إسلاميات - المرجع الشيرازي

جائحة كورونا مَن الرابح ومن الخاسر؟

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

لابد أن كثيرا من سكان الأرض ونحن نمر بجائحة كورونا عرفوا قيمة الحياة أكثر من ذي قبل، والكثير ممن كانوا يتساءلون عن جدوى الحياة، ويتذمرون من أوضاعهم المعيشية أو الفكرية العبثية أو غيرها، بدأوا الآن يعثرون على أجوبة مناسبة لتلك التساؤلات بعد أن فقدوا عيشهم الطبيعي...

لابد أن كثيرا من سكان الأرض - ونحن نمر بجائحة كورونا - عرفوا قيمة الحياة أكثر من ذي قبل، والكثير ممن كانوا يتساءلون عن جدوى الحياة، ويتذمرون من أوضاعهم المعيشية أو الفكرية العبثية أو غيرها، بدأوا الآن يعثرون على أجوبة مناسبة لتلك التساؤلات بعد أن فقدوا عيشهم الطبيعي الذي كانوا متذمرين منه والآن يتمنون أن يعيشوه بكل مصاعبه وعيوبه!!

اليوم بدأ سكان الأرض، لاسيما العبثيون منهم، وأولئك الذين لا يعرفون الهدف من خلقهم، صارت الحقائق واضحة أمامهم بعد أن بات الفايروس القاتل يتربص بهم، ولا يعرفون متى يخترق حصونهم الواهنة، الآن صار الإنسان العبثي وسواه على معرفة تامة بقيمة الحياة، وبالهدف الذي خُلقَ من أجله الإنسان.

ولكن المشكلة أن طبيعة البشر أنهم ينسون أو يتناسون الدروس القاسية التي يمرون بها، ويعودون إلى سابق عهدهم، إلى عبثيتهم، ولا جدواهم، وتساؤلاتهم عن قيمة الحياة، ولكن هناك من لا ينسى الدرس، ويتمسك بتفاصيل التجارب الصعبة التي تمر به، إلا أن هناك من يبقى رغم الدروس عاجزا عن تغيير نفسه وأفكاره وثوابته الخاطئة، هؤلاء هم من يجب عليهم أن يستفيدوا من جائحة كورونا، وعليهم أن يعرفوا جيدا أسباب خلقهم وإلى أين ينتهون؟

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول عن ذلك في كتابه القيم الموسوم بـ (إضاءات):

(الشيء الذي له قيمة عند الله تعالى هو أن يعرف الإنسان لماذا خُلق؟ ومن أين أتى؟ ولماذا جاء إلى هذا الوجود؟ وإلى أين سينتهي؟!)

وحين يعرف الإنسان إلى أين سينتهي، سوف يعيد حساباته الخاطئة، وسوف يغيّر كل السلوكيات التي تؤدي به إلى الخسران، فهناك من الناس من هو مسؤول عن الملايين (كالحكّام والقادة والوزراء والمدراء وغيرهم)، نزولا إلى مسؤولية أدنى وصولا إلى مسؤولية العائلة وحتى النفس، فهناك حق لنفس الإنسان عليه كما يفصّل ذلك في رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام.

وتوجد عقبة يعاني منها الإنسان، هي عدم مقدرته على التفريق بين المسؤولية والرغبة، بمعنى هناك من يقوم بمسؤولياته وفق ما تملي عليه رغباته، وليس وفق ما يمليه عليه جوهر المسؤولية، ومتى ما تمكّن المسؤول والإنسان من التفريق بين المسؤولية واشتراطاتها وبين رغبته في أداءها، كان مسؤولا وإنسانا ناجحا.

عن هذه القضية بالذات يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أنّ: (المسؤولية شيء، والرغبة شيء آخر، ويحسن الفصل بينهما جيّداً).

لماذا خُلِق الإنسان وإلى أين سينتهي؟

هذا لن يتحقق ما لم يعرف الإنسان الغاية من خلقه، ويؤمن بالمآل الذي سيؤول إليه، وهذا أيضا يحتاج منه إلى درجة عالية من التفكير العميق، القائم على التحليل وجمع الأدلة والاستنباط، وصولا إلى نتائج ليست مادية لكنها غير قابلة للنقض أو الإنكار، هذه العمليات الذهنية تدور في دائرة العقل، لذلك يحتاج الإنسان حتى يصل إلى هذه الدرجة العالية من الإدراك إلى اكتمال العقل.

عند هذا المستوى من النضوج الذي ينهض على قاعدة صلبة من الإيمان بعد البحث والمقارنة والتحليل، يكتسب الإنسان بكل مؤهلاته وبكل تبايناتها صعودا أو نزولا، أن يحكم نفسه، ويحد من أهوائه، ويؤدي مسؤولياته بمعزل عن رغبته الشخصية ومنافعه، وفي هذه الحالة لن يكون هناك ظلم ولا جهل ولا حرمان، فالإنسان المسؤول هنا يتحلى بعقل مكتمل ويؤدي المسؤولية بحذافيرها.

لذلك يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إذا كمل عقل الإنسان، لم يركض خلف أهوائه، فهل سيكون ثمة ظلم أو فقر أو بؤس؟ كلا بالطبع).

نعم سوف ينتفي الظلم ويقترب العدل من الدرجة الصحيحة بين الناس، لأن اكتمال العقل يعني اكتمال الإيمان، والأخير يُعدّ عمود الحياة السويّة التي تقوم على إنصاف الإنسان المسؤول لكل من يدخل ضمن دائرة مسؤوليته، بمعنى إذا آمن القائد أو المدير أو رب العائلة إيمانا لا نقص فيه (وهو حصيلة اكتمال العقل)، فإنه لن يرتكب الأخطاء بحق من يقع في دائرة قراراته وإدارته.

ونحن في حياتنا الراهن بالأخص المسلمين والعراقيين بحاجة إلى مسؤولين مؤمنين مكتملي العقول، ولعلّ جائحة كورونا وهذا الذي حدث ولا يزال يحدث لنا، سيجعل الناس جميعا، وخصوصا المسؤولين قادرين على محو أخطاءهم السابقة، كالقرارات الجائرة أو التجاوز على حقوق الناس بالاختلاس والفساد وسواه، وبهذا تكون هذه المحنة العالمية الخطيرة قد أصبحت درسا لنا، لاسيما من يمتلكون مناصب حساسة وقادرين على التأثير في تحسين أو تدمير حياة المواطنين.

هناك قول ذائع الصيت مفاده (إن الضربة التي لا تقتلك سوف تقوّيك)، وإذا خرجنا من جائحة كورونا سالمين، ليس أمامنا سوى استثمار هذا الدرس لصالحنا، لاسيما ما يخص الحكام والمسؤولين لأن الناس البسطاء ليس لديهم تأثير كبير على الآخرين، ولا يمتلكون القدرة على التحكم بمصائر الناس وحياتهم كما هو حال الحكام والمسؤولين، لذلك يبقى الأمل قائما بالاستفادة من هذه التجربة الأخطر، كي يفكر القادة والحكام بتغيير أفكارهم وتصحيح أخطاءهم من خلال اكتمال العقل والإيمان.

سماحة المرجع الشيرازي يقول (دام ظله):

(إذا كمل عقل الإنسان، كملت عقيدته وكمل إيمانه، بل كملت حياته أيضاً).

استثمار الأوبئة والأزمات للتصحيح

ولا نستبعد عدم استفادة البعض من الدروس والتجارب العصيبة، فهذا النوع من البشر لا يوقف انحرافهم إلا القبر، بل هناك من يسعى ويحاول خداع الناس، وأظهرت لنا المواقف والأوضاع أن هنالك من ذوي المناصب الحساسة والمراكو الاجتماعية أو حتى الدينية لا يخرجون من التجارب بحصيلة التصحيح، بل بحصيلة الاستمرار والإصرار على الزيف والنيّات السيئة.

وقد تمر بعض الحيَل على البسطاء، بل حتى على الأذكياء، فما يضمره المسؤول وحتى البشر العادي في صدره ليس معروفا من قبل الآخرين، لكن الشخص البسيط إذا ضمر نيّة سيئة قد تؤثر على فرد واحد أو مجموعة قليلة، أما لو كان مسؤولا قائدا أو مديرا فإن ضرر النيّة المخبوءة سيكون فادحا وعاما، وهنا مكمن الخطورة، وقد يتخيّل أصحاب النيّات السيئة أن الناس لا تكشفهم، ولكن هل سيمرّ هذا الزيف والاحتيال على الله تعالى؟؟

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(قد ننجح في غشّ من لا يعرف نوايانا وما يدور في أذهاننا، ولكن هيهات أن نغش الله تعالى).

هناك من ينظر إلى جائحة كورونا على أنها فرصة لإعادة النظر بكل ما يتعلق بأعماله وأفكاره وحياته كلّها، وهناك من يعيش في وادِ والآخرون في وادِ آخر، أما من يجد في الكورونا فرصة للتصحيح الحقيقي، فهؤلاء هم من سينجحون ويستحقون حياة أفضل، لاسيما إذا كانت مراكزهم حساسة وعالية من حيث الصلاحيات والقرارات التي تؤثر في حياة الناس، وهناك نوع آخر لا يعبأ بشيء وهؤلاء هم من تمر عليهم التجارب مرور الكرام لتعجّل بنهاياتهم وترمي بهم نحو الحضيض، لهذا يجب التفكير بعمق ورويّة والتفكّر الجاد القائم على إيمانٍ راسخٍ وصادقٍ ومعرفةٍ بما سيؤول إليه مصير - الإنسان سواءً كان مسؤولا أو إنسانا عاديا-، يوم لا ينفع في مال ولا بنون.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إذا خلونا بأنفسنا وخاصة إذا هدأت العيون، فليفكّر كلّ منّا مع نفسه ويقول: من أكون لكي أظلم أو أوذي الناس أو أفعل المحرّمات؟ ثم إلى ماذا سيكون مصيري؟ وأين أبي وجدّي وأقربائي وأصدقائي الذين عاشرتهم ثم مضوا؟ فهل سأبقى أم سأرحل مثلما رحلوا؟ أكُتب الموت والحساب لهم دوني أم كلنا ملاقٍ هذا المصير؟).

منَ الأهمية بمكان أن يبحث المرء في وجوده، لماذا جاء الدنيا، وماذا عليه أن يفعل، وما هي النتيجة التي سينتهي إليها؟، هذه التساؤلات أزلية، وجودها مقرون بوجود الإنسان، لكن ليس كل البشر يلتزمون بالإجابات الصحيحة، حتى لو تعرضوا لجائحة كارونا أو سواها، ودائما هناك رابحون وخاسرون، أما الخاسرون فهم أولئك الذين يكتفون بالدنيا مكاناً لهم فيعيثون فيها فساداً، وأما الرابحون فهم الذين يستثمرون الأزمات والمصاعب كي يكسبوا الدارين....

اضف تعليق


التعليقات

حامد عبد الحسين خضير
العراق
مقال رائع جداً
كونه مقال جيد يجعل الإنسان يقف ويعيد حساباته وتوظيفها بالاتجاه الصحيح.
نتمنى الاستمرار في هكذا مقالات هادفة تسعى لتغير تفكير الانسان وسلوكه بالاتجاه السليم.
مع الاحترام والتقدير2020-03-27