عمليات التطهير العرقي والقتل الطائفي المستمر في جمهورية أفريقيا الوسطى والتي ادت الى مقتل وتهجير الكثير من السكان بسبب انتشار الجماعات والمليشيات المسلحة. لا تزال محط اهتمام العديد من المؤسسات والمنظمات الإنسانية، التي تخشى من اتساع رقعة الأعمال الإجرامية والعمليات الانتقامية بين المليشيات المسيحية والمسلمة، خصوصا مع ضعف الاجراءات التي تقوم بها قوات حفظ السلام الدولية التي فشلت في منع مثل هكذا عمليات اجرامية.
وانحدرت أفريقيا الوسطى، الغنية بثرواتها المعدنية، في مارس من العام 2013، إلى دوامة من العنف، وشهدت حالة من الفوضى والاضطرابات بعد أن أطاح مسلحو مجموعة "سيليكا"، المسلمة، بالرئيس فرانسوا بوزيزي، وهو مسيحي جاء إلى السلطة عبر انقلاب عام 2003، ونَصَّبت بدلاً منه المسلم ميشيل دجوتويا كرئيس مؤقت للبلاد. وهو ما ترتب عليه ظهور ميليشيات الدفاع المدني المسيحية أو (الأنتى - بلاكا) من العناصر التابعة للرئيس المخلوع، ويدلّل هؤلاء بتعرض الكثير من المواطنين المسلمين الى أعمال ذبح بالسواطير وغيرها من قبل الميليشيات المسلحة التي تزعم أن هذه التصرفات تأتي كرد فعل على ممارسات السيليكا.
كما يدللون أيضًا بوجود حالة من الحقد بين الأغلبية المسيحية الفقيرة التي تعمل في مجال الزراعة، على الأقلية المسلمة الغنية التي تعمل في مجال الرعي والتجارة خاصة تجارة الماشية، كما أن تجارة الذهب والألماس التي تشكّل 80% من حجم اقتصاد البلاد في أيدي المسلمين. وبحسب بعض المراقبين فان هذه العمليات الاجرامية ستستمر وتتفاقم، بسبب وجود بعض المخططات والدعم الخارجي الذي تقوم به بعض الدول الكبيرة التي تسعى الى إثارة الفتن وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية، في سبيل شرعنة استمرار بقاءها وعدم المساس بمصالحها واحكام سيطرتها على القارة الافريقية بشكل عام.
جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية
وفي هذا الشأن قال تقرير للأمم المتحدة إن هناك أدلة وافرة حول ارتكاب طرفي الصراع في جمهورية أفريقيا الوسطى جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. ورغم ذلك أكد التقرير أنه من المبكر القول أن هناك تطهير عرقي أو مذابح. والتقرير الأولي أعدته لجنة تحقيق دولية كلفها الأمين العام للأمم المتحدة في يناير/كانون ثاني الماضي. وجاء في التقرير "توجد ادلة وفيرة تؤكد أن أشخاصا من كلا الطرفين ارتكبوا عمدا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات للقانون الدولي".
وحذر التقرير من أنه في حالة عدم تدخل المجتمع الدولي بإرسال المزيد من قوات حفظ السلام إلى البلاد قد يتدهور الوضع بشكل سريع وتنزلق البلاد إلى حملات من التطهير العرقي والمذابح. من جانبها اعترضت منظمة العفو الدولية على ما جاء في التقرير. وقالت جوان مارينر "أود أن أقول إن التقرير يتجاهل الحقيقة الواضحة وهي أن عمليات التهجير القسري واسعة النطاق للمسلمين في أفريقيا كانت هدفا لعمليات العنف لا أحدى نتائجها". وأكد مارينر أن الأمر ليس سرا حيث تعلن الميليشيا المسيحية أنها تنوي قتل أو ابعاد المسلمين من المناطق التي تسيطر عليها.
وحصلت القوات الدولية على تفويض لحماية المدنيين، والبعثات الإنسانية، والحفاظ على النظام. وكانت منظمة هيومان رايتس ووتش قد أكدت قبل أشهر وجود عمليات تطهير عرقي في أفريقيا الوسطى موجهة اللوم للمجتمع الدولي علي عدم تدخله لوقف ما يجري. وصوت مجلس الأمن بالأمم المتحدة على إرسال قوة عسكرية قوامها 12 ألف جندي إلى جمهورية إفريقيا الوسطى.
ويخول قرار مجلس الأمن الصادر بالإجماع ألفي جندي فرنسي البقاء للعمل مع قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جمهورية إفريقيا الوسطى. وأدى الصراع الدائر هناك إلى مقتل آلاف الأشخاص، كما يحتاج نحو 1.3 مليون شخص، يمثلون ربع عدد السكان تقريبا، إلى مساعدات.
ويُستهدف مدنيون مسلمون من قبل مليشيات مسيحية انتقاما من سيطرة المتمردين وأغلبهم مسلمون يعرفون باسم السيليكا، على السلطة العام الماضي.
وكانت فرنسا قد أرسلت بالفعل ألفين من جنودها إلى إفريقيا الوسطى، التي كانت مستعمرة فرنسية في السابق، بالإضافة إلى وجود قوة أخرى تابعة للاتحاد الإفريقي قوامها ستة آلاف جندي. ويخول القرار الدولي القوات الفرنسية "استخدام كل الوسائل الضرورية" لتقديم الدعم لقوات الاتحاد الإفريقي هناك. كما يمنح القوات التابعة للأمم المتحدة تفويضا لحماية المدنيين، والبعثات الإنسانية، والحفاظ على النظام، ودعم الانتقال السياسي في البلاد.
متاهة تقسيم البلاد
على صعيد متصل رفض متمردو ميلشيا سيليكا في جمهورية أفريقيا الوسطى اتفاق وقف إطلاق النار مطالبين بتقسيم البلاد بين المسيحيين والمسلمين. وقال القائد العسكري لسيليكا يوسف زونديكو إن قواته ستتجاهل اتفاق وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه. وأضاف أن الاتفاق تم إبرامه من دون إعلام صحيح بتفاصيله للجناح العسكري لتحالف سيليكا السابق.
وكان نحو ربع سكان أفريقيا الوسطى البالغ عددهم 4.6 مليون نسمة قد اضطروا الى النزوح من ديارهم. وقد وقع اتفاق سلام بين ممثلين عن ميلشيا السيليكا المسلمة وميلشيا "انتي بالاكا" المسيحية في عاصمة الكونغو،برازافيل. وأجبر المسلمون على النزوح من العاصمة ومعظم أجزاء البلاد الغربية، فيما وصفته جماعات حقوقية بعملية تطهير عرقي. وأتهم كلا الجانبين بارتكاب جرائم حرب مثل التعذيب وعمليات القتل غير القانونية.
وطالب الميجر جنرال زوديكو بتقسيم مجمل البلاد إلى قسمين، مشددا على أن جمهورية أفريقيا الوسطى لم تعد دولة -أمة. وحض زونديكو على تقسيم فوري للبلاد بين الجنوب المسيحي والشمال المسلم. وقد فر عشرات الآلاف من المسلمين من جنوب البلاد، كما تتواصل الهجمات يوميا في المناطق الريفية في البلاد. وألقى الميجر جنرال زونديكو باللائمة على من سماهم "أخواننا المسيحيين" في جعل السلام مستحيلا، لكنه رفض أن يوضح بالضبط الكيفية التي ينبغي أن يتم تقسيم البلاد على وفقها. بحسب بي بي سي.
وكان اتفاق وقف إطلاق النار يقضي في إحدى فقراته أن يتخلى السيليكا عن مطلبهم بتقسيم البلاد. وكانت الاضطرابات بدأت في أفريقيا الوسطى، وهي من أكثر دول افريقيا فقرا، عندما سيطر متمردون مسلمون على السلطة في البلاد في مارس/آذار من العام الماضي. وردت الأغلبية المسيحية، التي اتهمت ميلشيا السيليكا المسلمة بارتكاب انتهاكات وجرائم، بتشكيل ميليشيات من المتطوعين (اطلق عليها اسم "انتي بالاكا") قامت بدورها باعمال انتقامية مماثلة. واسفر العنف عن نزوح الملايين من السكان، ولجوء مئات الألوف من المسلمين خاصة إلى الدول المجاورة.
زواج قسري واغتصاب
في السياق ذاته أدى وجود الجماعات المسلحة واستمرار القتال الذي تسبب في موجات نزوح في أنحاء جمهورية أفريقيا الوسطى إلى تصعيد انعدام الأمن في البلاد، مما جعل النساء والفتيات عرضة للزواج القسري والعنف الشديد، بما في ذلك الاغتصاب. وعلى الرغم من الالتزامات التي تعهدت بها الحكومات ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية مؤخراً لوضع الأولوية لحماية النساء والفتيات من العنف الجنسي والجسدي، إلا أن الجهود المبذولة حالياً في جمهورية أفريقيا الوسطى لا تزال تعاني من نقص التمويل. ففي العاصمة بانغي، تتمتع أقل من ثلث العيادات والمراكز الصحية في مواقع إقامة النازحين بالوسائل المناسبة لمساعدة الناجين من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، قالت إليزابيث روش، منسق الطوارئ لقطاع حماية المرأة وتمكينها في لجنة الإنقاذ الدولية: "لا توجد تقريباً أية آليات حماية، كما أن الخدمات الأساسية مثل المساعدات الطبية والاستشارات محدودة في المواقع العفوية التي تتجمع بها النساء والفتيات المشردات". ومنذ افتتاح مركزين للمرأة في بانغي ساعدت المنظمة أكثر من 600 امرأة على التعافي من حوادث العنف، أصغرهم تبلغ خمس سنوات فقط من العمر. ومن بين هؤلاء، تعرض الثلثين للاغتصاب، كما تعرض غالبيتهن للاغتصاب من قبل جناة متعددين.
وقال الدكتور أرميل ينجبا في عيادة بادري بيو التي تقع على أطراف بانغي: "تتعرض الجدات للاغتصاب أمام أحفادهن والأطفال أمام آبائهم. كما تعرضت الكثير من النساء للاغتصاب من قبل جناة متعددين وبعضهن في أكثر من حادثة." وأضاف قائلاً: "توجد فتاة هناك تبلغ من العمر سبع سنوات فقط. نعتقد أنها تعرضت للاغتصاب."
وغرفة الانتظار خارج مكتب ينجبا مكتظة بالنساء حيث تنتظر الجدات وطالبات المدارس والأمهات وبناتهن الصغيرات دورهن بصبر. وفي اليوم العادي، تقوم العيادة بمعالجة 10 إلى 25 امرأة تعرضت للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي. وقال ينجبا: "بالنسبة للكثيرات منهن، تعتبر هذه هي المرة الأولى التي يذهبن فيها لزيارة طبيب. فببساطة لم تتاح لهن هذه الإمكانية من قبل. وقد حضرت الكثيرات بصورة تلقائية حتى من قبل أن نقوم بالإعلان عن أنفسنا. ويوضح هذا مقدار الطلب للحصول على هذا النوع من الخدمات".
وداخل العيادة، تحصل النساء على فحوصات طبية وجسدية ويتم اختبارهن للأمراض المنقولة جنسياً والحمل. كما يقدم المركز الطبي الصغير الاستشارات للنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب. ولكن الموارد تبقى محدودة. وأضاف ينجبا قائلاً: "هذا أحد المراكز الصحية القليلة في بانغي التي تساعد ضحايا الاغتصاب. نحن نكافح لعلاج جميع النساء اللاتي يأتين إلى العيادة."
وتعتبر الحماية من العنف، بما في ذلك العنف القائم على النوع الاجتماعي، أولوية قصوى للاستجابة الإنسانية. ولكن في بانغي، يتلقى 19 مركزاً فقط من أصل 44 للنازحين داخلياً خدمات الاستجابة المباشرة للعنف القائم على النوع الاجتماعي والتوعية بشأن هذه القضية. وغالباً ما تكون الجهود المستهدفة، بما في ذلك الخدمات الطبية المنقذة للحياة، وخدمات الدعم النفسي والاجتماعي وبرامج التمكين الاقتصادي للحماية من الاستغلال الجنسي، غير كافية أو غير متوفرة.
أطفال في طريق مجهول
الى جانب ذلك أجبرت أعمال العنف في جمهورية أفريقيا الوسطى نحو 97,000 مدني على الفرار عبر الحدود إلى تشاد. ومن بين هؤلاء الفارين كان 1,200 طفل غير مصحوبين بذويهم أو منفصلين عنهم، وهم يتوقون الآن للعثور على أسرهم والعودة إلى المدارس وإلى الأمان، أو على الأقل إلى بعض مظاهر الحياة الطبيعية. وقال لامين، 12 عاماً: "أكثر شيء أرغب فيه هو العثور على والديّ...لا أعرف إذا كانوا على قيد الحياة أم لا. إذا عرفت ذلك... يمكنني على الأقل أن انتقل".
وقد لاقت المحاولات الرامية إلى مساعدة الأطفال على العودة إلى أسرهم بعض النجاح، فقد نجحت الجهود المشتركة ببين منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، ووزارة العمل الاجتماعي والمنظمات غير الحكومية في تشاد، بما في ذلك الصليب الأحمر التشادي، ومنظمة كير، والمنظمة الدولية للهجرة، في لم شمل 442 طفلاً من بين إجمالي الأطفال المسجلين حتى الآن الذين يبلغ عددهم 946، باستخدام الصور الشخصية في عمليات عبر الحدود.
وينتشر معظم الأطفال عبر مخيمات مختلفة في جنوب تشاد من بينها دويابا وموندو ودوبا ودانامادجا. ولكن منظمة اليونيسف ترى أنه لا يزال هناك المزيد من الأطفال المنفصلين عن ذويهم أو غير المصحوبين بذويهم، الذين لم يتم تسجليهم بعد. ويعيش العديد من هؤلاء الذين لا يزالون في المخيمات في خيام جماعية يشرف عليها أخصائيون اجتماعيون تابعون للحكومة أو موظفون من المنظمات غير الحكومية، حيث تقوم النساء بطهي الأرز والمرق لهم.
كما يلقى هؤلاء الأطفال دعماً نفسياً واجتماعياً. ويقيم حوالي 360 طفلاً مع عائلات مضيفة – الجيران الذين يعرفونهم من جمهورية أفريقيا الوسطى، أو في بعض الحالات في أسر تبنت رعايتهم. ويذكر أن أعمال العنف اندلعت فجأة في المدن والقرى في جمهورية أفريقيا الوسطى لدرجة أنها لم تتح وقتاً لحدوث عملية نزوح مخططة. فقد هرع الناس ببساطة وسط الفوضى، وفي كثير من الأحيان انقسم أفراد الأسرة الواحدة حيث فر بعضهم إلى الكاميرون، أو حتى جمهورية الكونغو الديمقراطية، في حين فرّ آخرون إلى تشاد.
وبعض هؤلاء الأطفال فروا بعد مقتل آبائهم أمام أعينهم. وتعليقاً على هذه الأحداث، قال عبد الكريم، 17 عاماً، من بانغي في جمهورية أفريقيا الوسطى، الذي يقيم الآن في مخيم دويابا "افتقد عائلتي أكثر من أي شيء آخر – افتقد والدتي. عدت من المدرسة وشهدت حدوث مذبحة. كان عناصر مكافحة البالاكا يمسكون المناجل. لقد قطعوا ساقي...ولم أجد أمي. لذا جئت إلى هنا". ويذهب الأطفال ممن هم في سن المدرسة الابتدائية في دويابا إلى مدرسة مؤقتة أنشأها سكان المخيم، ولكن طلاب المدارس الثانوية لا يجدون خيارات للدراسة. وقال عبده عزيز طارق، 17 عاماً "أرغب في الدراسة مرة أخرى... لقد فقدت التعليم قبل الحرب. إذا استطعت أن أدرس فسوف يصبح بإمكاني أن أجعل قيمة لحياتي".
اضف تعليق