاحات الأمنية والاقتصادية التي حققتها الدول الديمقراطية في العالم، ولا حتى تلك التي تحققها اليوم دول تبني رخاءها وأمنها من دون أن تلجأ إلى استخدام العنف ضد الآخرين إلا في مجال الدفاع عن النفس ولكننا الآن وفي ضوء نجاح هذه التجارب، والإخفاق الشديد الذي تعانيه مجتمعاتنا في إيجاد حلول سليمة لقضايا الأمن والرفاه خارج إطار الحكومات التمثيلية، في ضوء ذلك بات من الضروري أن نراجع قناعات أخذنا بها من دون مسوغ سليم.
............................................
اضف تعليق