لا يمكن تحقيق العدالة دون تمكين الفئات الضعيفة من خلال توفير فرص العمل، وتحسين جودة التعليم والخدمات الصحية، وضمان حقوق الفرد الاخرى، كما ينبغي إنشاء برامج دعم موجهة للفقراء والعاطلين عن العمل، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تساهم في خلق فرص اقتصادية مستقرة وصولاً الى تمتين الاقتصاد وتحقيق...

في عالمنا المعاصر، تعد العدالة الاجتماعية واحدة من أكثر القضايا إلحاحا، خاصة في المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة كالعراق على وجه الخصوص، والمنطقة العربية عموما، العدالة لا تنحصر كونها مفهوما أخلاقيا أو فلسفيا فحسب، بل هي الأساس الذي يقوم عليه استقرار الدول وتنميتها بصورة كاملة. 

في هذا السياق، يبرز فكر الإمام السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، كمنظومة فكرية متكاملة وعملية تقدم حلولاً حقيقية لضمان تطبيق العدالة الاجتماعية استناداً إلى مبادئ الإسلام الحقه التي تدعو إلى المساواة في الحقوق ورفع الظلم وتمكين الفئات الضعيفة ومساعدتها.

يشكل فكر الإمام الشيرازي (رحمه الله) منبعا غنيا للرؤى التي تتناول التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، خاصة في العراق، حيث تتزايد معدلات الفقر والبطالة، وارتفاع نسب التضخم، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في ظل تفشي الفساد والمحاصصة والمحسوبية، اضافة الى انعدام الهوية الاقتصادية الواضحة والقادرة على تغيير هذا الواقع المرير.

العدالة الاجتماعية عند الإمام الشيرازي

يعتبر السيد الشيرازي أن العدالة الاجتماعية لا تقتصر فقط على مفهوم العدالة القانونية، بل تشمل جميع مجالات الحياة، من توزيع الثروات، وتوفير الفرص الاقتصادية، إلى حماية الحقوق الإنسانية للفئات المهمشة، ويرى أن العدالة هي الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات القوية والمستقرة والتي تنعم بالازدهار والرفاهية والتطور، وهي (العدالة الاجتماعية) مسؤولية مشتركة بين الأفراد والحكومات، حيث يقول: "العدالة ليست فقط في القضاء، بل في توزيع الثروات، وإتاحة الفرص للجميع بلا تمييز أو تفضيل"، هذه الرؤية الشاملة للعدالة تؤكد على أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات ليست مجرد أزمات عابرة، بل نتيجة لغياب نظام عادل يضمن حقوق الجميع.

المبادئ الأساسية للعدالة الاجتماعية

1. توزيع عادل للثروات: من أهم المبادئ التي ركز عليها السيد الشيرازي هو ضرورة توزيع الثروات بشكل عادل، كما يرفض فكرة تراكم الثروات في أيدي فئة قليلة من الناس بينما يعيش الأغلبية في فقر مدقع، ويرى أن الثروات الطبيعية والمكتسبات الاقتصادية هي ملك للمجتمع كله، ويجب أن يستفيد منها الجميع، حيث يقول: "إن الفقر ليس قضاءً وقدراً، بل نتيجة لظلم اجتماعي واقتصادي يجب إصلاحه"، هذا يعني أن الفقر ليس مشكلة فردية، بل نتيجة لسياسات غير عادلة تحتاج إلى إعادة تقييم.

2. محاربة الفساد والاحتكار: يركز الشيرازي بشدة على أن الفساد المالي والإداري هو العائق الأكبر أمام تحقيق العدالة الاجتماعية، ويعتبر أن أي محاولة لتحقيق العدالة لا بد أن تمر عبر مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في جميع مؤسسات الدولة، ويؤكد: "إذا انتشر الفساد في أروقة الدولة، أصبحت العدالة حلما بعيد المنال"، هذه المقولة تعكس مدى إدراكه لخطورة الفساد كمعيق رئيسي لتحقيق العدالة او استمرارها.

3. تمكين الفئات الضعيفة: كما يؤمن الإمام الشيرازي بأهمية تمكين الفئات الضعيفة في المجتمع، سواء كان ذلك عبر التعليم، أو فرص العمل، أو تحسين الخدمات الصحية، العدالة الحقيقية تعني أن يحصل الجميع على فرص متكافئة، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.

تطبيقات عملية

1. إصلاح النظام الضريبي: إحدى الطرق الفعالة لتحقيق العدالة الاجتماعية هي إصلاح النظام الضريبي بما يضمن توزيعاً عادلاً للثروات، يمكن تبني نظام زكاة وخمس فعال، حيث يتم توجيه هذه الأموال مباشرة لدعم المشاريع التنموية والخدمات الاجتماعية التي تخدم الفقراء والمحتاجين، بعيداً عن الضرائب الوضعية التي دمرت الاقتصاد واصبحت سبباً زيادة الاوضاع سوء.

2. تعزيز الاقتصاد المحلي ودعم المشاريع الصغيرة: يجب أن تركز السياسات الاقتصادية على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري لأي اقتصاد مزدهر، هذه الخطوة ستساهم في خلق فرص عمل جديدة وتقليل معدلات البطالة، خاصة بين الشباب.

3. مكافحة الفساد المالي والإداري: من الضروري إنشاء مؤسسات رقابية قوية ومستقلة لمتابعة الأموال العامة وضمان استخدامها في تحقيق التنمية، يمكن تفعيل دور القضاء والنزاهة في ملاحقة الفاسدين وتقديمهم للعدالة.

4. توفير الخدمات الأساسية: العدالة الاجتماعية لا تكتمل دون توفير التعليم المجاني، الرعاية الصحية، والسكن الكريم لكل مواطن، على الحكومات في العراق والمنطقة العمل على تحسين جودة هذه الخدمات وضمان وصولها للجميع.

5. توفير حق امتلاك الارض للجميع: العدالة الاجتماعية تتحقق بتوفير الارض (السكن، الزراعة، التجارة) لجميع الافراد بعيداً عن تقييدها بالقوانين والانظمة التي عرقلت ضمان حق الفرد في توفير السكن الملائم او استغلال الارض للكسب وتحصيل الرزق الحلال.

الواقع العراقي

يقول السيد الشيرازي: "إن بناء مجتمع عادل لا يتحقق إلا عندما تصبح العدالة قيمة راسخة في كل مؤسسات الدولة والمجتمع." هذه الرؤية تبقى شعلة الأمل التي يمكن أن تضيء طريق العراق والمنطقة نحو مستقبل أفضل.

العراق، كغيره من دول المنطقة، يعاني من تحديات كبيرة تعيق تحقيق العدالة الاجتماعية، الفساد الإداري والمالي أصبح جزءاً من هيكل الدولة، مما أدى إلى تدهور الخدمات الأساسية وانتشار الفقر بشكل واسع، يمكن لتطبيق فكر الإمام الشيرازي أن يشكل خارطة طريق نحو تحقيق العدالة الاجتماعية في العراق الذي قد يمثل طوق النجاة لمنع المزيد من المخاطر والانحدار من الحدوث.

على سبيل المثال، يمكن للعراق تبني سياسات إصلاح اقتصادي شاملة قائمة على مبادئ الشفافية وتوزيع الثروات، كما يمكن تعزيز دور المؤسسات الانسانية ومنظمات المجتمع المدني في دعم الفئات الهشة والضعيفة، وهو ما دعا إليه الإمام الشيرازي في أكثر من مناسبة، حيث يقول: "المجتمع الذي تظلم فيه الطبقات الفقيرة هو مجتمع على حافة الانهيار، ولن تقوم له قائمة إلا بالعدل"، هذه الكلمات تلخص الواقع العراقي اليوم، وتقدم في الوقت نفسه حلاً واضحًا: العدالة هي الطريق للاستقرار.

التوصيات:

إن العدالة الاجتماعية التي اشار اليها الإمام محمد الشيرازي ليست مجرد شعارات أو مفاهيم نظرية، بل هي رؤية متكاملة وشاملة تهدف إلى بناء مجتمعات عادلة ومتقدمة وسعيدة، من خلال القواعد الثلاث التي اسلف ذكرها (توزيع عادل للثروات، مكافحة الفساد، وتمكين الفئات الضعيفة)، كما يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية، ومنها العراق، تحقيق نقلة نوعية نحو التنمية والاستقرار من خلال:

1. تبني سياسات اقتصادية عادلة: يجب على الحكومات إعادة النظر في السياسات الاقتصادية الحالية التي تعزز الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفي مقدمتها موضوع الضرائب، كما ينبغي وضع آليات لتوزيع الثروات بشكل عادل، وتوجيه الموارد لدعم الفئات المهمشة، اضافة الى تطبيق نظام الخمس والزكاة الاقتصادي بشكل فعال لضمان توزيع عادل للثروات.

2. محاربة الفساد بشفافية وقوة: يعد الفساد أحد العوائق الرئيسية أمام تحقيق العدالة الاجتماعية، يجب تفعيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة وتقديم الفاسدين (افراد، مسؤولين، احزاب، مؤسسات) للمحاكمات العادلة، مع تعزيز الشفافية في كل القطاعات الحكومية، كما يتطلب ذلك العديد من الاجراءات الاخرى منها –على سبيل المثال لا الحصر- نشر تقارير دورية عن الإيرادات والنفقات العامة لضمان رقابة مجتمعية فعالة.

3. تمكين الفئات الضعيفة والهشة: لا يمكن تحقيق العدالة دون تمكين الفئات الضعيفة من خلال توفير فرص العمل، وتحسين جودة التعليم والخدمات الصحية، وضمان حقوق الفرد الاخرى، كما ينبغي إنشاء برامج دعم موجهة للفقراء والعاطلين عن العمل، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تساهم في خلق فرص اقتصادية مستقرة وصولاً الى تمتين الاقتصاد وتحقيق الاهداف المنشودة.

4. تعزيز ثقافة العدالة الاجتماعية: تحتاج المجتمعات إلى نشر ثقافة العدالة من خلال المناهج التعليمية والخطاب الديني والإعلامي، ينبغي تضمين مفاهيم المساواة والعدالة والانصاف والعفو والتسامح وغيرها من القيم والاخلاقيات في التعليم منذ المراحل الأولى، وتشجيع رجال الدين والمثقفين من خلال المؤسسات الدينية والاكاديمية على نشر قيم العدالة في خطبهم وكتاباتهم، مما يساهم في بناء وعي مجتمعي يحترم حقوق الجميع.

5. تطوير البنية التحتية للخدمات الأساسية: العدالة الاجتماعية تشمل أيضا توفير خدمات أساسية مثل الصحة، التعليم، والسكن للجميع دون استثناء، ينبغي تحسين جودة هذه الخدمات وضمان وصولها إلى المناطق المحرومة والريفية، من خلال استثمارات حكومية موجهة وخطط تنموية شاملة.

6. تشجيع المشاركة المجتمعية في صنع القرار: يعتبر إشراك المواطنين في القرارات السياسية والاقتصادية خطوة أساسية لضمان تحقيق العدالة، يمكن تحقيق ذلك عبر تفعيل المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، مما يعزز من مشاركة الافراد في رسم السياسات التي تمس حياتهم اليومية.

7. إصلاح النظام القضائي لضمان العدالة القانونية: يجب إصلاح الأنظمة القضائية لتكون أكثر نزاهة وشفافية، بحيث تضمن حقوق الأفراد وتحاسب من ينتهك القوانين، العدالة القانونية هي جزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية، وتطبيق القوانين بشكل عادل يساعد على بناء ثقة المجتمع في الدولة.

* مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق