q
الاكتئاب ليس مجرد حالة مزاجية سيئة أو مرض بسيط، ولكنه مرض عضوي له نتائج خطيرة على حياة المصابين، وتؤدي قلة الوعي بالنتائج الصحية والاجتماعية الناجمة عن الاكتئاب إلى تفاقُم مشكلاته، كما أن التأثير السيئ الناجم عن عدم علاج المرض مبكرًا وعدم متابعة آثار العلاج الدوائي والوسائل العلاجية الأخرى...
بقلم: تامر الهلالي

الاكتئاب ليس مجرد حالة مزاجية سيئة أو مرض بسيط، ولكنه مرض عضوي له نتائج خطيرة على حياة المصابين، وتؤدي قلة الوعي بالنتائج الصحية والاجتماعية الناجمة عن الاكتئاب إلى تفاقُم مشكلاته، كما أن التأثير السيئ الناجم عن عدم علاج المرض مبكرًا وعدم متابعة آثار العلاج الدوائي والوسائل العلاجية الأخرى يؤدي إلى تطور المرض -شأنه شأن الأمراض الأخرى- وقد يحول الاكتئاب إلى ما يُعرف بـ"الاكتئاب المقاوم للعلاج".

في هذا السياق، خلصت دراسة نشرتها دورية "جاما سيكياتري" (JAMA Psychiatry) إلى أن "المرضى الذين يعانون من الاكتئاب المقاوم للعلاج لديهم خطر للوفاة أعلى بنسبة 23% من نظرائهم من مرضى الاكتئاب الآخرين، وأن التشخيص المبكر للمرضى الذين يعانون من نوبات الاكتئاب السريري ولديهم احتمالية عالية للإصابة بهذا النوع من الاكتئاب أمرٌ مهم وحاسم؛ بسبب العبء الطبي والمجتمعي الكبير الذي يمثلونه".

تكلفة عالية

ووفق الدراسة التي أجراها فريق من الباحثين في معهد كارولينسكا السويدي، فإن "عدد زيارات مرضى الاكتئاب المقاوِم للعلاج للعيادات الخارجية يقدر بضعف نظرائهم من مرضى الاكتئاب الآخرين، ويُمضون ثلاثة أضعاف ما يمضيه نظراؤهم من حيث عدد الأيام في العيادات الداخلية، ولديهم زيادة في الاعتلال المشترك الذي يترافق مع حالات نفسية أخرى مثل متلازمة القلق والأرق وإيذاء النفس، إضافةً إلى اضطرابات تعاطي المخدرات التي يعاني منها حوالي 35 مليون شخص حول العالم، وفق تقديرات منظمة الأمم المتحدة لعام 2019.

وأوضح الباحثون أنه "ينبغي على الأطباء العمل من أجل تغيير العلاجات غير الفعالة في علاج الاكتئاب العادي والشديد ونوبات الاكتئاب السريري، وإحلال أدوية أخرى محلها والاستمرار في مراقبة فاعليتها، ما قد يسهم في تحسُّن رعايتهم وعلاجهم"، مؤكدين ضرورة تزويد الأطباء بوسائل تساعدهم على تشخيص هؤلاء المرضى في وقت مبكر من خلال استخدام "مقاييس تصنيف شدة أعراض الاكتئاب".

عمل الباحثون على تقدير التكلفة الفردية والاجتماعية للاكتئاب المقاوم للعلاج، وإلى أي مدى يمكن التنبؤ به عند تعرُّض المرضى لـ"الاكتئاب السريري"، الذي يُعد أكثر أشكال الاكتئاب حدة، ويُعرف أيضًا بـ"الاكتئاب الكبير"، ومن أعراضه الشعور بالحزن وانعدام القيمة واليأس ونوبات الغضب والتهيُّج والإحباط، وفقدان الاهتمام أو المتعة في معظم الأنشطة العادية أو كلها مثل الجنس أو الهوايات أو الرياضة، واضطرابات النوم، وتكرار التفكير في الموت أو التفكير في الانتحار أو محاولة الإقدام عليه أو تنفيذه فعليًّا.

مضادات الاكتئاب

اعتمد الباحثون في الدراسة على منهج "دراسة الأتراب"، وهي دراسة تقوم على مراقبة مجموعتين إحداهما معرضة لعامل خطورة والأخرى غير معرضة لعامل الخطورة، وبعد هذا التقسيم تجري متابعة المجموعتين مدةً زمنيةً معينة ومن ثم مقارنة النتائج.

لعمل ذلك، درس الباحثون عددًا كبيرًا من السكان الذين تغطيهم الرعاية الصحية الشاملة، وحللوا البيانات النفسية وغير النفسية الخاصة بالمشاركين، واستعان الباحثون ببيانات متنوعة المصادر مثل قاعدة بيانات الرعاية الصحية الإدارية في منطقة ستوكهولم ووكالة التأمين الاجتماعي السويدية.

ومن بين 158 ألفًا و169 مريضًا بـ"الاكتئاب أحادي القطب"، تم تشخيص إصابة 145 ألفًا و577 مريضًا باضطراب الاكتئاب الشديد في الفترة من أول يناير 2012 وحتى 31 ديسمبر 2017 (بينهم 64% من النساء) بمتوسط عمر بلغ 42 عامًا، وشملت تلك البيانات مجموعة اضطرابات الاكتئاب السريري في ستوكهولم في الفترة بين عامي (2010 و2017).

وكانت مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية الفئة الأكثر شيوعًا في جميع خطوات علاج الاكتئاب المضاد للاكتئاب؛ إذ تعمل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية على زيادة مستويات السيروتونين في الدماغ باعتباره أحد الناقلات العصبية التي تحمل الإشارات بين خلايا الدماغ العصبية، في حين جاءت "مثبطات امتصاص السيروتونين والنورابينفرين" و"مثبطات امتصاص النورابينفرين والدوبامين" ومضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات في مراتب تالية.

ووفق الدراسة، خضع 5907 من المرضى للعلاج النفسي في مرحلة ما قبل بدء المرحلة الثالثة من العلاج الدوائي المضاد للاكتئاب، وكان متوسط الوقت من بداية العلاج الأول المضاد للاكتئاب حتى بدء العلاج الثاني 165 يومًا، في حين بلغ متوسط الوقت من بداية العلاج الثاني المضاد للاكتئاب حتى المرحلة الثالثة للعلاج 197 يومًا.

خطر الموت

يقول يوهان لوندبيرج -الأستاذ المساعد في الطب النفسي في معهد كارولينسكا، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": يمكن تشخيص إصابة الشخص بالاكتئاب المقاوم للعلاج إذا لم يحدث تعافٍ من نوبات الاكتئاب حتى بعد إكمال نظامين أو أكثر من تعاطي مضادات الاكتئاب بجرعات مناسبة لمدة معينة، وفي حالات محدودية الوصول إلى الرعاية الصحية بسبب ضعف التمويل على سبيل المثال، يتوقع أن يكون معدل انتشار الاكتئاب المقاوم للعلاج أعلى.

يضيف "لوندبيرج": كان القلق والتوتر واضطراب النوم واضطراب تعاطي المخدرات من الحالات المرضية الأكثر شيوعًا في نوبات الاكتئاب المقاوم للعلاج، أما إيذاء النفس المتعمد فكان أكثر شيوعًا بأكثر من 4 مرات في الاكتئاب المقاوم للعلاج، وكان معدل وفاة المرضى الذين يعانون من نوبات الاكتئاب المقاوم للعلاج واضطراب الاكتئاب الشديد هو 10.7 من بين كل 1000 مريض سنويًّا، مقارنةً بمعدل بلغ 8.7 حالات من بين كل 1000 مريض سنويًّا بالنسبة للمرضى الذين يعانون من اضطراب الاكتئاب الشديد ولا يعانون من الاكتئاب المقاوم للعلاج.

ويتابع: وجدنا أن الاكتئاب المقاوم للعلاج يمكن أن يظهر لدى المرضى المصابين باضطراب الاكتئاب الشديد في غضون عام واحد من إصابتهم به.

التشخيص السليم

يتفق جمال فرويز -استشاري الطب النفسي في الأكاديمية الطبية العسكرية- مع ما توصلت إليه الدراسة، مشيرًا إلى أن "مريض الاكتئاب المقاوم للعلاج يتحول تدريجيًّا إلى شخصٍ غير قادر على العمل إذا لم يتم التوصل إلى علاج مناسب لحالته؛ إذ إنه لا يستطيع تحمُّل ضغوط العمل وضغوط الحياة اليومية وما تتطلبه من جهد وتفاعُل".

يقول "فرويز" في تصريحات لـ"للعلم": "من بين الأدوار المهمة للطبيب النفسي التحدث مع المريض لمعرفة جذور مرضه، واستعراض التاريخ الدوائي للمريض منذ بداية تعاطيه لمضادات الاكتئاب، بهدف تحديد درجة الاكتئاب وطبيعته؛ لأنه لكل حالة ما يناسبها وما يميزها، ويُعد التشخيص السليم خطوةً أساسيةً توفر الكثير من الجهد والوقت والمعاناة".

ويضيف: هناك أساليب حديثة أخرى لعلاج الاكتئاب بدأت في منح الأمل لمرضى الاكتئاب المقاوِم لمضادات الاكتئاب، مثل الاستعانة بدواء الـ"إيسكيتامين" في علاج مرضى الاكتئاب، وهذا الدواء عبارة عن نقط تُعطى عن طريق الأنف وتعطي نتائج جيدة في مدة تتراوح من 3 إلى 6 أسابيع، كما تعطي جلسات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة نتائج جيدة في مجال علاج مصابي الاكتئاب من خلال تحفيز الخلايا العصبية بهدف تحسين أعراض الاكتئاب.

الاغتراب الاجتماعي

من جهتها، تقول هالة منصور -أستاذ علم الاجتماع بجامعة بنها- في تصريحات لـ"للعلم": إن عدم التعامل السليم مع مرضى الاكتئاب يؤدي إلى إصابتهم بالاغتراب الاجتماعي، ما يجعلهم عاجزين عن التعامل مع الأهل والعائلة بشكل يحقق الحد الأدنى من الإشباع الاجتماعي، وقد تتفاقم المشكلة في حالة عدم امتلاك المجموعات المحيطة بالشخص المصاب للوعي والمهارات النفسية والاجتماعية اللازمة للتعامل معه.

وأكدت "منصور" أنه "لا بد أن تتغير ثقافة المجتمعات العربية في التعامل مع الاكتئاب باعتباره حالة نفسية او مزاجية ستتغير وتختفي مع الوقت، والتعامل معه بدلًا من ذلك على أنه مرض وقد يتحول إلى مرض خطير يهدد الحياة والمجتمع"، وفق قولها.

يُذكر أن دراسة نشرتها دورية "بلوس ميديسن" في عام 2013 ذكرت أن "الاكتئاب يأتي في المرتبة الثانية بين أهم أسباب الإصابة بالإعاقة على مستوى العالم، وذلك بعد آلام الظهر التي تأتي في المرتبة الأولى"، مؤكدةً أنه "يجب التعامل مع الاكتئاب على أنه مرض يستحق أولوية، خاصةً فيما يتعلق بالصحة العامة على مستوى العالم".

اضف تعليق