في شهر رمضان يسجّل القرآن حضورا لحظويا في حياة المسلمين، فعلى مدار الوقت، نهارا وليلا، فجرا وغروبا، ظهرا وفي أعماق الليل، في كل وقت تجد القرآن الكريم رفيق المؤمن، يعيش من خلاله تجلياته التي تبلغ به قمة النقاء الروحي، فيبدو قارئ القرآن كمن يغتسل للتو في بحيرة من الماء العذب النقي، فتزول عنه الشوائب ليعود الى فطرته، انسانا صالح القلب ونقي الروح، محبا للخير وفاعلا له، عنصرا يزرع الخير في الحياة ويبنيها للقادمين.
يُطلق على شهر رمضان، تسميات كثيرة، منها (رمضان شهر القرآن)، انه فعلا شهر الصوم العظيم، وهو (شهر الله)، هو تعالى يجازي فيه عباده، ويدعوهم لتنظيم حياتهم في هذا الشهر المتميز، فالزمن لا يشبه نفسه، وهذا الشهر محمّل بالمكرمات الربانية، من حصة المؤمنين، العاملين على الاحسان لغيرهم ثم أنفسهم، وجزاؤهم منه تعالى.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في احدى كلماته القيمة الموجهة الى المسلمين حول هذا الشهر الكريم:
(إنّ شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختصّ به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان، والتغيير نحو الأفضل، والتطهّر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه). إذاً هو شهر الطهارة ايضا، والسعي لنبذ الذنوب جانبا، واعلان التوبة النصوح، ومقاربة الدعاء على نحو دائم، فضلا عن تلاوة القرآن في كل لحظة تتاح للانسان، كي يغتسل من ذنوبه ويعيش السعادة الحقيقية، فتلاوة القرآن هي المقياس الأدبي لسعادة الانسان.
كذلك على الانسان ان يسعى في هذا الشهر المبارك لبناء ذاته، ويمكنه أن يسلك هذا الطريق ويصل الى هدفه من خلال اقامة الصلوات وقراءة الدعاء بصورة مستمرة، وهنالك زيارات تزيد من تقرب الانسان الى ربه وذاته في القوت نفسه، ويحتاج الامر الى نوع من التنظيم خصوصا في هذا الشهر المكرّس للعبادات والتوبة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (الصلوات والأدعية والزيارات والأعمال الواردة في شهر رمضان المبارك بنفسها معدّات لتحقّق بناء الذات، بيد أن المرء قد لا يسعه الوقت للقيام بها كلها، بسبب تزاحمها مع مشاغل أخرى قد تكون مطلوبة هي الأخرى كالتبليغ مثلاً، من هنا، فليس هناك طريق للتوفيق أسهل من طريق محاسبة النفس، لأنها مطلوبة جدّاً ولها تأثير كبير على الإنسان.
زيادة الحسنات وتقليل السيئات
أعظم خارطة طريق لأعمال الانسان، تلك التي تقوده الى الحسنات المضاعفة، وتنقذه من عواقب السيئات، وهذا الخارطة تبدو في شهر رمضان بالذات أكثر سطوعا من الشهور الأخرى وأكثر وضوحا للانسان، وما عليه سوى ان يدقق النظر فيها، ويفهمها، ثم يتوكل ويشد العزم، ويمضي في هذا الطريق الذي سيقوده الى معرفة نفسه، مما يسهل له السيطرة عليها وقيادته لها مثلما يريد، لا كما تريد نفسه التي غالبا ما تأمره بتحقيق رغباتها.
من هنا على الانسان أن يخصص وقتا، يتدرب فيه على محاسبة النفس وأن لا يترك الحبل على الغارب، فيجد نفسه تحت أمرة النفس، تلعب به كما تشاء، وتسوقه الى ما لا ينفع، لذا من المستحسن وربما الواجب أن يستغل المؤمن شهر رمضان لمحاسبة نفسه والسيطرة عليها في كل لحظة وكل يوم.
كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (ليخصّص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته ويخلو فيه، ليراجع ما قد مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرّف مع زوجته وأصدقائه وزملائه؟ وباختصار.. ليدقّق مع نفسه فيم صرف وقته؟ وليصمّم بعد ذلك على أن يزيد من حسناته ويقلّل من سيئاته). ان مراجعة الاعمال يوميا أمر في غاية الأهمية، فهو يتيح للانسان معرفة اخطاءه بشكل يومي، وهذا يسهل عليه معالجتها على مدار الساعة.
لهذا مطلوب من الانسان، أن يحدد وقته ويقوم بتنظيمه بشكل جيد، ليترك مجالا لرؤية الاعمال والافعال ومراجعتها، ومن ثم معالجة ما لا يليق ومقارعته ولفظه بعيدا عن الذات، وهذا لا يمكن أن يتم من دون محاسبة يومية للذات، وهذا بدوره يستدعي ارادة قوية جدا، اذ ليس من السهل ان تسمح النفس لصاحبها بإجبارها على نمط محدد من العيش، كأن يزجرها ويبعدها عن الانزلاق في مسالك السقوط والانحراف، شهر رمضان يساعد الانسان على تحقيق هذا الهدف الذي يبدو بالغ الصعوبة، ولكن ما أن يقرر الانسان انتهاجه بعد محاسبة النفس، فإنه سوف يكون منهج عمل يومي للمؤمن كي يقي نفسه من المعاصي بشكل مستمر.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كلمته نفسها: (ينبغي التوجّه في شهر رمضان الكريم إلى محاسبة النفس كل يوم، ولو دقائق، يستعرض الشخص فيها ما قال وعمل، وما سكت عنه وترك، خلال يومه وليلته).
من اتّبع القرآن سعد في الدارين
من المهم أن يعمق المؤمن علاقته بالقرآن في هذا الشهر، خاصة ان النفس تكون في قمة هدوئها واستقرارها، بسبب الاجواء الايمانية التي تسود ايام شهر رمضان ليلا ونهارا، وما يزيد من لطف المشاعر والاحاسيس تلاوة القرآن وسط هذه الاجواء التي تفوح منها نكهة الايمان من كل حدب وصوب، فالسماء فوقك توحي بالأمان وتمطر رحمة واملا، واجواء الارض كلها تضج بالخير والسعادة والألفة، والسبب دائما يكمن في هذا الشهر الذي يغسل النفوس وينظف القلوب ويزيد الانسان رحمة وشفقة ورأفة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي عن دور تلاوة القرآن في هذا الشهر الكريم: (يلطّف شهر رمضان المبارك المشاعر والأحاسيس، بما جعل فيه من البرامج، وخاصة الصيام، الذي يجعل الإنسان يشعر بآلام الفقر ويعيش، ولو بنسبة، مآسي المحرومين، والابتعاد عن أحكام الله تعالى الكاملة والمستوعبة، ويكون ذلك خطوة في سبيل تقليص هذه المعاناة المؤلمة).
إذاً هذه فرصة الانسان، كي يتدبّر أمره ويستفيد من الاجواء المناسبة لهذا الشهر، معتمدا بالدرجة الاولى على العلاقة الروحية التي تربطه بالله تعالى وبكتابه الكريم، فما يرد فيه من آيات مباركة، بمثابة البلسم للروح وكما يصفها سماحة المرجع الشيرازي، بأنه هذه التلاوة تعد (المقياس الأدبي لسعادة الانسان) في الدارين، هكذا هو عمق تأثير تلاوة القرآن في الانسان، والى هذه الدرجة يمكن أن تحدد مسار حياته وما بعدها.
ويخطئ الانسان كثيرا عندما لا يقيس الاضرار التي ستلحق به بسبب ابتعاده عن كتاب الله تلاوة وتدبّرا، فلا شك أن السعادة ستغادره، وان التصالح مع الذات سيغدو حلما بالنسبة له، فهو انسان غير راضي عن نفسه، ولا افعاله ولا اقواله، ومع ذلك لا يستطيع فكاكا او خلاصا منه، الحل إذاً واضح ومعروف، هو ادامة العلاقة مع القرآن الكريم، في التلاوة والفهم، كي يحصل على السعادة التي تبحث عنها النفس والروح والجسد معا.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي مبلغا جميع المسلمين: (ينبغي علينا في شهر رمضان المبارك تلاوة القرآن الحكيم والتدبّر فيه، فهو المقياس الأدبي لسعادة الدنيا والآخرة، فمن اتّبعه سعد في الدارين، ومن تركه شقي في الدين).
اضف تعليق