q
إن روعة التأريخ تتجلّى في هذه الإشراقات التي أوقدت في تخومه دلائل السمو، وأرست في تضاريسه دعائم الخلود، ورسمت له ملامح الحقيقة التي أحيته وبعثت في فصوله دفقات الحياة، هذه الإشراقات التي انطلقت من النفوس المشرقة المضيئة التي نفخت من سيرتها في روحه فأحيته ووهبته شخصيته وكنهه ووجوده فأصبح بفضلها الماضي الحي...

وقف عفيف بن قيس بن معد يكرب الكندي أمام المشهد الذي رآه مذهولاً ... لم يصدق عينيه.. تساءل مع نفسه وهو يراقب المشهد بإمعان ودهشة: أيمكن أن يكون هذا في مكة!! .. مكة التي لم تألف غير السجود للأوثان!! أيمكن أن تسكت قريش عن أناس يعبدون غير أصنامهم وفي أرضهم !!

كان عفيف هذا من التجار وقد جاء إلى مكة فحج ثم التقى بالعباس بن عبد المطلب لمحادثته في أمور التجارة، وفيما هو يحادثه بمنى إذ حانت منه التفاتة فرأى رجلاً وقد خرج من خيمة قريبة منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت إلى المغيب وقف وهو يؤدي صلاة لم يرَ عفيف مثلها من قبل، بل لم تعرفها مكة مطلقاً، وبعد قليل خرجت امرأة من تلك الخيمة الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي مثل صلاته، ثم خرج بعدها صبي من ذلك الخيمة أيضاً، فقام معهما يصلي..!!

وَجِم عفيف لهذا المشهد الذي لم يرَ له سابقاً لا في مكة ولا في غيرها فقال للعباس: من هذا يا عباس..؟ فقال العباس: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد، وهذا الفتى هو علي بن أبي طالب ابن عمه، فقال عفيف: فما هذا الذي يصنع؟ قال العباس: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر ووالله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة !!

قال العباس ذلك وهو يحاول أن يصرف نظر عفيف عن هذا المشهد، وكأنه يريد أن يقول له لا تهتم لابن أخي ومن معه فلو أراد الله أن يرسل نبياً لأرسل واحداً من زعماء قريش الأغنياء وليس رجلاً فقيراً مثل محمد، كما أن الأشياء التي وعد بها فوق طاقة قريش كلها، بل هي مستحيلة الوقوع وضرب من الخيال...

ولكن هذا المشهد بقي في ذاكرة عفيف وكُتب له أن يرى ما قاله له العباس على لسان الصادق الأمين فكان يتحسّر أن جبهته لم تكن رابعة هذه الجباه المقدسة فقال: (لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ، فأكون ثالثاً مع علي بن أبي طالب).

مكة

في جوٍ يعجُّ بمظاهر الفساد الإداري والاجتماعي والتفاوت الكبير والطبقية المقيتة التي تتأرجح بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وفي مجتمع تسوده الوحشية والرذيلة وتعشش فيه الأباطيل والخمور والفجور وغزو القوي للضعيف، وتهيمن على عقول الناس فيه الأوثان والاصنام، أطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) نداء السماء والدعوة إلى المساواة والعدل والإنصاف والرحمة والإنسانية ونصرة المظلومين الذين يرزحون تحت سوط العبودية والقنانة واستغلال المتنفذين فلم يستجب له سوى شخصين كان هو .... ثالثهما

محمد .. علي .. خديجة

إن روعة التأريخ تتجلّى في هذه الإشراقات التي أوقدت في تخومه دلائل السمو، وأرست في تضاريسه دعائم الخلود، ورسمت له ملامح الحقيقة التي أحيته وبعثت في فصوله دفقات الحياة، هذه الإشراقات التي انطلقت من النفوس المشرقة المضيئة التي نفخت من سيرتها في روحه فأحيته ووهبته شخصيته وكنهه ووجوده فأصبح بفضلها الماضي الحي الذي شخص بالمواقف العظيمة والشواهد النادرة والأعمال الخالدة، فهو بدون هذه الإشراقات عقيم المغزى، عديم المعنى، إنها جوهره الذي لا يخبو، وشمسه التي لا تأفل، ومنبعه الذي لا ينضب، مهما تعاقبت عليه الحقب، بل يزداد بها تألقاً وإشراقاً يوماً بعد يوم، فهي فيه كالمطر كلما ازداد هطوله وتغلغل في أعماق التربة تتبرعم منه قامات السنابل.

إن المسار الذي رسمته تلك القامات السامقة في مدار التاريخ كان مساراً استثنائياً خاصاً لا يتكرر في دورة التاريخ... لقد أرست هذه القامات العظيمة مستقبل أمة بأكملها وأنقذت مجتمعات من براثن التخلف والجهل

إننا نقف الآن أمام أحدى هذه القامات الشاخصة والمشرقة والخالدة في تاريخنا الماضي والحاضر لنستاف منها ألق المستقبل..، إننا نقف أمام عظمة خديجة المرأة الملائكية التي أرست أحدى الدعامات الثلاث للإسلام.. وكلما توغلنا في هذه السيرة العظيمة كلما ازددنا خشوعاً وإجلالاً حتى أعيا اللسان عن ترجمة ما غزا القلب من وهج الذكرى وألق النجوى

فأيّ قنوتٍ يبسملُ اسمَكِ النابضَ في تراتيلِ السماء..؟

وأيَّة قصيدةٍ تحبسُ دموعَها عند نجواكِ..؟

أمْ.. أيِّ فجرٍ ينثرُ الندى لغيرِ وجهِك..؟

يا إيقونة الجلال، وأنفاس الوحي، وعبق النبوة، ونبع الطهارة، وشذى القداسة، وسنة الحزن، وحكمة الدموع، وظِلال النبوة...

الدعوة

القافلة محمّلة بالنورِ تدندنُ الحلمَ على رفيفِ الملائكة وهمسِ جبرائيل

ها قد جاء بالواحة.. استعدي يا خديجة فقد بدأت رحلة السماء

الوجوهُ المكفهرّة التي ألصِقتْ بالحجر تصمّ آذانَها لنداءِ الغار

الجبلُ يتفطرُ خشيةً من ثقل النداء..! ولكن الجباهَ التي أدمنت التمرُّغَ على اللاتِ والعزّى تحجّرت قلوبُها..

خديجة .. صِلِي جناح ابن عمك.. إنه نداء القلب.. إنهم لا يرون ما ترين يا خديجة..! ها هو محمد قد وقف ووجَّه وجهَه في خشوع إلى من رآه ولمْ يره أحدٌ سواكِ وعلي ولكن من مثلك ومثله..!!!

(والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).

سيرة الشمس

خديجة... الطاهرة الزكية رمز الطهارة والعفاف والشرف، لقّبت بالطاهرة قبل الإسلام، ثم تشرّفت بالإسلام وتشرّف بها، فمع الإسلام احتلت خديجة موقعها الحقيقي وازداد الإسلام بها إشراقاً، وأدّت دورها العظيم وأبدلت تجارة الدنيا ومتاعاً يفنى إلى تجارة لا تبور، وشاركت في تجارتها الصادق الأمين فربحت ربحاً لا يبلى وحصلت على كنز لا يفنى وهو الفوز العظيم في الدنيا والآخرة.

خديجة.. كانت تنتظر هذه التجارة وهذا الشريك الأمين الذي اختاره الله واصطفاه على عباده لحمل أمانة خاتمة الشرائع فهنيئاً لها به وهنيئاً له بها.

خديجة.. ما أرجح عقلك أيتها السيدة العظيمة؟ وما أشد يقينك، بل ما أطهر قلبك الذي تخلى عن ترف الدنيا ولم يخفق لبشر سوى لسيد البشر فبزغ اسمك في سماء المجد وأشرع في ضفاف الخلود مع سيدات العالمين أجمع، اللاتي اصطفاهنّ الله وطهرهنّ: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)

نسب الضياء

خديجة... بنت الحسب المؤثل، والشرف الرفيع، والعماد الأسنى، والسنام الأعلى، لم يكن لها كفؤاً ولم يرتفع إلى شرفها شرف في قومها ...

جدها... أسد بن عبد العزى من أقطاب حلف الفضول الذي أذعنت له قريش ودانت لحكمه وقراره

أبوها خويلد بن أسد، من سادات قريش ووجوهها ومن حماة الكعبة وكان من شأنه العظيم أن يقف بوجه آخر ملوك التبابعة ــ ملوك اليمن ــ ويمنعه من أخذ الحجر الأسود مع وجوه قريش فكانت قريش تفخر بهذا الرجل..

كان رأي قريش سديداً عندما ضمّته إلى الوفد الذي بعثته إلى اليمن بعد عام الفيل بسنتين لتهنئ الملك سيف بن ذي يزن بانتصاره على الأحباش وطردهم من اليمن.

خديجة.. تقلبت في الساجدين فجميع أجدادها كانوا من الأحناف الذين رفضوا عبادة الأوثان وبحثوا عن الدين الحق ولم يعبدوا صنماً قط، بل كانوا يعبدون الله وعلى ملة إبراهيم (عليه السلام) ومن المنتظرين ظهور النبي الخاتم وما أقدس ما ذخروا له..؟

خديجة... تلتقي مع النبي (صلى الله عليه وآله) عند قصي وهو جد النبي الرابع وجد خديجة الثالث فنسب النبي الشريف هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن (قصي) بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر بن نَزار بن مَعدّ بن عدنان .

أما نسب خديجة (عليها السلام) فهو: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن (قصي) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر بن نَزار بن مَعدّ بن عدنان.

هذا النسب هو دليل الأرض وبوصلة السماء، والذي لولاه لما عُرف الله وما عُبد، تسلسل من أزكى الأصلاب وتدرّج في أطهر الأرحام هذا النسب الذي لم يعرف السجود والركوع لغير الله .. يقول المسعودي في مروج الذهب (ج1 ص390): (وكان عبد المطلب مقراً بالتوحيد مثبتاً للوعيد تاركاً للتقليد).

وهو النسب الذي قال فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (والله ما عبد ابي ابو طالب ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم بن عبد مناف وثناً ولا صنماً قط، وإنما كانوا يصلون إلى الكعبة على دين الخليل ابراهيم)

خديجة.. سيدة نساء قريش نشأت في أحضان الشرف والعفة والطهارة.. أُمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم

الزواج

خديجة التي تفرّعت من سنا المجد لم يكن ليليق بشرفها أن يخطبها غير سيد مكة وزعيم البطحاء أبي طالب لابن أخيه محمد: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حَضَنَةَ بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا حكام الناس، إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلا رجح به، وهو إن كان في قلّ فإن المال ظلّ زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، اليوم معك وغداً يكون مع فلان وفلان، وهذا يكون غنياً ثم فقيراً، والفقير يصبح غنياً والدول هكذا... وبعد هذا هو والله له نبأ عظيم وخطب جليل جسيم، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي).

صدق أبو طالب.. إن محمداً لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلا رجح به

وخديجة وأهلها يعلمون ذلك فالشمس في رأد الضحى لا تحتاج إلى دليل فقال ورقة بن نوفل: (الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم؛ وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله)

كان ابن عمها.... فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها عمرو بن أسد: (اشهدوا عليّ يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد) لقد اقترن الشرف بالشرف والقداسة بالقداسة والنور بالنور والكمال بالكمال والنبل بالنبل

أم فاطمة

خديجة لم تتزوج قبل النبي فلم تجد القرين الذي يهفو إليه قلبها وتشتاقه روحها حتى رأت محمداً وكل بنت نسبت إلى النبي غير فاطمة فهي ربيبته وليست ابنته. فزينب ورقية وأم كلثوم هنّ بنات هالة أخت خديجة احتضنتهنّ خديجة وهنّ صغيرات بعد موت أبيهنّ ومن ثم أمهنّ فرعاهنّ النبي بعد زواجه من خديجة وأصبحن ربائبه.

مع الدعوة

خديجة رافقت بواكير نزول القرآن، فتوضأت بنداه واستنشقت شذاه ورددت صداه : يا محمد، إن الله يُقرئك السلام..، ويقول إني باعثك نبياً ومرسلاً وهادياً ونذيراً

وكانت زمزم على موعد مع أيدي محمد وخديجة وعلي فدافوا فيه روح السماء وبثوا فيه أنفاس الدعوة وكانت مكة لما تزل عاكفة على الحجر

وحتى النهاية

خديجة .. محمد .. لم يعرف التاريخ اسمان تعانقا في البشرية كهذين الاسمين.. محمد الذي اصطفاه الله لنشر دينه في الأرض، وخديجة أول من آمن به، وأول من توضأ وصلّى فما إن بدأت الدعوة حتى كانت خديجة الرفيق والمعين والسند والشريك لمحمد في دعوته فوقفت بصلابة أمام طغيان قريش وجحودها وتكذيبها للنبوة وعانت وهي ابنة العز والجاه مع بني هاشم في شعب أبي طالب الجوع والمرض لمدة ثلاث سنين وقد أنهكت جسمها الآلام وأضعفت قلبها الحوادث لكن روحها بقيت تنبض بالإيمان والصبر وتزداد صلابة في موقفها المساند لزوجها العظيم يوما بعد يوم وما فُك الحصار حتى دبَّ في جسدها المرض ففاضت روحها إلى بارئها بعد ثلاثة أيام من وفاة أبي طالب فترك هذان الفقدان صدعين في قلب رسول الله وسمي بعام الحزن.. وكان هذا الحزن شديداً جداً على قلب محمد وفاطمة

اضف تعليق