كانت الحياة متواضعة ورتيبة قبل هذا التطور الواسع الذي شمل شتى جوانب الحياة، فعندما ظهرت التكنولوجيا وتقدمت الأساليب المستخدمة في تسيير الواقع، اضيف للحياة العملية طابع المادية والجشع في السعي نحو فعل الاعمال بهدف الحصول على مقابل، وعلى أثره أصبحت الحاجة الى ايادي كثيرة تعمل تحت جناح واحد وتسعى الى تحقيق الهدف المشروع امر متطلب ولابد منه.
وعلى الرغم من ضرورة المشاركة والعمل الجماعي الذي أكد عليه الله في كتبه السماوية من جهة، وتوافق اليات النجاح التي تعزز من ضرورة العمل الجماعي والإدارة الحكيمة من جهة اخرى، الاّ اننا نلاحظ انفصال واضح لحبل الحياة عن القيم السامية التي تسعى الى العمل الجماعي المطلق لتحقيق هدف الإسلام الواحد.
فأهملت الأهداف السامية التي كان يعمل الانسان من اجل تحقيقها ليلاً ونهاراً، وحلت محلها الأهداف المادية. فما نلاحظه اليوم من العمل في الدوائر والمؤسسات والمراكز وخصوصاً الحكومية منها هو تناسي الأهداف المعنوية التي تسعى الى ارتقاء الانسان في العمل لله والوطن بإخلاص تام.
فأصبح من النادر ان نشاهد شخصاً يسهل امر احد او يساعده دون مقابل، فالحياة مع بالغ الأسف أصبحت تسير على ساق المصلحة، او بتعبير اصح انها لا تسري بل تركض دون الحاجة الى عكاز او كرسي متحرك!.
وإذا دلَّ هذا على شيء فهو يدل على ابتعاد الناس على النهج الذي خطه الله تعالى للإنسان، وعدم الالتزام بسيرة الرسول (ص) التي اكدَ فيها على الابتعاد عن الاخلاق التجارية التي تلعب فيها المصلحة الدنيوية دوراً كبيراً، لدرجة انها تجرد الانسان من انسانيته فيتخلى عن مسؤوليته في مساعدة الناس وتقديم الخدمات لبني البشر دون مقابل.
وبعيداً عن ضعف الوازع الديني، هنالك عامل كبير يلعب دورا مهماً في انتزاع المبادئ والقيم من نفس الانسان وهو عدم الإحساس بالمسؤولية، وعدم الادراك التام لماهية خلق الله للإنسان والرسالة التي يريدها الله من عباده ايصالها للبشر.
كل إنسان خلق لتقديم رسالة معينة، ومكلف بها من قبل الله عز وجل، وأي تقصير في هذا الجانب يحاسب عليه، اذ يقول الرسول محمد (صل الله عليه واله): "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
من هذا الحديث الشريف نستنبط بأن كل انسان هو بمثابة مدرسة توجيهية، فالله سبحانه وتعالى خلق الفقراء كي يساعدهم الأغنياء، وخلق الضعفاء كي يكونوا تحت ظل الأقوياء.
وهذا لا يعني بأن المال ليس امراً مهماً وليس من مقومات الحياة الناجحة، ولكن هنالك أشياء لو دخلت فيها المادة افسدت النية الصادقة في تحقيق المشروع الإسلامي الواحد.
ومن هنا يطلق مفهوم التطوع حملات واسعة في تقديم المساعدة للناس المحتاجة دون أي مقابل، وسعت منظمات المجتمع المدني في فتح أبواب التطوع في انحاء العالم لكل من يرغب في مساعدة الناس، وبالتالي مساعدة الآخرين والسعي في نشر الخير هو أفضل علاج لتنشيط خلايا الانسانية في روح البشر.
وبعد تدهور الوضع الأمني في البلدان العربية وعلى وجه الخصوص في العراق، شاهدنا في الفترة الأخيرة بأن الهجرات الداخلية والحروب التي عاشها الشعب أثرت بصورة سلبية على الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
ولكن في نفس الوقت نلاحظ بأن نبذ الطائفية وبروز اللحمة الوطنية كان لها دور كبير في تعزيز العلاقات بين الناس، فمع الوضع الصعب الذي كانت تعيشه العوائل العراقية وجدنا بأن الحشود الشبابية كان لهم دور كبير وفعال في عميلة التطوع، من اجل مساعدة الناس والتقليل من الخسائر النفسية والمادية التي واجهت الشعب العراقي في تلك الفترة.
فشنت حملات التطوع هجومها الثقافي في الشوارع والجمعيات والمخيمات لترميم ما خلفه داعش في نفوس الناس.
فتوسعت النشاطات الشبابية من الجنسين، لتشمل مهرجانات توعوية، وحملات تثقيفية، إضافة الى حملات المساعدة، تحت نطاق النشاط المدني، فجميع هذه الأمور ساعدت في زرع روح التعاون بين الشباب، اذ ان العمل الصالح خصوصاً لو كان دون مقابل، له تأثير كبير على روحية الإنسان ونفسيته، فمن خلاله يتم تعزيز الروابط الاجتماعية بين مختلف الطبقات، ويعيش الإنسان التجارب الصعبة، والظروف القاتمة ولو لسويعات، ليقدر النعم التي وهبها الله تعالى له، فكم من إنسان لا يعرف قيمة الحياة والعز الذي يعيشه؟.
وفي كل الأحوال يعتبر العمل الصالح أحد الطرق المهمة التي تؤدي الى رضا الله، كما ان إنسانية الفرد تجبره على مساعدة غيره، ونشر الخير في ربوع العالم، فكما قال رسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه واله): "ما من شيء أحب إلى الله من الإيمان والعمل الصالح وترك ما أمر أن يترك".
كما ان دور الناس في الوقت الحالي، هو أكبر بكثير من ذي قبل، وطرق المساعدة قد تنوعت، مع تنشئة الجمعيات الخيرية وجروبات من الناشطين المدنيين الذين تكفلوا بمساعدة النازحين وبناء المنازل وتوفير المخيمات، ومساعدة الأيتام والفقراء، وتزويج الأرامل والشباب.
وهنالك نطاق واسع لفيض الخير، فكل عمل يخدم البشرية هو عمل صالح يعود بالنفع على الفاعل وعلى المجتمع كله، ولربما هنالك أمور بسيطة جداً لا يعيرها الشخص اي اهتمام كرفع الأنقاض من مكان عام، او ازاحة الأذى من الطريق، او مساعدة عجوز في عبور الشارع... فجميع هذه الأمور تثمر لله عز وجل، ولها ثواب عظيم، لأن ما كان لله ينمو.
ويبقى المجتمع الإسلامي على وجه الخصوص هو مجتمع تعاوني، يهدف الى خدمة الناس وتحقيق العدالة بين بني البشر، ونشر الخير في ربوع العالم، والنهي عن المنكر وهداية البشرية.
لأن الامة التي يتعاون أبناؤها على فعل الخير ونبذ الشرك هي امه قوية وغير قابلة للهزيمة ما دامت وحدتها باسم الله، من اجل رفع راية الله أكبر، والوقوف بوجه الظلم في العالم.
وعند البحث في قياس القوى البشرية عند الأمم، يجب الالتفات الى تربية القوى الأخلاقية عندها، لأن المشكلات التي نراها اليوم تعود الى ضعف الجانب الأخلاقي عند الناس، فالظلم والجور قد ملأ الأرض وفي كل مراحل التاريخ، ثم يأتي المنقذ ليملأها قسطاً وعدلا، ولكن لماذا كل هذا الظلم والجور في الأرض؟، ربما بسبب عدم وجود الصالحين او قلة عددهم، او بسبب اطاعة غير الصالحين وتزويق افعالهم الباطلة حتى تبدو للناس وكأنها حق، فيضيع الحق في سوق الباطل..
ولكن من يبحث عن الحقيقة سيجد الطريق بلا شك، لأن الاخلاق الإسلامية التي انزلها الله على عباده هي بمثابة الخريطة التي تهدي الانسان الى سبيل الرشاد، والوقوف بوجه الظلم والمقاومة التي تنم عن عمق الاخلاق الانسانية والاسلامية، كذلك الحال في نشر الخير والسعي في الإصلاح سواء في الجانب الذاتي او جوانب أوسع تشمل حال البلد والأمة، وحتى الإصلاح في الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية...الخ.
فهداية الناس هي أخير الامور وأفضلها التي تصب في مجرى الاخلاق، وفي هذا المنظور يقول سيد الكونين (صل الله عليه واله وسلم): "فو الله لأن يهدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم".
وان الامة الإسلامية تحتاج الى الجهاد والمقاومة والصمود امام الغزو الأخلاقي للعدو، ومن المهم جداً الادراك التام بأن هذا العدو يرغب بالهجوم على قيمنا الفكرية والأخلاقية، ليتمكن من قوتنا الإسلامية في المنطقة وانتزاع المبادئ والقيم التي تربينا عليها منذ الصغر.
فعملية نخر الاخلاق المحمدية التي يهدف اليها العدو، هي عملية ناعمة تجعلنا لا نشعر بوخزتها الصغيرة ولكننا بعد فترة سنجد أنفسنا فارغين من الداخل.. فارغين تماماً من أي شيء يربطنا بالله وبالإنسانية، اذن من المهم جداً التصدي لهذه الضربات الأخلاقية التي تأتينا عن طريق الاعلام والثقافة، فما تبثه الإذاعات والقنوات وحتى صفحات الانترنت تعتبر بمثابة المورفين الذي يخدر ضمائرنا الانسانية ويبني حاجزاً عملاقاً امام معتقداتنا الإسلامية التي تعمقت في وجودنا، وذلك عن طريق الرقابة الالكترونية، والمتابعة الذاتية للنفس، والاكثار من المحاضرات التوجيهية وكشف نية العدو للناس، ليبقوا بتماس مباشر مع ما تؤول اليه النفوس الخبيثة في ضرب الثقافة الإسلامية في العالم، وتعميق مبادئ الإسلام السامية في نفوس الناس، وتربية الجيل على خطى الثقافة المحمدية.
اضف تعليق