موهبة الإنفاق تليقُ بالعظماء

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ان الإنفاق عمل كبير، يتصدى له العظماء قبل غيرهم، لأنه يليق بهم، وهذا هو حال الذين سجّل التاريخ أسماءهم وأعمالهم بأحرفٍ من نور، لأنهم من خلال الإنفاق والمساهمات الخلاقة فيه، أنقذوا اممهم وشعوبهم من التخلف والجهل، وانتقلوا بهم إلى مشارف العلم وفضاءات النور والسعادة...

(الكثير من الناس لديهم قوّة كامنة تدّخر طاقات كبيرة وواسعة)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

يمنحُ اللهُ الإنسانَ مواهبَ كثيرة، تتأسس في كيانه منذ الولادة، وتنمو معه، ترافقه حياته كلَّها، وما على هذا الكائن البشري سوى الاهتمام بهذه المواهب، ومرافقتها، ومصادقتها، واكتشافها، وتنميتها، وإبراز الأهم والأفضل من بينها، والعمل بها، في إنجاز مشاريعه، وتطوير حياته، وتكوين المكانة الكبيرة التي تليق بمن يتعامل مع الإنفاق كموهبة.

فإذا كان الإنفاق من بين المواهب التي حباك الله بها، فأنت لَعمري في قمة الحظ، لأنك سوف تقضي حياتك في خدمة الناس، وتسعى في قضاء ما يحتاجونه، من خلال فائض المال الموجود عندك، وفائض الوقت المتوفر لديك، وحُسن الأخلاق واللطف الذي تتعامل به مع الناس، فأنت كغيرك من الناس، توجد لديك مواهب مادية، وأخرى معنوية، ولا يهم هنا عدد أو كمية هذه المواهب والطاقات، بل المهم هو كم منها سيكون في طريق الله.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة تحت عنوان (الإنفاق) ضمن سلسلة (نبراس المعرفة):

(لقد منح الله تعالى لكل شخص مواهب كثيرة متنوعة، منها مادية ومنها معنوية، المهم في هذه المواهب، كم يعمل بها الإنسان لمرضاة الله؟ وكم يُنفق منها في سبيل الله؟)

ومن مواهب الإنسان أو ممتلكاته الذاتية إبصار ما يقع خارج كينونته من أشياء وكائنات، فهو يمتلك حاسة البصر، فيرى الناس بهاتين العينين، ويسمعهم بمسمعيْه، ويلمسهم بيديْه، هذه الحواس كلها تقع ضمن الطاقات التي وهبها الله للبشر مع الخَلق، والحقيقة ليس مهما أين يصرف هذه الطاقات والمواهب، بل هناك هدف واحد مهم ينبغي على الإنسان أن يلتزم به، وهو يكمن في الإجابة عن هذا السؤال، هل يصرف طاقاته في مرضاة الله؟

الإنفاق المادي والمعنوي

طبيعة الإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد كم هي فائدة الإنسان من استخدامه لحواسه وطاقاته وقدراته، فإذا صُرِفَت في (مرضاة الله)، سيكون الأجر مضمونا، وسوف يحصل الإنسان على ما يستحقه من ثواب، بغض النظر عن كون المعونة أو الإنفاق كان ماديا أو معنويا، المهم إنه يفيد الآخرين ويسد فراغ الحاجة عندهم. 

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(الإنسان المبصر مثلاً الذي تفضّل الله عليه بنعمة البَصر، هل يعمل بهذه النعمة بمقدار ما أنعم الله عليه من نعمة البصر؟ كم من هذه النعمة يصرفها في سبيل الله؟ وكذا السمع والادراك والشعور بل وسائر النِعم التي منحها الله تعالى إيّاه مادية ومعنوية ظاهرية وباطنية، السؤال كم يصرف الإنسان من هذه النعم في سبيل الله؟ فينال بها الأجر بمقدار هذه النِعم).

فالمهم كما يتضح لنا، أن يكون عمل الإنسان، في طريق الإنفاق، والمساعدة، وقضاء ما يحتاجه الآخرون، من المهم أن يكون كل هذا لله، وينال مرضاته تعالى، ويمكن أن يرقى هذا الأمر إلى درجة الشرط، فالحقيقة لا فائدة من مدّ يد العون للناس إذا كان هذا الفعل لا يُرضي الله تعالى، لأن الأمر سوف يدخل في طرق وأساليب وأهداف خارج الرضوان الإلهي.

فما فائدة أن تقدم الأموال أو الجهود، أو الوقت، وغير ذلك مما يحقق عونا للآخرين، ما فائدة ذلك كله إذا كان يُغضِب الله؟، لذا فإن (المهم أن يعمل الإنسان لله بمقدار ما يستطيع وبمقدار طاقاته وقدراته وما يسمح له الوقت) كما يقول سماحة المرجع الشيرازي.

من القضايا التي تعاني منها بعض المجتمعات، عندما يكون من بينها أناس لا يأتون على أنفسهم، فلا يحبون مساعدة الآخرين، حتى لو كانوا قادرين على فعل ذلك، وهذه المساعدة ليس شرطا أن تكون مادية أو مالية، فهناك من يمتلك وقتا فائضا، كونه يعيش في فراغ، فبإمكانه تقديم المساعدة للآخر من خلال ما يمتلكه من وقت فائض.

لكن في الحقيقة هذا التحرك الطوعي يحتاج إلى إرادة وقوة معنوية وروحية كبيرة، فالقوة الكامنة الموجودة في جسد الإنسان وتكوينه وشخصيته، تحتاج إلى إرادة تحركها، وإلى إيمان يوقظها من سباتها، لذا فإن هناك من لا يُسهم في إقامة المشاريع الخيرية ليس لأنه غير قادر، بل لأنه غير قادر على تحريك طاقاته وإمكاناته.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(الكثير من الناس لديهم قوّة كامنة تدّخر طاقات كبيرة وواسعة، لكن هذه القوّة تحتاج إلى تفعيل، لتتحوّل من قوّة كامنة إلى قوّة فعلية ملموسة على أرض الواقع. ولعلّ أكثر الذين لا ينفقون في سبيل الله ولا يقيمون المشاريع والمؤسسات الخيرية ولا يؤسسون المراكز لإحياء الشعائر الحسينية، ليس بسبب أنهم لا يتمكّنون من فعل ذلك، بل لأنهم لا يستخدمون طاقاتهم في العمل على تحقيق ذلك الهدف المنشود).

في الحقيقة إن الذين يملكون الطاقات الكبيرة هم أناس تم تصنيفهم على أنهم عظماء، وقد تحققت لهم هذه المكانة وهذه الصفة الخالدة، كونهم يمتلكون الطاقات الهائلة، وفي نفس الوقت لا يتركونها خاملة ولا تظل كامنة في أعماقهم أو عقولهم، وإنما يقومون بتحويلها إلى جهود جبارة تساعد في تحويل عقول الناس، وتبني فيهم القيم الصالحة.

مساهمات في بناء المشاريع الخيرية

فهؤلاء العظماء لا يترددون في المساهمات الكبيرة والفعالة في مجال تأسيس وبناء وتطوير المؤسسات الخيرية التي تدعم عموم الناس، وتزيد من وعيهم وثقافتهم، وتقوّي إيمانهم ودينهم وعقائدهم من خلال دعم الشعائر الحسينية، وتقديم العون المادي والمعنوي من خلال المؤسسات والمشاريع الخيرية التي ينفقون عليها بلا تردد، لهذا فإن هؤلاء العظماء قادرون على تحويل طاقاتهم إلى قرارات ومن ثم إلى أفعال ومنجزات مرئية على الأرض.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): 

(العظماء عادةً يملكون طاقات كبيرة موجودة في ذواتهم، وهذه الطاقات تتبدّل إلى جهود وطاقات يقومون ببذلها على الأرض، فيكون لها تأثير كبير في داخل المجتمع).

مسؤولية الإنفاق الصحيح تقع على أفراد المجتمع، لاسيما الذين يمكنهم فعل ذلك، كأن يكونوا أصحاب مهن تدرّ عليهم أرباحا جيدة، في هذا الحالة يكون الإنفاق قضية حتمية، لا يفعلها العظماء وحدهم، بل هي واجب شرعي وإنساني، يفرض على الجميع الشروع فيه بحسب الأحكام الشرعية، بالإضافة إلى الحالات الطوعية وهي كثيرة وكبيرة أيضا.

بالطبع يحتاج هذا الهدف الكبير، إلى إرادة كبيرة، فإن توفرت عند الإنسان فإنه سوف يقوم بواجبه في الإنفاق اللازم، مع العلم إن الإرادة يمكن تدريبها على القيام بهذا الفعل الإنساني الذي ينقل الأمة والإنسان من حال إلى حال.  

هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(إنها من مسؤولية الجميع، فكل شخص يمكنه أن يصنع ويبدّل ما لديه من قوة إلى فعل، وهو أمر ممكن إذا كنّا نمتلك الإرادة، والإرادة تحصل شيئاً فشيئاً إذا ما قرّرنا ذلك).

وهكذا يمكن أن ننتهي إلى أن الإنفاق عمل كبير، يتصدى له العظماء قبل غيرهم، لأنه يليق بهم، وهذا هو حال الذين سجّل التاريخ أسماءهم وأعمالهم بأحرفٍ من نور، لأنهم من خلال الإنفاق والمساهمات الخلاقة فيه، أنقذوا اممهم وشعوبهم من التخلف والجهل، وانتقلوا بهم إلى مشارف العلم وفضاءات النور والسعادة.

اضف تعليق