q
النهضة الحسينية الخالدة وكل مراحلها وصولاً الى الأربعين، كتظاهرة إنسانية كبرى، ما زالت مظلومة من ناحية تسليط الضوء البحثي والتحليلي والإعلامي عليها، كونها خلاصة مهمة لمعاني إنسانية كبيرة تحتاج الى المزيد من التقصي والتحليل والبحث. كما ان عالمية الأهداف والمضامين التي حوتها هذه النهضة ولخصتها تظاهرة الأربعين...

ان المظاهرات الاجتماعية الكبرى غالبا ما تهدف لإبراز جوانب ذات طابع (ثقافي، ديني، انساني، اقتصادي، سياسي) وحدت الجميع تحت أهدافها التي اثرت فيهم ودعتهم للخروج من اجل التعبير عن ايمانهم بقضيتهم، وتضامنهم معها، وحتى استعدادهم للتضحية من اجلها، وهذا كله يأتي في إطار التفاعل الذي سرعان ما ينتهي بنهاية الغاية او المسبب لها.

وفي أحسن الظروف ربما يستمر استحضار الذكرى الى مدة زمنية معلومة تقتضيها ظروف معينة، وتجمع محدود تحت ايديولوجية او بروباغندا واحدة، وتحتاج لإنجاحها الى تحشيد بشري واموال ضخمة ووسائل اعلام وغيرها.

ومع هذا، ومع استحضار العقل البشري لجميع الأمثلة التاريخية الواقعية، وحتى الاسطورية، سابقاً وحالياً، لم يتمكن من تحديد او تصور تظاهرة مماثلة، ذات طابع إنساني سامي، ما زالت تغذي الإنسانية بمعانيها السامية وقيمها الحضارية الخالدة، منذ مئات السنين والى وقتنا الحاضر، بحجم وتأثير وابعاد تظاهرة الأربعين.

يكفي ان تشاهد هذا الحدث على احدى وسائل الاعلام، او تشارك بنفسك إذا توفرت الظروف المناسبة لك، لتعرف المعنى الحقيقي لها، وتتلمس عظمة وخلود الغاية التي خرج من اجلها الامام الحسين (عليه السلام) ولماذا ضحى بنفسه وعياله واصحابه في واقعة الطف عام (61) ه، وتعرف حقيقة اختلاف "الأربعين" عن غيرها من التجمعات الإنسانية الكبرى، من ناحية:

اولاً/ اختلاف في الجوهر: وهو اختلاف يطول المقام فيه، لكن ببساطة، هذه الزيارة وحدت رغبة الانسان منذ الازل للوصول الى الكمال الذي دعت اليه الأديان السماوية والفطرة البشرية، فقد هدف الامام الحسين (عليه السلام)، وانطلاقاً من الإسلام المحمدي الأصيل، بالعودة الى الجذور النقية التي لم تلوثها الجاهلية او التخلف او الانانية والمصالح، وبالتالي تخليص الانسان من قيود المصالح او الذل والخضوع، وكما أشار المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي الى حقيقة هذه العودة بقوله: "كل ما يحتاجه الإنسان في مسيرته الإنسانية، ورحلته التكاملية وحياته اليومية، من سلامة روحه وجسمه، وسعادة حياته، ورغد عيشه، وأمن سفره وحضره، وصلاح دنياه وآخرته، كل ذلك وأكثر يجده في كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)".

كما انها شملت جوانب مختلفة ومتنوعة استوعبت الجميع بمختلف انتماءاتهم وقومياتهم وافكارهم وثقافاتهم، ووحدتهم تحت راية الإنسانية، واعطت للجميع درسا للحرية والتحرر من قيود الاستعباد والذل والهوان والتبعية، وجعلت الانسان قيمة عليا يفخر بانتمائه لمدرسة الامام الحسين (عليه السلام) لأنه رفض الخضوع للظالم وانتصر للمظلوم بعد ان بذل في سبيل هذا الطريق كل ما يملك.

ثانياً/ اختلاف في المظهر: هناك عشرات الاختلاف بين زيارة او مسيرة او تظاهرة "الأربعين" عن غيرها من ناحية المظهر، ويكفي ان نذكر بعضاً منها:

1. الاعداد المليونية الضخمة التي تتوجه صوب ارض كربلاء المقدسة، وبحسب إحصاءات رسمية قد تصل الى (20) مليون زائر خلال أيام معدودة تصل ذروتها في يوم (20/ صفر)، مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذا العدد قابل للزيادة بإضعاف في المستقبل.

2. انها خالية من أي مظاهر للعنف ولا يتم تسجيل أي حالة في هذا الجانب، بل هي مظاهرة انسانية تحمل عنوان كبير تحت مظلة اللاعنف والسلم والسلام.

3. توحد الجميع تحت راية الامام الحسين (عليه السلام)، كما توحد أصحابه تحت لوائه في مواجهة الظلم والمستبدين، حيث تجد عشرات الجنسيات المختلفة، بثقافاتهم واختلاف الوانهم والسنتهم وقومياتهم، يسيرون نحو هدف واحد يحقق لهم التكامل الإنساني المنشود.

4. كل شيء فيها مجاني (الاكل، الشرب، النقل، المنام، الخدمات الصحية...الخ)، وبدلاً من طلب العوض المادي مقابل هذه الخدمات التي يقدمها (افراد، هيئات، مواكب حسينية، مؤسسات رسمية...الخ)، تتنافس هذه الجهات في تقديم الأفضل رغم الاعداد الهائلة.

5. المسافات الكبيرة التي يقطعها الزائر مشياً على الاقدام، والتي تصل الى مئات الكيلومترات (والبعض بالآلاف للقادمين من خارج العراق)، ولا فرق فيها بين الرجل الطاعن في السن عن الشباب، او الرجال عن النساء والأطفال، فالكل يسير نحو هدف واحد.

اذن لو تحدثنا عن مظاهر الأربعين ومضامينها الحضارية الكبرى لما استطعنا احتواءها في مؤلفات او حتى مجلدات، لأنها مظاهر احتوت الإنسانية بكل معانيها، واستطاعت تلبية رغبة الانسان في الوصول الى الكمال الذاتي، كما ان لها القدرة على التجدد والمعاصرة كلما مر الزمان واختلفت الاذواق والتوجهات، ولم تفقد القدرة على صنع التأثير واحداث الفارق الزماني والمكاني، لأنها انطلقت بصدق الدعوة في الهدف، والإخلاص والوفاء له، وهذا هو سر خلودها وديمومتها وبقائها.

ولو ذهبنا الى خلاصة الحديث نجد ان النهضة الحسينية الخالدة وكل مراحلها وصولاً الى "الأربعين"، كتظاهرة إنسانية كبرى، ما زالت مظلومة من ناحية تسليط الضوء البحثي والتحليلي والإعلامي عليها، كونها خلاصة مهمة لمعاني إنسانية كبيرة تحتاج الى المزيد من التقصي والتحليل والبحث.

كما ان عالمية الأهداف والمضامين التي حوتها نهضة الامام الحسين (عليه السلام) ولخصتها تظاهرة الأربعين، تفرض المزيد من الالتزامات من جميع الأطراف الرسمية وغير الرسمية في تطوير ادواتهم المادية والمعنوية من اجل مواكبة هذه الحدث العالمي وإظهاره بما يستحق من عظمة.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2022
http://shrsc.com

اضف تعليق