العلماء الصينيّون الذين نالوا شهادات الدكتوراه بالخارج ثم عادوا إلى الصين، في إطار البرنامج الذي أطلقته الحكومة لتحفيز المواهب، نشروا بعد عودتهم إلى الوطن دراسات أكثر من تلك التي نشرها أقرانهم في المَهجَر. وهذه الزيادة في إنتاجية الباحثين العائدين يمكن أن تُعزَى إلى أن التمويل المتاح لأبحاثهم أكبر...
بقلم: دياني لويس
العلماء الصينيّون الذين نالوا شهادات الدكتوراه بالخارج ثم عادوا إلى الصين، في إطار البرنامج الذي أطلقته الحكومة لتحفيز المواهب، نشروا بعد عودتهم إلى الوطن دراسات أكثر من تلك التي نشرها أقرانهم في المَهجَر. وهذه الزيادة في إنتاجية الباحثين العائدين يمكن أن تُعزَى إلى أن التمويل المتاح لأبحاثهم أكبر، إضافةً إلى وفرة الأيدي البحثية العاملة، وفقًا لما ذهبت إليه دراسة تحليلية نُشرت في دوريّة «ساينس» Science (D. Shi et al. Science 379, 62–65; 2023). تخرج هذه النتائج إلى النور في وقتٍ يحتدم فيه التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين.
في عام 2008، شرعت الصين في تحفيز علمائها وباحثيها المغتربين على العودة إلى بلادهم، وكان ذلك من خلال «خطة الألف موهبة»، التي تهدف إلى جعل الأمة الصينيّة رائدة في مجالي العلوم والتكنولوجيا على مستوى العالم.
ورغم المكانة العالية التي حظي بها هذا البرنامج، نظرَت إليه الجهات الحكومية في الولايات المتحدة ودول أخرى بعين الريبة، بالنظر إلى أنه كان يحمل فرصة واعدة لزيادة تدفُّق المعرفة التقنية على الصين. وفي عام 2018، أطلقت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، «مبادرة الصين»، بُغية حماية المختبرات والمؤسسات التجارية الأمريكية من التجسّس. وفي العام نفسه، عَدَلَتْ الصين عن الإفصاح عن أسماء متلقّي مِنَح «خطة الألف موهبة»، لتلافي ما قد يكون لذلك من تأثيرٍ سلبي في المسيرة المهنية لأولئك الذين اقترنت أسماؤهم بالبرنامج.
تركّز دراسة دوريّة «ساينس» على فرع بعينه من البرنامج، هو الذي يُشار إليه باسم «خطة الألف موهبة شابّة» (أو بالاختصار «واي تي تي» YTT)، والذي يهدف إلى استقطاب الباحثين الذين هم في مطلع مسيرتهم المهنية إلى مناصب صينية. ويقدم هذا البرنامج عروضًا سخية: من فُرَص عمل في مجال البحث العلمي، وراتب تنافسي بالمقاييس العالمية، وتمويل للشركات الناشئة. وبالفعل، خلال الفترة الواصلة بين عامي 2011 و2017، عندما كانت السجلّات لا تزال مُعلَنة، قدَّم البرنامج مِنَحًا لأكثر من 3 آلاف باحث.
معيار النجاح
لقياس مدى نجاح البرنامج، درس مؤلّفو الدراسة أكثر من 300 باحث صيني شابّ كانوا قد نالوا شهادات الدكتوراه بالخارج، ثم أتبعوها بمِنَح «خطة الألف موهبة» بين عامي 2012 و2014، وعادوا إلى الصين ليَشْغلوا وظائف أكاديمية فيها.
وجد المؤلّفون أن ترتيب متلقّي المنح جاء ضمن الـ15% الأعلى من حيث عدد المنشورات خلال السنوات الخمس التي سبقت عودتهم إلى الصين، وذلك عند قياس إنتاجيتهم إلى إنتاجية جميع العلماء الذين هم في مطلع مسيرتهم المهنية في الولايات المتحدة (بصرف النظر عن أصولهم وجنسيّاتهم). ومن هنا استنتج مؤلفو الدراسة أن برنامج «خطة الألف موهبة» كان ناجحًا في جذب العلماء المؤهَّلين تأهيلًا ممتازًا.
ولكن، على الجهة المقابلة، لاحظ المؤلفون أن ترتيب العلماء الذين رفضوا عروض المشاركة في البرنامج، وظلّوا يعملون خارج البلاد، كان أعلى من هؤلاء؛ إذْ جاء ترتيبهم ضمن الـ10% الأعلى من حيث الإنتاجية البحثية خلال السنوات الخمس التي سبقت موعد عودتهم المفترض. يُضاف إلى ذلك أن هذه الفئة الأخيرة (علماء المهجر) قد ارتفعت بينهم نسبة مَن يؤدي دور المؤلف الأخير للأوراق التي نُشرت في كُبريات الدوريات العلمية؛ دلالةً على علوِّ قدرهم البحثي في ميادين عدَّة. وتعتقد كاثلين فوجل، الباحثة في مجال السياسات العامة بجامعة ولاية أريزونا الكائنة في مدينة تمبي، أن السبب الرئيس وراء النتائج التي توصّل إليها مؤلّفو الدراسة إنما يكمن في صعوبة إقناع خيرة الباحثين بترك مؤسسات النخبة التي يعملون فيها، والتي لا يعُوزهم فيها التمويل ولا الموارد.
دَفعة للإنتاجية
خلال الفترة التي امتدَّت حتى سبع سنوات من تاريخ عودة العلماء المشاركين في برنامج «خطة الألف موهبة» إلى الصين، نلاحظ أن إنتاجيّتهم قد ارتفعت، إذا ما قورنَتْ بإنتاجية نظرائهم الذين ظلّوا في الولايات المتحدة. فقد نشر العائدون أوراقًا بحثية أكثر بنسبة 27%، أي ما يعادل – في المتوسط – ورقة بحثية إضافية واحدة كل عامٍ تقريبًا، ويشمل ذلك ما نشروه في دوريّاتٍ تصنَّف ضمن الـ10% الأفضل في مجالها، وفقًا لقول يانبو وانج، التي شاركت في تأليف الدراسة، وتعمل بجامعة هونج كونج.
أضف إلى ذلك أن نسبة من يؤدي دور المؤلف الأخير للأوراق البحثية بين العائدين قد ارتفعت خلال تلك الفترة، خلافًا لحال علماء المهجر، وهو ما يشير إلى أن العلماء المنضوين تحت برنامج «خطة الألف موهبة» أثبتوا قدرةً أكبر على تشكيل مسيرة مهنية مستقلة، بوصفهم رؤساء الفرق البحثية الخاصة بهم، بحسب رأي وانج.
ويبدو أن الدافع الرئيس وراء المكتسبات التي حققها علماء الداخل الصيني على صعيد الإنتاجية هو توافُر التمويل والعاملين في مجال البحوث: فمتى أُخِذَ التمويل وحجم الفريق البحثي في الحسبان، زالت المعوقات التي تؤثر بالسلب في معدلات النشر العلمي. تقول وانج: "للمنح البحثية أهمية كبرى حقًا".
كان تأثير توافر التمويل أوضح في مجالاتٍ شملَتْ أبحاث البيولوجيا، والطب، والكيمياء، باعتبار أن إجراء البحوث في هذه المجالات كثيرًا ما يتطلّب أجهزة باهظة الثمن، وعددًا كبيرًا من المشاركين. وذكر مؤلّفو الدراسة أن برنامج «خطة الألف موهبة» عاد بالنفع على "المغتربين الشباب، الذين كانت لديهم المؤهلات لإدارة المختبرات الخاصة بهم لإجراء بحوث مستقلة، لكن عازهم التمويل اللازم لذلك". وتقول وانج إن على صنّاع القرار في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يعالجوا في دولهم مشكلة نقص تمويل الباحثين الذين هم في مطلع مسيرتهم المهنية، كي يتمكّن العلماء من بناء مسيرات مهنية مستقلة.
أما ليلي يانج، وهي باحثة بجامعة هونج كونج متخصصة في سياسات التعليم العالي، وكانت قد قاست هي الأخرى إنتاجية العلماء المشمولين في برنامج «خطة الألف موهبة»، فتقول إن هذه النتائج المتوصَّل إليها "تثير اهتمامًا بالغًا"، وترسم صورة دقيقة للأدوار التي يضطلع بها العلماء العائدون من المهجر.
نُشرَتْ هذه الدراسة في وقتٍ يشتد فيه التوتُّر بين الولايات المتحدة وبين الصين. وهذا التوتّر يؤثّر كذلك في قرارات الباحثين فيما يخصّ الدولة التي سيعملون فيها، على حد قول يانج، التي تقول: "ترتفع نسبة العائدين إلى الصين على خلفية هذه التوترات، وهو ما يصبُّ في مصلحة البحث العلمي في الصين على المدى القصير".
ولكن هناك باحثة أخرى، هي تشينفانج وانج، عالمة الجغرافيا بجامعة كاليفورنيا في مدينة ريفرسايد، تقول إن بحثها في سبب عودة العلماء، ومن بينهم أولئك المشاركون في برنامج «خطة الألف موهبة»، يشير إلى أن الباحثين لا يتقدمون لطلب مِنَح التمويل التي يقدمها برنامج «خطة الألف موهبة» إلا بعد أن يكونوا قد قرَّروا سلفًا الانتقال إلى الصين؛ ما يجعل من غير الواضح مدى فعالية هذا البرنامج في تحفيز الباحثين على العودة إلى بلادهم.
ترى وانج أن التركيز على عدد الأبحاث المنشورة بوصفه مقياسًا لقيمة البرنامج يُغفِل مؤشرات أخرى على النجاح العلمي، من أمثال القدرة على إنماء التفكير الإبداعي، والابتكار، والبحث متعدد الاختصاصات، وهي أمور أصعب على القياس، مضيفةً أن الغاية ليست إنتاج "آلات نشر" بشرية، حسب وصفها. واتساقًا مع هذا الرأي، أصدرت وزارة العلوم والتكنولوجيا ووزارة التعليم الصينيَّتان في عام 2020 إرشادات لتقليل اعتماد المؤسسات على كثابة النشر معيارًا لتقييم الأداء البحثي.
اضف تعليق