في كانون الاول القادم ستجري مباحثات في باريس تشترك بها 200 دولة بهدف التوصل الى اتفاق جديد لخفض انبعاثات الكاربون الحرارية. ومن الآن وحتى موعد ذلك الاجتماع ستقوم الايكونوميست بتغطية خاصة يتولاها خبراء في قضايا الاقتصاد. هؤلاء الخبراء يؤكدون ان عملية حساب كلفة التقلبات المناخية هي مهمة صعبة للغاية.

مجلة الايكونومست في عددها ليوم 29 تموز الحالي أشارت الى ان تقلبات المناخ تضع الانسانية امام اخطار وجودية. رسالة البابا الشهيرة حول الموضوع والتي نُشرت الشهر الماضي أكّدت على هذه الخطورة "لكوكبنا المشترك"، حيث اشارت الى ان تنبؤات نهاية العالم لم يعد بالإمكان مواجهتها بالتهكم والسخرية. ومع ان التنبؤات الكارثية عادة تتم من قبل الجماعات الدينية، لكن لا بد من معرفة مدى خطورة هذا التنبؤات؟

ربما لأول مرة في التاريخ، يبدو هناك اجماع واسع بين العلماء حول هذا الموضوع. هم ادّعوا ان كوكبنا ربما يواجه مستقبلا مرعبا ان لم نستطع الاتفاق الآن على اتخاذ عمل حاسم. التغيرات في كيفية انسياب مياه البحر الى المحيط الاطلسي، ذوبان الكتل الجليدية في غرينلاند وفي القطب الجنوبي، وارتفاع مستويات سطح البحر كل ذلك ناتج عن اللامبالاة وعدم الفعل. تقدير كلفة هذه السيناريوهات الكارثية تشكل تحديا هائلاً للعلماء والاقتصاديين ايضا.

اذاً ماذا يجب ان نعمل لمواجهة هذه المخاطر الوجودية؟ احدى الافكار المتطرفة ربما هي ان احتمال الانقراض الواسع للإنسان يجب ان يحفزنا لعمل اي شيء ممكن لتجنب ذلك. الرأي المقابل يذهب الى اننا نواجه عدة مخاطر وجودية اخرى وان التركيز على واحدة فقط ربما هو عمل قصير النظر. في كتابه الملفت "الكارثة: المخاطر والاستجابة"، نُشر عام 2004، يجادل (ريشارد بوسنر) اننا لا نقوم بما يكفي للاحتراز ضد المخاطر الكارثية مثل التقلبات المناخية، وتأثير الكويكبات الصخرية او الاسلحة البايولوجية. وفي ضوء "منافسة" المخاطر الوجودية الاخرى، كم يجب ان تستثمر الانسانية من اجل تخفيف التقلبات المناخية؟

الرأي التقليدي السائد هو اننا يجب ان نضع حدا للاحتباس الحراري العالمي بـ 2 درجة مئوية. الاقتصاديون لكي يبرروا هذا الهدف، يسعون لمقارنة كلفة خفض الانبعاثات الحرارية الحالية مع منافعها. في الحقيقة، نحن امام مأزق: استثمار مزيد من الموارد اليوم في منع التقلبات المناخية يعني ترك القليل من الموارد لمكافحة المخاطر العاجلة الاخرى. من الملفت، ان رسالة البابا تعترف بان "قرارات يجب ان تتم بناءاً على مقارنة هذه المخاطر بالمنافع المتوقعة من مختلف الخيارات الاخرى الممكنة".

غير ان، تقدير هذه المنافع يعني اننا نحتاج لتقرير قيمة خفض الانبعاثات الحرارية في منع مخاطر كوارث مستقبلية محتملة. هذه هي المهمة الشاقة. الاقتصادي (مارتن ويتزمن) من جامعة هارفرد، يرى بان الخسارة المتوقعة للمجتمع بسبب كوارث التقلبات المناخية هي كبيرة جدا لدرجة لا يمكن تقديرها واقعيا. تحليلات الكلفة – المنافع، وهي الاداة النمطية للاقتصاديين في تقييم السياسات – لا يمكن تطبيقها هنا لأن خفض الخسائر اللامتناهية هي ربح لا متناهي. اقتصاديون آخرون، مثل (كينيث ارو) من جامعة ستانفورد و (وليم نوردوس) من جامعة يال، فحصوا الحدود التقنية لحجة ويتزمن. بما ان تفسير اللانهائي في نماذج المناخ الاقتصادية هو من حيث الجوهر حديث عن كيفية التعامل مع تهديد الانقراض، فان جدال ويتزمن يعتمد بكثافة على الحكم على قيمة الحياة.

الاقتصاديون يقدّرون هذه القيمة بالاعتماد على خيارات الناس الشخصية: نحن نشتري خوذة للدراجة الهوائية، وندفع المزيد لأجل سيارة موثوق بها، ونستلم تعويض لقاء الوظائف الخطيرة. ان ما يُلاحظ من مبادلة بين الأمان والنقود يفيدنا في معرفة رغبة المجتمع في الانفاق مقابل خفض مخاطر الوفاة. المئات من الدراسات تشير الى ان الناس في الدول المتطورة يرغبون جماعيا في دفع بضعة ملايين من الدولارات لكي يتجنبوا حالات الموت الاحصائية الاضافية. فمثلا، وكالة حماية البيئة الامريكية تنصح باستخدام ما قيمته 8 مليون دولار لتجنب حالة وفاة واحدة. قيم اخرى مشابهة تُستخدم لتقييم برامج اللقاحات المضادة ومنع حوادث السير او الاوبئة المتنقلة في الهواء.

الدكتور بوسنر يضرب قيمة الحياة في العدد التقديري لسكان الارض في المستقبل ليحصل على الرقم 336 مليون بليون ككلفة انقراض الانسان. اما (بوستروم) الفيلسوف في جامعة اكسفورد، يرى ان هذا الاتجاه يتجاهل قيمة حياة الاجيال التي لم تولد بعد وان الرقم يجب ان يكون اكبر من ذلك بكثير وربما لانهائي.

ان قيمة الحياة كمفهوم هي مرشح طبيعي لتقديرات مؤقتة لمنافع خفض مخاطرة الانقراض. مع ذلك، فان الاتجاه يبدو صعبا في هذا السياق. مخاطرة الانقراض هنا هي مختلفة كليا عن المخاطر الفردية التي نواجهها يوميا في حياتنا. انقراض الانسان هو مخاطرة نشترك بها جميعا وانه سيكون حدثا غير مسبوق يحدث مرة واحدة والى الابد.

ان نقص البيانات الموثوقة يفاقم الصعوبات الفلسفية والميثدولوجية التي يواجهها اقتصاديو التقلبات المناخية. الانقراض هو تهديد لأجيال المستقبل، بينما تقييم وتصميم سياسات مانعة هو التحدّي العاجل اليوم.

مؤتمر الامم المتحدة الذي سيُعقد في باريس في ديسمبر المقبل يتيح فرصة لإتخاذ خطوات ملائمة لحماية اجيال المستقبل من هذه المخاطر. العديد من الاقتصاديين لا يؤمنون بآلية التعهدات والمراجعة الحالية، ويفضلون بدلا من ذلك تطبيق نظام عام لتجارة الكاربون carbon-trading system.(1). ان هجوم البابا على الرأسمالية و الابتكارات التكنلوجية، ربما ليس فعالا جدا في التغلب على القصور الذاتي الذي تعاني منه اليوم مفاوضات المناخ.

...................................
الهوامش
(1) نظام المتاجرة بالانبعاثات هو عبارة عن تحديد حد أعلى (cap) او اقصى كمية من الملوثات الكيمياوية التي يستطيع اقتصاد معين اطلاقها كل سنة. مجموعة من الدول او الشركات تبنّت هذا النظام كإحدى الاستراتيجيات للحد من التقلبات المناخية. هذا الحد او الحصة القصوى تُخصص او تُباع من قبل سلطة مركزية للشركات على شكل ترخيص بالملوثات. الترخيص يمثّل حقا بإطلاق حجم معين من الانبعاثات الحرارية. هذه التراخيص يمكن المتاجرة بها في الاسواق الثانوية. كل شركة يُطلب منها ان تحتفظ بعدد من التراخيص او الحصص من الكاربون مساوية لملوثاتها. العدد الكلي من التراخيص يجب ان لا يتجاوز الحد الاقصى. الشركات التي بحاجة لزيادة انبعاثاتها يجب عليها ان تشتري تراخيص من الشركات التي لا تحتاج الاّ لعدد قليل من تلك التراخيص. في عملية المتاجرة بالتراخيص، المشتري يدفع كلفة التلوث، بينما البائع يحصل على مكافأة تخفيض الانبعاثات. هذا النظام طبّق في الاتحاد الاوربي عام 2005 ويغطي 11000 محطة طاقة ومعمل صناعي في 30 دولة، يشكل مجموع كاربونها 50% من اجمالي كاربون اوربا. الشركات ملزمة بقياس كاربونها والابلاغ عن ملوثاتها وان تدفع علاوة واحدة (قيمتها 16 يورو) لكل طن تطلقه من الكاربون. تجارة التراخيص هذه تحقق عائدا مقداره 150 بليون دولار سنويا.
...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق