هناك كثير من الناس يبذلون ما يستطيعون من الجهد خلال فترة شبابهم وقوّتهم، ولا يريحون أنفسهم إلا قليلاً، ولكنّهم يضحّون بـ (مسيرهم) لحساب (مصيرهم)، كما أنّ كثيراً من الناس يقضون (مسيرهم) باللهو واللغو ويقولون: ليكن (المصير) ما يكون!! كثيراً من الكبار يضحّي بالمصير من أجل المسير...
«يا أبا ذر، لو نظرتَ إلى الأجل ومصيره لأبغضتَ الأملَ وغرورَه.
يا أبا ذر، كنْ كأنّك في الدنيا غريب، أو كعابر سبيل، وعدَّ نفسَك من أصحاب القبور».
إنّ الأجل هو اللحظة التي يغادر فيها الإنسان دنياه. فهو بعد طيّ مسيره الدنيوي يصل إلى مصيره (1) الأخروي، وهذه خاصيّة الإنسان، إذ الحيوانات لا (مصير) لها.
فالأجل هو أوّل الآخرة وخاتمة الدنيا، وتبدأ عمليّة الحساب بعد الممات مباشرة، والقبر هو المصير الأوّل:
«القبر إمّا روضةٌ من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران»(2).
والمصير الذي يلي القبر هو يوم القيامة. أما المصير النهائي فهو إمّا الجنّة أو النار.
هناك كثير من الناس يبذلون ما يستطيعون من الجهد خلال فترة شبابهم وقوّتهم، ولا يريحون أنفسهم إلا قليلاً، ولكنّهم يضحّون بـ (مسيرهم) لحساب (مصيرهم)، كما أنّ كثيراً من الناس يقضون (مسيرهم) باللهو واللغو ويقولون: ليكن (المصير) ما يكون!!
إنّ الطفل الذي يعِدُه أبوه بالجائزة إن استحمّ وتنظّف، يدرك على مستواه معنى وضرورة التضحية بالمسير لصالح المصير، أي أنّه يتحمّل إزعاج الاستحمام من أجل الوصول إلى الجائزة الموعودة، إلا أنّ كثيراً من الكبار ـ مع الأسف ـ يضحّي بالمصير من أجل المسير.
إذا فكّر ابن آدم في عاقبة الأمر وتساءل مع نفسه عمّا سيكون مصيره؛ الجنّة أو النار، حيث مطلق النعيم أو مطلق العذاب والسخط، فإنّه لن يغفل بعد ذلك عن ذكر الله تعالى، ولن تخدعه أمانيه، وسيقول لنفسه: إنّ أولئك الذين قضوا نحبهم كانت لهم آمالهم، الصغير منهم والكبير، ولكنهم رحلوا جميعاً مع أمانيهم وآمالهم.
وحين يفكر الإنسان بهذه الطريقة المتعقّلة، سيهجر أمانيه. لاشك أنّ مجرد التمنّي ليس أمراً معيباً، ولكن ما يعتوره من الكذب والغرور يجرّ ابن آدم إلى حيث وادي الغفلة والجهل والضياع.
الغربة في الدنيا
يقول النبيّ صلى الله عليه وآله:
«يا أبا ذر، كن كأنّك في الدنيا غريب...»
كما أنّ الفرد الذي يعيش في بلاد الغربة، ويجهل قوانينها، ولا يعرف لغتها، يستعلم من الناس عمّا يحتاج إليه من إعداد المسكن والطعام، ويسأل أهل الخبرة والعلم عن كلّ شيءٍ يشكّ فيه. فكذلك ينبغي أن يكون حال ابن آدم في غربة الدنيا، فإن لم يعلم أمراً، وجهل حكمه الشرعي، فعليه أن يتورّع عن الخوض فيه حتى يسأل أهل الخبرة والعلم، من أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، إذ يجب أن يسأل هؤلاء عن السلعة المرغوبة في سوق الآخرة، فيحملها إليها من دار الدنيا.
وواقع الأمر يؤكّد ضرورة أن تكون جميع أعمال المؤمنين محطّ تأييد ورضا أهل البيت سلام الله عليهم، وأنّ الخاسر هو من يقضي عمره في ممارسة أعمال يظنّها صالحة وما هي كذلك لأنّها لا تحظى برضا الربّ المتعال في الدار الآخرة، ولم تكن موضع تأييد المعصومين عليهم الصلاة والسلام.
إنّ الله تعالى جعل رسوله المصطفى وأهل البيت سلام الله عليهم طرقاً مضيئة إلى إنجاز أعمال الخير والصلاح، وهؤلاء لا انفصام بينهم، إذ لابدّ من الالتزام بأوامرهم جميعاً لممارسة الدين.
وفي عصر الغيبة ـ غيبة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ يلزم الرجوع إلى الفقهاء الذين لهم آراؤهم المستقاة من القرآن والسنّة، بعد أن يفرغوا كلّ جهدهم في هذا السبيل.
على سبيل المثال: كان المرحوم آية الله العظمى السيّد مهدي الشيرازي يجلس من أجل البحث في قضية استفتائيّة إلى عدّة من المراجع والمجتهدين في عصره، مثل المرحوم السيّد حسين القمّي (3) والسيّد محمد هادي الميلاني (4) والميرزا الأصفهاني (5) وزين العابدين الكاشاني، وقد يقضون في مسألة واحدة أسبوعاً من التفكّر والتأمّل؛ كلّ ذلك من أجل إحراز أكبر نسبة من الحقيقة والواقع الشرعي.
* * *
ثم قال صلّى الله عليه وآله: «أو كعابر سبيل».
إذا أراد شخص ما التوجّه من مدينة إلى أخرى، فإنّه لا يهتمّ للطريق الرابط بينهما إلا بما يضمن عبوره بسلام، دون الالتفات إلى خصوصيّات المناطق الكائنة فيه، إذ إنّ ما يتعلّق به هو سرعة وسلامة الوصول، وهكذا أراد النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله للإنسان أن ينظر إلى الدنيا كما ينظر المسافر إلى الطريق، فلا تشغله الجادّة عن الوصول إلى المقصود.
* * *
وقال صلّى الله عليه وآله: «وعدّ نفسك من أصحاب القبور».
أي لا تلجئ نفسك إلى الارتباط بالدنيا طرفة عين، وتخيّل أنّك تعيش آخر أيّامك بل تصوّر أنّك قد وُضعت في القبر، وأُهيل عليك التراب، وبقيتَ وحيداً مع أعمالك، وأنّ أهلك وأصحابك قد تركوك.
ذُكر في كتب المواعظ والإرشاد: أنّ شابّاً من الأنصار كان يأتي عبد الله بن عباس، وكان عبد الله يكرمه ويدنيه، فقيل له: إنك تكرم هذا الشاب وتدنيه، وهو شابّ سوء يأتي القبور فينبشها بالليالي! فقال عبد الله بن عباس: إذا كان ذلك فأعلموني. قال: فخرج الشابّ في بعض الليالي يتخلّل القبور، فأُعلم عبد الله بن عباس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشاب، قال: فدخل قبراً قد حفر، ثم اضطجع في اللحد، ونادى بأعلى صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي، ونطقت الأرض من تحتي، فقالت: لا مرحباً بك ولا أهلاً، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري، فكيف وقد صرت في بطني! بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً، والملائكة صفوفاً، فمن عدلك غداً من يخلّصني؟ ومن المظلومين من يستنقذني؟ ومن عذاب النار من يجيرني؟ عصيت من ليس بأهل أن يعصى، عاهدت ربّي مرّة بعد أخرى فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاءً.
وجعل يردّد هذا الكلام ويبكي. فلما خرج من القبر التزمه ابن عباس وعانقه، ثم قال له: نعم النباش، نعم النباش، ما أنبشك للذنوب والخطايا، ثم تفرّقا(6).
نعم! إنّ شابّاً ينشغل بذكر الموت والآخرة لذو حظٍّ عظيم، ولعمله هذا قيمة كبرى.
اضف تعليق