في ظل تفاقم الخلافات والازمات الداخلية بين دول الاتحاد الاوربي، والتطورات المهمة التي حدثت في الفترة الاخيرة ومنها قضية عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وغيرها من المشاكل والاحداث، سعت الولايات المتحدة الامريكية التي تخشى من تفكك الاتحاد الأوروبي في هذا الوقت بذات، الى اتخاذ خطوات مهمة من اجل دعم أوروبا قوية ومستقرة، وهو ما سينعكس بشكل ايجابي على الولايات المتحدة، التي تسعى الى تأمين مصالحها الخاصة وتعزيز دورها العالمي، من خلال بناء تحالفات اقتصادية وعسكرية قوية كما يقول بعض المراقبين، الذين اكدوا على ان اي خلل سيؤثر سلبا على الشراكة الاستراتيجية القوية بين امريكا والاتحاد الأوربي، وهو ما سيصب في مصلحة وروسيا التي تسعى هي الاخرى الى إعادة هيبتها كقوة عظمى وشريك اساسي في اتخاذ القرار.
وفي هذا الشأن قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن الولايات المتحدة تحتاج لأوروبا قوية ومتحدة للحفاظ على النظام العالمي وحث حلفاءه الأوروبيين على زيادة الإنفاق العسكري لمواجهة تنظيم داعش وتهديدات أخرى. وفي ختام زيارة لألمانيا تركزت على تعزيز الروابط التجارية ناشد أوباما الأوروبيين أن ينظروا لأبعد من الأزمات العديدة التي تواجهها دولهم والحفاظ على وحدتهم التي حققت السلام في القارة.
جاءت تصريحاته بعد زيارة للندن حث فيها بريطانيا على البقاء داخل الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة داعما جهود رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لتجنب خروج بلاده من الاتحاد إذ يحذر معارضو خروج بريطانيا من الاتحاد من أنه قد تكون له عواقب سياسية واقتصادية مدمرة. وقال أوباما "جئت إلى هنا اليوم إلى قلب أوروبا لأقول إن الولايات المتحدة والعالم بأسره يحتاجان إلى أوروبا قوية ومزدهرة وديمقراطية ومتحدة."
وقال أوباما إن المخاوف المتعلقة بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتباطؤ النمو الاقتصادي خاصة في جنوب أوروبا أثارت الشكوك بشأن تكامل القارة وأوجدت سياسات مدمرة أججت الخوف من المهاجرين وأصحاب الأديان الأخرى. وكان تدفق اللاجئين الفارين من الحرب الدائرة في سوريا قد زاد التوترات داخل الاتحاد الأوروبي وشكل ضغوطا على المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي أضرت سياسة الأبواب المفتوحة التي انتهجتها في بادئ الأمر بوضعها السياسي.
وقال أوباما "هذه لحظة حاسمة وما يحدث على هذه القارة له عواقب على شعوب العالم"، وأضاف "إذا بدأت أوروبا الموحدة السلمية الليبرالية ذات السياسات التعددية وسياسات السوق الحرة تشكك في نفسها وتشكك في التقدم الذي تم إحرازه في العقود الماضية فإننا لا يمكننا أن نتوقع أن يستمر التقدم الذي بدأ في العديد من المناطق في أرجاء العالم." بحسب رويترز.
ويحتاج أوباما لدعم حلفائه الأوروبيين للتعامل مع تحديات السياسة الخارجية في روسيا والشرق الأوسط وأعلن في كلمته في هانوفر عن نشر قوات إضافية قوامها 250 جنديا في سوريا. لكنه قال إن أوروبا بشكل عام يمكنها عمل المزيد لتعزيز دفاعاتها وقتال تنظيم داعش. وكرر دعوته للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لزيادة مساهماتهم.
خروج بريطانيا
الى جانب ذلك وفي وقت كان العمل جاريا على ازالة اجواء الشك التي تعرقل المفاوضات للتوصل الى اتفاق للتبادل التجاري الحر بين الولايات المتحدة واوروبا، جاء احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ليضع عقبة اضافية امام هذه المفاوضات. وقبل شهرين من الاستفتاء الذي سيتقرر فيه المستقبل الاوروبي لبريطانيا، ازدادت الضغوط على المفاوضين الذين باشروا جولتهم ال13 من المحادثات في نيويورك.
ولم يتغير الهدف من المفاوضات منذ اطلاق المحادثات قبل نحو ثلاث سنوات: الغاء الحواجز القانونية والتجارية بين جانبي الاطلسي لاعطاء دفع للنشاط الاقتصادي. الا ان احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، وهي التي تعتبر قوة اقتصادية كبيرة جدا، لا يمكن الا ان يلقي بظله على هذه المحادثات ذات الطابع التقني جدا، والتي تجري بين الممثلية الاميركية للتجارة الخارجية والمفوضية الاوروبية.
ويرى بعض الخبراء ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ستكون له تداعيات كارثية على اتفاق التبادل التجاري الحر الجاري النقاش حوله، لان معارضي التوصل الى هذا الاتفاق يعتبرون انه سيؤدي الى نوع من الفوضى المعممة، فكيف اذا ترافق ايضا مع الخروج البريطاني. ويقول المسؤول السابق في وزارة الخزانة الاميركية غاري هافباور "في حال قرر البريطانيون الخروج من الاتحاد الاوروبي، ستكون الضربة القاضية للمحادثات حول اتفاق التبادل التجاري الحر"، مضيفا "لن يكون عندها بالامكان المضي قدما، لان الشكوك ستصبح كبيرة جدا".
الا ان الباحث في مجلس العلاقات الخارجية ادوارد الدن لا يبدو متشائما الى هذه الدرجة، وان كان يعتبر ان انتصار ال"نعم" في الاستفتاء المرتقب حول خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، سيبعد عن الواجهة تماما المفاوضات التجارية بين الكتلتين الكبيرتين. وقال "ستكون هناك في هذه الحالة امور اكثر الحاحا بحاجة لتسوية. الجميع سيحاولون فهم العلاقة الجديدة التي ستقوم بين بريطانيا واوروبا. وسيعاد النظر بكل شيء".
لكن خطر خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي قد يعطي على المدى القصير دفعا لهذه المحادثات التي تثير انطباعا ثابتا بانها تتعثر رغم التاكيدات الرسمية بانها "بناءة". وقال المساعد السابق لوزير الخارجية الاميركي للشؤون الاوروبية دانيال هاملتون ان الطرفين "سيحتاجان عندها لاشارات ملموسة عن تقدم الامور، وسيعملان على تسريع المحادثات في محاولة للتأثير على النقاش الجاري حاليا في بريطانيا". بحسب فرانس برس.
وحسب هذا الخبير في جامعة جون هوبكينز، فان الاميركيين والاوروبيين سيتفقون قبل الاستفتاء على اصدار بيان مشترك يشير الى حصول تقدم، مع ان هذا الامر "سيبدو غريبا الى حد ما في خضم مفاوضات تجارية". ويقول هافباور في الاطار نفسه "قد يستخدم هذا الامر لمساعدة معسكر بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الاوروبي على تحسين حججه". وسيكون المطلوب عندها اقناع البريطانيين بالبقاء داخل الاتحاد الاوروبي للاستفادة من المكاسب المفترضة من اتفاق التبادل التجاري الحر، وان اي حل آخر لا بد ان يوصل الى المأزق.
الشراكة الاطلسية
على صعيد متصل يمثل مشروع "اتفاقية الشراكة الاطلسية للتجارة والاستثمار" الجاري التفاوض بشأنه بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ورشة عمل هائلة، يقوم اول هدف لها على توحيد لوائح وأنظمة التبادل بين الكتلتين العظميين. وتهدف هذه الشراكة أولا إلى تحسين عائدات الشركات والعاملين فيها نظريا، عبر زيادة حجم المبادلات الكبيرة اصلا بين الشريكين، فالولايات المتحدة على سبيل المثال تصدر في الوقت الحالي كل يوم بضائع تزيد قيمتها على 700 مليون دولار الى اوروبا.
وقالت المفوضة الاوروبية للتجارة سيسيليا مالمستروم في 2015 ان الشراكة "توفر امكانيات كبيرة في مجال خلق الوظائف والنمو". وقدرت دراسة نشرها في 2013 مركز ابحاث السياسة الاقتصادية في لندن، المكاسب السنوية للاتحاد الاوروبي من هذه الشراكة بـ119 مليار دولار، ومكاسب الولايات المتحدة ب 95 مليار دولار. وتنطوي الشراكة على شق اضافي غير معلن ولكنه شديد الاهمية: اذا اتفقت الولايات المتحدة واوروبا على اطار تجاري بينهما فهناك فرصة لفرضه لاحقا على آخرين.
وقال المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي "اذا فعلنا ذلك سنكون سباقين في ارساء معايير عالمية. سيتعين على الكوريين واليابانيين والصينيين التكيف مع القواعد الاورو-اميركية". لكن الولايات المتحدة ابرمت اتفاقا اخر مع شركائها الاسيويين والاميركيين في اطار اتفاقية الشراكة في المحيط الهادىء والتي تسعى الى تحقيق الاهداف نفسها. وتغطي الاتفاقية نطاقا واسعا تلخصه المفوضية الاوروبية التي تتفاوض عن القارة العجوز في ثلاثة مستويات لكل منها تاثيره على المبادلات التجارية بشكل عام، وعلى الشركات وعلى المواطنين.
ويتعلق الشق الأول في "الوصول الى السوق" ويعنى بازالة او خفض الرسوم الجمركية على البضائع وتسهيل دخول شركات الخدمات الى الاسواق الخارجية وافساح المجال امام الشركات للدخول في المناقصات العامة والعمل على ضمان عدم تطبيق هذه الأنظمة واللوائح الا على المنتجات المصنعة في أوروبا والولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثال ترغب الولايات المتحدة في تسوية مسألة الرسوم الجمركية المتعلقة بزيت الزيتون اذ يدفع المنتجون الاميركيون 1680 دولارا كرسوم جمركية لكل طن يصدر الى الاتحاد الاوروبي في حين يدفع المنتجون الاوروبيون 34 دولارا فقط. والشق الثاني محوره "التعاون في مجال الأنظمة واللوائح" وهي ورشة عمل كبيرة لتوحيد الأنظمة واللوائح وتسهيل عمل الشركات التي يفترض تجنيبها الامتثال لعدد هائل من الضوابط والأنظمة المختلفة حتى تتمكن من ايصال منتجاتها الى السوقين الاميركية والاوروبية. وتشمل هذه القوائم انظمة الامن والمراقبة وملصقات البضائع. وفي اطار هذا الشق تدور مفاوضات حساسة حول سلامة الأغذية واستخدام المبيدات او حتى السماح او عدم السماح بلحم العجول التي تربى على الهرمونات.
ويتناول الشق الثالث اعتماد "انظمة" في مجالات شديدة الحساسية مثل الملكية الفكرية والمنشأ الجغرافي للمنتجات الغذائية او آليات حل النزاعات. هذا الملف هو الذي يعني الضوابط الحالية التي تحمي بعض المنتجات الاوروبية مثل الاجبان واللحوم وغيرها. وتسير المفاوضات ببطء شديد وتشمل مجالات تعني كل السكان وتواجه معارضة. ولا يترك توق باراك اوباما لابرام اتفاق قبل نهاية السنة هامشا كبيرا للمناورة. بالإضافة إلى ذلك، يبدي بعض الدول الاوروبية المزيد من الشكوك وعلى رأسها المانيا التي تنضم اليها فرنسا في حين يتراجع التأييد لها في جانبي الاطلسي.
وقال وزير الدولة الفرنسي للتجارة الخارجية ماتياس فيكل "نحن نبتعد" عن التوصل لاتفاق. وحذر وزير الاقتصاد الالماني سيغمار غابرييل من ان الاتفاق "سيفشل" من دون تقديم واشنطن تنازلات رافضا تأييد النصوص الحالية التي لخصها بقوله انها تعني "اشتروا البضائع الاميركية". ويشهد المجتمع المدني حراكا ضد الاتفاقية التي تعارضها منظمات غير حكومية واتحادات مهنية وناشطون يهاجمونها من كل الجهات سواء في مجال سلامة الأغذية والدفاع عن المزارعين والأنظمة الاجتماعية والبيئية والملكية الفكرية والخدمة العامة او سيادية القرارات الحكومية التي يمكن ان يتاح للشركات الطعن بها عدا عن المخاوف من تراجع القدرة الصناعية وخفض الاجور. بحسب فرانس برس.
في هذا الاطار، تظاهر عشرات الالاف في المانيا السبت احتجاجا على الشراكة الاطلسية، واخيرا فان الانتخابات الوطنية تدفع باتجاه تشديد الخطاب والمواقف، دونالد ترامب وبيرني ساندرز وحتى هيلاري كلينتون انتقدوا المشروع. وفي فرنسا شددت كل الطبقة السياسية لهجتها قبل سنة من الانتخابات الرئاسية.
اضف تعليق