شهر رمضان يختلف عن الشهور الأخرى بمزايا كثيرة، فهو يتميز بأعظم تسمية وهي (شهر الله)، ولهذه التسمية العظمى دلالاتها التي تبيّن للإنسان مدى أهمية هذا الشهر، وتوضّح له الفوائد التي لا يصح هدرها، كونها عطايا إلهية يمنحها الله تعالى لعباده في هذا الشهر تحديدا...
(شهر رمضان المبارك هو شهر التزكية فعلينا أن نزكي أنفسنا فيه)
سماحة المرجع الشيرازي دام (ظله)
شهر رمضان يختلف عن الشهور الأخرى بمزايا كثيرة، فهو يتميز بأعظم تسمية وهي (شهر الله)، ولهذه التسمية العظمى دلالاتها التي تبيّن للإنسان مدى أهمية هذا الشهر، وتوضّح له الفوائد التي لا يصح هدرها، كونها عطايا إلهية يمنحها الله تعالى لعباده في هذا الشهر تحديدا، ولذلك استحق شهر رمضان هذه المكانة المتميزة، لكونه شهر التزكية والإنقاذ.
ألا يستحق شهر رمضان بهذه المزايا أن نستعد لهُ بما يليق به، وبما يتيح لنا استثمار الفرص الكبيرة التي يمنحها للناس كي يشذبوا أنفسهم، ويقللوا أو يمحوا خطاياهم؟، لقد أنزل الله في هذا الشهر (أعظم كتاب في تاريخ السماء)، وهذا وحده دليل قاطع على مكانة هذا الشهر وعظمته، فضلا عن المناسبات المقدسة الأخرى التي حفل بها شهر رمضان، وهي كثيرة وكبيرة كلها تمنحه القدسية الخالدة.
من الأمور الواضحة لمن يؤمن، ومن يتعظ، ومن ينتهز الفرص التي يفوز بها، أن شهر رمضان المبارك فرصة كبيرة إذا حظيَ بها الإنسان، فسوف يحصل على نتائج مهمة، بل وفريدة من نوعها، أولها الفوز بالتزكية الإلهية، في تمكن من الاستعداد الجيد في استقباله لهذا الشهر وفي تأدية واجباته القائمة على اليسر وليس العسر.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة:
(في استقبال شهر رمضان الفضيل الذي خصّه الله تعالى بأن أنزل فيه أعظم كتاب في تاريخ السماء لإسعاد البشريّة إلى الأبد، وخصّه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بأن وصفه بقوله: «وجعلتم فيه من أهل كرامته»، ينبغي لعامة المؤمنين والمؤمنات في كل مكان من أرجاء الأرض، أن يهيّئوا أنفسهم للاستفادة الكاملة من هذه الضيافة الربّانية العظيمة والشاملة).
إنها ضيافة الخالق لعباده، وهذه الضيافة تشكل تطورا مفصليا في حياة الإنسان، في حال تمكّن من استثمارها بالطريقة المثلى، وهو قادر على ذلك، فكلّ ما في الأمر أن يأخذ بعين الاعتبار الاستعداد التام والصحيح لهذا الشهر، من حيث تهيئة الروح لمعانقة الطقوس الرمضانية، والتمسك بالصيام وترك كل ما يبطله، وهي مبطلات معروفة ومُعلَن عنها، ويمكن للإنسان فهمها وهضمها بيسر وبساطة.
لكن الأهم والأكبر والأصعب هو الالتزام بها، لاسيما أن الله تعالى هيّأ هذه الفرصة لنا كي نتقرّب إليه بكل ما نتمكن، ومن خلال هذا التقرّب الصادق النقي وفق النيّة الصافية، نستطيع أن ننال رحمة وتزكية الرحمن، لأن فرصة شهر رمضان بالأساس جاءت بدع المحبة الإلهية لعباده الكرام.
ردع النفس بصوم الجوارح
لدينا نماذج سبق أن فازوا بهذا الشهر الكريم، وحصلوا على التزكية المطلوبة، حين تمسكوا بما يريده الله تعالى من صالح للعباد، نعم لدينا نماذج تسهّل لنا عملية الفوز بمرضاة الله، وتفتح لنا أبواب التقوى، وتشرع أمامنا نوافذ النجاح، بمجرد أن نحاكي أقوال وأفعال أئمتنا الأطهار عليهم السلام.
لقد رسم أئمة أهل البيت عليهم السلام خارطة طريق واضحة المعالم، يجب أن نمضي في خطوتها قُدُما، إنها ميسّرة وسهلة التطبيق، تتلخص في أول خطوة باستعداد الإنسان لهذا الشهر من حيث الالتزام بما يريده الله، والسيطرة على المشاعر والجوارح، والارتقاء بالروح إلى أعلى الدرجات، فهذا الاستعداد كفيل بمساعدة الإنسان على الحصول على التزكية التي تنقذ البسر من مصاعب الدنيا، وتمنحه سعادة الآخرة فيظفر بما يتمناه كل عبد صالح نقي مخلص.
يعد التقرّب إلى الله شرطا من شروط الاستعداد لهذا الشهر، أما سبل هذا التقرّب فهي معروفة، تأتي في المقدمة منها، أن يختلف الإنسان عمّا كان عليه قبل شهر رمضان، نعم يجب أن يكون إنسانا مختلف في إيمانه، وسلوكه وأقوله، والتزامه وتوبته، ويجب أن يسيطر على جوارحه كلّها سيطرة لا تقبل التردد أو التلكّؤ أو المهادنة، إنها فرصة التغيير التي تنقذ الإنسان من نفسه.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إن والله تعالى ينتظر أن نتقرّب إليه أكثر فأكثر؛ لأنه يحبّنا أكثر من حبّ الأم لابنها كما في بعض الروايات. بل يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم»(4). والظاهر أن العلة هنا منحصرة، واللام لام التعليل. إذاً ينبغي لنا أن نستفيد من هذا الشهر العظيم أكثر فأكثر ونزيد من اقتدائنا بأهل البيت سلام الله عليهم).
لماذا تم التركيز على الاستعداد والتهيّؤ الجيد لشهر رمضان من قبل الناس؟، سؤال يحمل معه أهميته الكبيرة، فمن يتهيّأ لإنجاز مهمة كبيرة كالصيام، عليه أن يعي أهمية ما يستعد له، ويعرف تفاصيله جيدا، ويهضم النتائج التي سوف يخرج منها في نهاية المطاف، فمن يتعب ويستعد ويصبر كثيرا، يفلحُ أخيراً.
لذا من أهم خطوات الاستعداد للصوم التسلّح بالتقوى، ذلك أن من يبلغ هذه الدرجة وهذا الركن الأهم (التقوى)، يكون قد بلغ درجة الصيام في أتم وأعلى مراتبها، فالصوم لا يقع في درجة واحدة، أو في مستوى واحد، بل يأتي في مراتب ودرجات، ومن يصوم شهره رمضان متحلّيا بالتقوى، هو الذي يقطف الثمار الأعظم.
فرصة إقران الصوم بالتقوى
هناك من يصوم ظاهريا، أي أنه يعلن صومه للناس، لكنه للأسف لا يرفق صومه بالتقوى، فيرتكب محرّمات بالخفاء أو بالعلن، فهل يمكن مساواته مع الصائم المتقّي، الملتزم، الذي لا يقرب الحرام مطلقا، لا يمكن المساواة بين الاثنين، لذلك يأتي التركيز على التهيّؤ لهذا الشهر، حتى يفهم الصائم نوع الصيام الصحيح المكتمل الذي يمكن أن يبلغ بصاحبة تزكية النفس.
الصيام الصحيح هو صوم الجوارح، فلا يجوز الصوم مع إطلاق هوى النفس، الصوم ليس الانقطاع عن الطعام والشراب، هذا صيام ناقص، ولن يكتمل إلا بصوم النفس، ومسك الجوارح، وإلا ليس للإنسان من صومه سوى (الجوع والعطش)، إذ لا ثواب له على صيامه غير المكتمل، والاستعداد الصحيح، هو الذي يساعد الإنسان على بلوغ مرتبة الصوم العليا المقرونة بالتقوى.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:
(لا يخفى أن للصوم مراتب، والصائم الذي يبلغ التقوى هو الذي يكون صائماً حقيقة، لا الذي تقول عنه الروايات كحديث الإمام علي سلام الله عليه: «كم من صائم ليس له من صومه إلا الظمأ والجوع»، بل الذي يصوم وتصوم جوارحه أيضاً، كما في الحديث عن الإمام الصادق سلام الله عليه:«إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك». فصيام كهذا لا شك سيكون سبباً لأن يصير الإنسان متقياً).
توجد لدى الإنسان معتقدات، تقابلها ميول أو أهواء النفس، هذان النقيضان يُدخلان الإنسان في صراع محتدم، ونتيجة هذا التصادم سوف تتحكم فوز الإنسان أو خسارته، ومن ضمن فوائد التهيّؤ لشهر رمضان، أن يعي الإنسان هذا الصراع ويستعد له، فإذا ضبط نفسه عن أهوائها، وردع شهواتها المنفلتة، وفهم عقائده وتمسك بها، فاز بفضائل ومزايا الشهر الكريم.
الاستعداد يعني كبح الشهوات خارج المسموح به، وهذا يقود إلى تقوى الصائم، ومن ثم حصول الصوم على درجة القبول والنجاح، وبالتالي خروج الإنسان من شهر رمضان الكريم بدرجة نجاح تؤهله لقطف ثمار (الصوم المقترن بالتقوى)، وهي ثمار عظيمة لا يحصل عليها إلا الصائم المتقي.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(إن الله سبحانه وتعالى أودع في باطن كل إنسان قوتين مهمتين متضادتين لهما الدور البالغ والمؤثر والمصيري في جعل الإنسان سعيداً أو شقيّاً، وهما: المعتقدات والأهواء أو الميول. وقد عُبّر في القرآن الكريم وفي روايات أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين عن الأول بـ (العقل) وعن الثاني بـ(الشهوات). وفي الحقيقة يمكن القول أن سر سعادة الإنسان وتوفيقه هو تفضيل إملاءات عقله على إملاءات شهواته).
أنتَ إذاً أمام فرصة عظيمة، مقرونة بامتحان (الصوم المقترن بالتقوى)، فعليك أن تتهيّأ لذلك، وتستعد بصورة جيدة لهذا الشهر الذي لا يتكرر سوى مرة واحدة في السنة، عليك أن تكف عن الحرام بكل أشكاله، وتكف عن التبرير والتحايل للكسب غير المشروع أو سواه من المحرّمات، ربما تكون في موقع لا يستطيع أن يمنعك أحد عن الحرام، لكن الله سوف يحاسبك.
شهر رمضان فرصتك للتوبة النصوح، فاستعد لهذا الشهر الكريم بما يليق بمكانته عند الله تعالى، وبما يخرجكَ من هذا الشهر إنساناً صالحاً.
اضف تعليق