q

في اربعين الإنتصار, جميع القلوب تهفو الى كعبة العشق كربلاء تجدد الحزن والولاء وتدندن قصيدة الوفاء الموعود لظهور الذي سينادي ويزلزل كيان الأرض, بـ جملة "يا لثارات جدي".

تقدمت انا وأصحابي الثلاث بكل فخر نتلذذ من ارتشاف كأس التعب, نخطو جادة المجد قاصدين الحسين, بعدما كافئني الله لتوسلاتي بمولاي الحسين ورزقني ذرية صالحة, أشعر وكأن الارض تقبل انامل الزوار, ويعزف الهواء من حولهم معزوفة الوفاء, وكأن الطبيعة تشارك في هذه الشعيرة, وتحيي الوعد, وتجدد ولائها وهي تردد هنيئا لكم يا زائرين الحسين.

تشع المواكب نور الخدمة على طول الطريق, فلو ارتفعت عن مستوى الارض قليلاً لوجدت الارض تنبسط لتلك الجادة التي تنتهي الى المحب.

ساعتي تشير الى الثانية بعد منتصف الليل توقفنا عند عمود الكهرباء نتأمل الطريق, ورائحة الدخان تسكر القلب قبل العقل, وذلك البدر الذي يتوسط السماء وكأنه يحسدنا على اللقاء الذي سجمعنا بالحبيب والأجر الذي سسنعود به الى الوطن.

الجو كان بارداً جدا, فشعرت بأني أخذت القرار الصحيح عندما تركت عائلتي ولم أصطحبهم معي الى الزيارة, فطول الطريق كان من الممكن أن يعرضهم للتعب, كما إن قسوة الجو كان من المحتمل أن يسبب لهم الزكام.

وانا في مسيري الى المحبوب, رأيت ما اذهلني عن حق وحقيقة, أطفال يجلسون في حافات الطريق يحملون على رؤوسهم أواني الطعام, يقدمونها الى زائرين الحسين بكل حب وإعتزاز, تسائلت مع نفسي هل الأهالي لايخشون على أطفالهم قسوة الجو وثقل هذا الإناء!.

سرت خطوات أكثر لأرى تجمع من الشباب يشبهون الجنة, دنوت منهم أكثر لأرى ماذا يفعلون او بالأحرى ماذا يقدمون لزائرين الحسين, فصعقني الموقف!, شباب بكامل العز والتواضع يجلسون على الارض, تاركين غرور الدنيا ومنشغلين في تنظيف أحذية الزائرين!, دمدمت مع نفسي قائلاً, ماذا فعل حب الحسين فيهم ليفعلوا كل هذا, هنيئاً لكم يا خدام الحسين.

دنوت من أحدى الخيام لنقضي ليلتنا فيها, فوجدتها تغص بالزوار, عدت أدراجي لأنتقل الى خيمة أخرى, فجأة توقفت سيارة نزل منها رجلٌ أشيب الشعر, يبدو على ملامحه الوقار قال لي بالحرف الواحد (هلا بزوار اباعبدالله) تفضلوا معي الى البيت, وسنكون في خدمتكم ان شاءالله, دون أي تردد مني ومن أصحابي, رافقنا الرجل الى بيته الذي لم يكن بعيدا عن الجادة, دخلنا البيت فإستقبلتنا زوجته بترحيبات وكلمات طويلة لم أفهم معناها بشكل كامل بسبب ضعف لغتي العربية, قدمت لنا سفرة تضم ما الذ وطاب من الطعام, وفجأة دخل علينا شابين بعمر الزهور يحملون في أيديهم وعاء من الماء(طشت) ليبدؤوا في غسل وتدليك أقدام الزائرين الذين أتعبهم مشقة الطريق, وعندما سحبت قدمي رافضاً هذا العمل لاني وجدته لايليق بمقام أهل العراق أن يدلكو أقدام الناس, قال لي احد الشابين والرجاء في عينيه: خدمة الزوار لاتقلل من شأننا بل تزيد من قيمتنا, فخدمتكم فخر لنا وشرف, لاتحرمنا هذا الأجر يا عم.

إبتلعت دمعتي وأنا اتأمل كلمات هذا الشاب, وأجبته بكلمات شبه مفهومة, ماذا فعل حب الحسين في العالم, هنيئا لكم هذه العزة يا اهل العراق.

كنت أنظر اليه وهومنهك في تدليلك قدمي التي كانت متورمة بسبب قسوة الجو وطول الطريق, ملامح الفخر مرسومة على وجهه, وكأنه ملك على عرشه.

فجأة سمعنا أصوات تتعالى من خارج الغرفة, خرجنا مسرعين كي نعرف مايحدث, شاهدت صاحب البيت الذي أتى بنا الى هنا في حوار ثقيل مع شخص اخر, الموقف لم يتعدى العشر دقائق حتى دخل صاحب البيت الى داره, وعندما وجدني واقفا والحيرة تسكن ملامح وجهي, إبتسم إبتسامة عميقة ورحب بي مرة أخرى وهو يوصي ولديه في تلبية جميع إحتياجاتنا, وهو يأكد عليهم ايضا على عدم التقصير مع زائرين الحسين.

طلبت من الشاب أن يوضح لي ماحصل بين والده وذلك الرجل, لأني لم أفهم ماحصل بسبب سرعتهم في الكلام وصعوبة اللهجة العراقية, فشرح لي ماحصل بطريقة مبسطة وكلمات شفافة حيث قال: (إن ذلك الرجل يطلبنا ثأراَ, لأن اخي قتل إبنه, و كان يريد أن يأخذكم الى بيته ليتشرف بخدمتكم لأن في هذه الليلة بيته أصبح خاليا من الزائرين, ولكن والدي لم يريد أن يخسر هذا الأجر ويفرط بهذه الخدمة الجليلة, فلم يوافق على طلب الرجل.

فقال له أعطني زائرينك وسأتنازل عن دم ولدك ولا اريد منكم أي قصاص, كما إن والدي لم يرى أخي منذ فترة طويلة وكان من الممكن أن يعيد الأمان له ويقر عينه بلقياه, ولكن جواب والدي للرجل كان:

- قاصصه.... لن أعطيك الزائرين).

تشنجت حنجرتي بعدما سمعت كلام الشاب, حاولت أن انطق بأي كلمة ولكن خذلني لساني, فما وسعني الا ان ارد عليه بدموعي الكهلى التي غرقت وجنتي من تلقاء نفسها, لم يبادرني الشاب سوى بنظرة رضا تجاه موقف والده, واستمر في الخدمة من تهيئة الفراش,والمأكل, و ...الخ.

على رغم التعب الذي كان ينخر جسدي وجفائي للنوم لمدة يويمين كاملين, لم يجرأ السهاد أن يخطو ناحيتي, فالتساؤلات كانت ترمي بنفسها على جدران ذاكرتي واحدة تلو الاخرى, حتى بات عقلي أشبه ببركة كبيرة من الإستفهامات والتعجب, فالموقف الذي حصل مع صاحب البيت وصاحب الثأر لم يشأ ان يذهب عن بالي لحظة واحدة, تجسدت أحداثه في عقلي, متشبثاً بأركان ذهني, يرسم تفاصيله بفرشاة الإحساس على أوراق قلبي, أي مقام يناله زائر الحسين وخادمه؟!, الذي لم يقبل على اثره ان يمنح صاحب البيت زائرين الحسين مقابل حياة إبنه؟!!.

في الصباح الباكر وقبل أن تشق الشمس سماء الوجود غادرت البيت خفية, فقد كنت خجلاً من نفسي ولا قدرة لي في أن اضع عيني بعين صاحب البيت, بعدما قدم لي هذا الرجل صفعة روحٍ أيقضني بها من سبات النفس.

أستمريت في السير عدة ايام وانا اندب أفكاري الحمقى عن حب الذات, والخوف على نفسي وأهلي من قساوة الجو ومشقة الطريق, ونسيت بأن الحسين ضحى بنفسه وعياله من أجل الإصلاح في امة جده, وإن مسيرة الأربعين ماهي الا صرخة حق في وجه العالم, وتغافلت بأننا لابد أن نضحي بالغالي والنفيس في ثبات الرسالة الإنسانية هذه.

ما أن وصلت الى كعبة العشق, رفعت يدي الى السماء وانا اجر روحي التعبة بأذيال الخجل, فحرمت على نفسي الدخول, الا بعدما نذرت ولدي الوحيد الذي انتظرت مجيئه الى الحياة اربعة عشر سنة في الخدمة الحسينية, قاطعاً العهد على نفسي بزيارة الحسين أنا وعيالي في كل عام ما دمنا أحياء.

اضف تعليق