حياة الإمام علي بن موسى الرضا مدرسة تفيض بالعطاء، وتشع بالعلم، وتلهم الأجيال أروع دروس الكمال البشري، هذه الشخصية العظيمة كانت قدوة في الأخلاق الفاضلة والصفات والخصال الكريمة مما جعلها تتسم مقام الذروة من الكمال الإنساني. ومن الطبيعي يكون الإمام المنصوص عليه من قبل الله...
حياة الإمام علي بن موسى الرضا مدرسة تفيض بالعطاء، وتشع بالعلم، وتلهم الأجيال أروع دروس الكمال البشري، هذه الشخصية العظيمة كانت قدوة في الأخلاق الفاضلة والصفات والخصال الكريمة مما جعلها تتسم مقام الذروة من الكمال الإنساني.
ومن الطبيعي يكون الإمام المنصوص عليه من قبل الله تعالى يتصف بصفات لا يتصف بها أحد من الناس فلا بد أن يكون الإمام أعلم الناس وأعدهم وأزهدهم وأفقههم وأكملهم في أخلاقه وشيمه وجميع صفاته، وهذا ما يلمسه المتتبع لتاريخ الأئمة الطاهرين من أهل البيت (ع) والمستقرئ لحياتهم ومنهجهم.
حيث يروي لنا التاريخ الكثير من الأحاديث والروايات والمواقف التي تشهد بفضلهم وعلمهم وتفوقهم على من خالفهم وناوئهم، وجاءت بعض هذه الأحاديث والروايات حتى في خصومهم الذين لم يجدوا الذين لم يجدوا بدأ من الاعتراف بفضلهم، والإقرار بعلمهم.
وسنقتصر هنا ببعض هذه الأحاديث فيما يخص الإمام الرضا، فقد روي عن إبراهيم بن العباس الصولي انه قال: ما رأيت الرضا سئل عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه وكان جوابه كله انتزاعا من القرآن المجيد.
وقال رجاء بن أبي الضحاك: كان قد بعثه المأمون لأشخاص الرضا: والله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته ولا أشد خوفاً لله عز وجل... ومضى يقول: كان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن آبائه عن علي عن رسول الله (ص) فلما وردت على المأمون سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما شاهدته منه في ليله ونهاره وظعنه وأقامته، فقال: بلى يا أبن أبي الضحاك هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم.
وقال أبن الجوزي في تذكرته والحاكم في تاريخ نيسابور: لقد أخذ العلم والحديث عن أبيه، وكان يجلس في مسجد رسول الله (ص) فيفتي الناس وهو أبن نيف وعشرين سنة، وقال المأمون لمن ثقل عليهم اختياره ولياً لعهده من بني العباس، كما جاء في البحار عن الحاكم الحافظ النيسابوري قال: وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا فما بايعت له إلا مستبصراً في أمره عالماً بأنه لم يبق احد على ظهرها أبين فضلاً ولا أظهر عفة ولا أروع زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً ولا أرضى للخاصة والعامة ولا أشد في ذات الله منه، الى غيرها من الأحاديث الكثيرة في فضل الإمام الرضا على من سواه.
ولد الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) في المدينة المنور سنة (148هـ) أمه جارية أسمها (تكتم) ولقبها الإمام الكاظم (ع) بالطاهرة وكانت معروفة بعظيم خلقها وسمو دينها وكثرة عبادتها، نشأ الإمام الرضا (ع) في ظل أبيه الكاظم (ع) وتلقى علومه على يده مدة وجودة معه (35) سنة فلما توفى الإمام موسى بن جعفر(ع) انتقلت الإمامة اليه وتولى زعامة المدرسة المحمدية التي أرست للأمة دعائم الإسلام.
عايش الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في فترة إمامته الكثير من الفتن والمحن القاسية، فإلى جانب موقف السلطة المتعصب والمتشدد من الأئمة (ع) كانت هناك انقسامات واضطرابات أثارها البعض من الذين أظهروا البدع وأنكروا إمامة الإمام الرضا (ع).
فأول ما واجهه الرضا (ع) في مسلسل المحن هي محنة الواقفية الضالة التي ابتدعها بعض المنحرفين الذين شذوا عن الصراط القويم، وتزاغوا عن طريق الحق المتمثل بأهل البيت (ع) في سبيل مصالحهم الشخصية وأغراضهم الدنيوية فقد ادعت هذه الفرقة أن الإمام الكاظم (ع) لم يمت بل رفع الى السماء كما رفع عيسى بن مريم وأنه المهدي ولا أمام بعده.
لقد كانت هذه الفرقة من اشد الناس عناداً للحق فأنكروا موت الإمام الكاظم (ع) مع أنهم رأوا تشييعه وتغسيله وتكفينه ودفنه ولم تقتصر ضلالتهم على أنفسهم بل عمدوا جاهدين على حرف الشيعة عن الإمام الحق وهو الإمام الرضا (ع) وكان الدافع الى دعوتهم هو الاستئثار بأموال كانت عندهم، ذلك أن الإمام الكاظم (ع) كان قد عهد اليهم بجباية الأخماس من شيعته، وقد اجتمع لديهم مبلغ كبير من المال خلال الشطر الأخير من حياة الكاظم (ع) وهو في غياهب السجون، فلما استشهد (ع) في السجن طالبهم الإمام الرضا (ع) بما عندهم من الأموال ففرت بهم الدنيا وأنكروا موت الإمام موسى بن جعفر (ع) وأدعى بعضهم رجوعه من (غيبته) كما رجع موسى بن عمران، وكان أقطاب هذه الفرقة علي بن أبي حمزة البطائني وعنده ثلاثون ألف دينار وزياد بن مروان القندي وعنده سبعون ألف دينار وعثمان بن عيسى الرواسي وعنده ثلاثون ألف دينار وأحمد بن ابي بثر السراج وعنده عشرة ألاف دينار.
وقد حاول هؤلاء الضالون إغراء احد أصحاب الكاظم (ع) بالأموال ولكنهم فشلوا، فقد روى الكشي في رجاله: ان يونس بن عبد الرحمن قال: مات أبو الحسن موسى بن جعفر (ع) وليس من قوامه احد الا وعنده المال الكثير وذلك بسبب وقوفهم وجحودهم موته -ثم ذكروا أسمائهم والأموال التي عندهم - ثم مضى يقول فلما رأيت ذلك وتبين لي الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا (ع) ما علمت تكلمت في ذلك، ودعوت الناس إليه فبعثا لي وضمنا لي عشرة آلاف دينار على أن اكف واترك هذا الأمر فقلت لهما: إنا روينا عن الصادقين أنهما قالا: اذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب الله عنه نور الإيمان وما كنت ادع الجهاد وأمر الله على كل حال، فناصباني وأظهرا لي العداوة.
ويظهر جلياً من هذه الرواية إن هذه الفرقة كانت كاذبة في دعواها ضالة في عملها وإلا لما حاولت شراء سكوت يونس بن عبد الرحمن بأموال السحت، وتدلنا رواية النوبختي على مناظرات جرت بين أصحاب الإمام الكاظم (ع) المخلصين المؤمنين أمثال يونس بن عبد الرحمن وعلي بن اسماعيل الميثمي مع هؤلاء المنحرفين حول إمامة الرضا بعد أبيه الإمام الكاظم، لكنها لم تكن ذات جدوى فقد غرتهم الحياة الدنيا وزين لهم الشيطان أعمالهم، قال النوبختي: ولما اشتد الصراع بينهم قال لهم علي بن إسماعيل: ما أنتم إلا كلاب ممطورة، كانت هذه الفرقة الضالة هي الهدية الغالية التي يتمناها بنو العباس الذين كانوا من اجتماع الشيعة الى إمام واحد والتفافهم حوله، خاصة إن هذه الفرقة الضالة قد أنكرت بعض الضرورات الإسلامية وقالت بالتناسخ وان الإمام واحد وتعدد الأئمة من حيث أن هذا الواحد ينتقل من بدن الى بدن الى غيرها من البدع التي يطول شرحها.
ومهما كان الحال فلسنا بصدد استقصاء البحث عن بدع الواقفية واتجاهاتهم والأسباب التي دفعتهم لذلك، وإنما عرضنا ذلك عنهم من حيث صلتها المباشرة بالإمام الرضا وإمامته التي ظلت تصطدم بالأحداث حتى أخر مراحلها، ورغم إن الإمام الرضا والأئمة (ع) من بعده قد تبرئوا من هذه الفرقة ومن شابهها من الفرق الضالة ومن أصحابها لكن العجيب إن المؤرخين والمؤلفين يحسبون هذه الفرق على الشيعة وينسبون ما ادعت هذه الفرق من البدع والضلالات على عقائد الشيعة والمتتبع لتاريخ أهل البيت يجد إن منهج الأئمة الطاهرين يسمو ويبتعد عن هذه البدع والضلالات، فالإمام المنصوص عليه من الله سبحانه وتعالى بالإمامة يكون تعريفه الى الأمة بواسطة الإمام الذي قبله، فنرى كل إمام منهم (ع) عندما يحس بدنو أجله يكثر من الوصايا بالإمام الذي بعده، لكي لا تختلف الأمة في أمامها وهذا ما فعله الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) فقد أوضح مكانة ولده الرضا (ع) وانه الإمام من بعده، وأكد على انه وارثه ووصية في الإمامة وأوصى أهله وأصحابه بالرجوع إليه في عدة أحاديث، منها انه (ع) كان يقول لبنيه: هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد لفي صلبك وليتني أدركته فإنه سمي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ومنها قوله (ع): أن ابني علياً اكبر ولدي وأبرهم عندي وأحبهم إلي وهو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه إلا نبي أو وصي نبي.
ومنها قوله: ابني هذا سيد ولدي وقد نحلته كنيتي، وقوله (ع): ابني علي وصيي والقيم بأمري وخير بني وقوله (ع): علي مني بمنزلتي من أبي ثم تلا قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) الى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي رواها الثقات من خواص اصحاب الامام الكاظم (ع) حول هذا الموضوع.
بالإضافة الى النصوص العامة على الأئمة الاثني عشر من النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) فلقد كان كل أمام يعين خليفته ينص عليه بحضور خاصته حتى لا يدعيها أحد من بعده، ولسنا هنا بصدد الحديث عن حقيقة إمامة الرضا فهي أوضح من الشمس في رابعة النهار، بقدر ما نحن بصدد الحديث عن أهم الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية للإمام الرضا (ع) وأهم الأحداث والمواقف التي جرت في عصره.
امتاز عصر الإمام الرضا (ع) باتساع الحركة العلمية فنشط البحث والتدوين والتأليف والتصنيف ونشأت المدارس الإسلامية والتيارات الفلسفية والفكرية، وبدأت حركة الترجمة عن اللغات المختلفة، فكانت هذه الفترة من أغنى فترات الفكر والثقافة الإسلامية، وقد عاش في هذه الفترة كبار العلماء والفقهاء والمتكلمين أمثال الشافعي، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل وأبي يوسف القاضي، وسفيان الثوري، ومحمد بن الحسن الشيباني وشريك القاضي وغيرهم، فكان الإمام الرضا (ع) وسط هؤلاء كالقطب من الرحى فهو محور التوجيه ومركز الإشعاع ومنطلق الهداية، ومفزع العلماء وملجأ أهل الفكر يناظر على التفسير ويحاور أهل الفلسفة والكلام ويرد على الزنادقة والغلاة حتى جمع محمد بن عيسى اليقطيني المسائل التي أجاب عنها الإمام الرضا (ع) في شتى العلوم فبلغت خمسة عشر ألف مسألة، وكان المأمون العباسي يعقد مجالس المناظرة ويدعو على المسلمين والمتكلمين وعلماء الأديان الأخرى وأصحاب الدعوات ويدعو الإمام الرضا(ع) للمحاججة والحوار، فلا يخرج هؤلاء من المناظرة إلا وقد أقروا بعلم الامام الرضا (ع) وفضله عليهم ويعبر الإمام الرضا (ع) عن هذه الحقيقة بقوله: كنت أجلس في الروضة والعلماء متوافرون فإذا أعيا الواحد منهم مسألة أشاروا إلي أجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجبت عنها.
وإضافة الى علمه وفقهه (ع) فقد تمتع الإمام الرضا (ع) بأدب عال وخلق رفيع ولا يسعنا هنا الحديث عن آداب وأخلاق هذه الشخصية العظيمة مفصلاً، ولكن نورد هنا باقة من صفاته الكريمة عن لسان معاصريه فهذا إبراهيم بن العباس الصولي يصف لنا بعضاً من صفات الإمام الرضا (ع) فيقول: ما رأيت أبا الحسن جفا أحد بكلمة قط ولا رأيته بصق قط ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط بل كان ضحكه التبسم.
وهناك أحاديث أخرى على لسان معاصريه تجسدت فيها أخلاقه (ع) وإنسانيته في تعامله مع الفقراء والخدم فلا ينظر إليهم إلا بعين الإخوة في الله ووحدة النوع الإسلامي ولا يفاضل بين نفسه وغيره إلا بالتقوى.
لقد كان الإمام الرضا (ع) إسلاماً يمشي على الأرض وقرآناً يصدح بالحق، عاصر الإمام الرضا ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم الرشيد والأمين والمأمون وفي عهد الأخير ختمت حياته (ع) الشريفة، وقد عانى (ع) مرارة الألم والظلم والقهر والاضطهاد في تلك العهود الثلاثة ففي عهد الأول كان يقاسي مرارة سجن أبيه الكاظم (ع) حتى قضى شهيداً في سجن السندي بن شاهك، ولما تولى الإمام الرضا الإمامة بعد أبيه حاول بعض أصحاب أبيه إبعاده عن مواطن الخطر، فطلبوا منه أكثر من مرة أن يتستر في دعوته ويحتاط لنفسه ولشيعته من أولئك الطغاة الذين يراقبون الله في شيء من أمورهم وتصرفاتهم، ولكن الإمام الرضا (ع) كان قد تلقى عن آبائه ما سيكون من أمره، وان الرشيد على ضلاله وطغيانه لن يصل إليه بسوء فلم يعبأ بتلك المحاولات ولم يغير من سلوكه ونهجه وإظهار الدعوة الى الله، فقد جاء في روضة الكافي عن محمد بن سنان انه قال: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون، أنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجالس أبيك وسيف هارون يقطر الدم، فقال جرأني على ذلك ما قال رسول الله (ص) لأصحابه: أن اخذ أبو جهل من رأسي شعرة واحدة فاشهدوا بأني لست بنبي وأنا أقول لكم إن اخذ هارون من رأسي شعرة فأنا لست بأمام، وكانت هناك محاولات من قبل هارون لقتل الإمام الرضا (ع) كانت إرادة الله تحول بينه وبين ما يريد حتى هلك هارون.
أما في عصر الأمين فلم يذكر لنا التاريخ أي موقف يدل على ان الامين حاول الفتك بالامام الرضا (ع) أو الاساءة اليه ولعل مرد ذلك الى انصرافه للملذات والشهوات اضافة الى الخلافات التي آلت الى انقسام وانشقاق خطير في الخلاقة العباسية كان من نتائجها اقصاؤه لأخيه المأمون من ولاية العهد مما زاد من حدة الصراع بين الفريقين واضطراب الاوضاع في جميع انحاء الدولة ولم ينته هذا الاضطراب والنزاع حتى استيلاء المأمون على السلطة ودخوله بغداد بعد قتله الامين.
كان الامام يتجرع مرارة الاحداث في ذلك العصر فقد كانت الاوضاع السياسية والاجتماعية مزرية جداً، أذ عاش هؤلاء الخلفاء حياة القصور بين الجواري والمغنين والشعراء والندماء وكؤوس الخمر وقد امتلأت كتب التاريخ برذائلهم وموبقاتهم وتردي وضعهم الأخلاقي ولا يسعنا هنا الحديث بإسهاب عن البذخ والترف والمجون الذي عاشه الخلفاء العباسيون بينما كان المسلمون بمختلف طبقاتهم يرزحون تحت سياسة التجويع والإرهاب والتشريد وهذا ما أدى الى اندلاع العديد من الثورات التي تدعوا الى الإصلاح والتغيير كثورة محمد بن الحسن (النفس الزكية) وثورة الحسين بن علي (صاحب فخ) وثورة ابن طباطبا العلوي وثورة ابراهيم بن موسى بن جعفر وثورة محمد بن جعفر الصادق وثورة زيد بن موسى بن جعفر وغيرها من الثورات العلوية، التي زعزعت أركان الدولة العباسية.
أما موقف الإمام الرضا (ع) من هذه الثورات والانتفاضات العلوية وتحركاتهم ضد الحاكمين فلم يكن سلبياً من حيث مبدأ الثورة المناهضة للظلم والطغيان والاستغلال بل كان كغيره من أئمة أهل البيت (ع) يباركون كل ثائر على الظلم والباطل حتى ولو لم ينجح عسكرياً اذا كانت ثورته ضمن الحدود المشروعة ولصالح الأمة الإسلامية، لأن الثورة النزيهة في الغالب تكشف للشعوب زيف الحكام وواقعهم الكريه وتترك وراءها فئة تحس بالظلم وفي الوقت الذي كانت ترتفع فيه الأصوات الثائرة من العلويين ضد السلطة العباسية الظالمة كان الأئمة (ع) يقودون الثورة الثقافية التي فرضتها مصلحة الإسلام يوم ذاك وكان النجاح حليفها في مختلف الميادين ولما رأى المأمون أن أنظار الناس تتجه نحو الإمام الرضا (ع) والقلوب تهفو إليه بينما يجلس هو على كرسي متزعزع بالثورات وسخط الجماهير، قرر أن يتعامل مع الرأي العام بدبلوماسية أكثر بعد أن رأى فشل السيف والسجون والدماء فقرر أن يعقد ولاية العهد للأمام الرضا لتهدئة الخواطر وامتصاص نقمة الجماهير ولإضفاء مسحة من الشرعية على حكمه.
والأمر الثالث الذي أراده المأمون من ذلك أوضحه الإمام الرضا (ع) في قوله للمأمون: أني لا أعلم ما تريد فقال المأمون: وما أريد قال (ع): تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة.
لقد رفض الامام الرضا (ع) ولاية العهد رفضاً شديداً لأنه يعلم دخائل المأمون وما تنطوي سريرته من الخبث وبقي المأمون يعرض ولاية العهد على الرضا لمدة شهرين والامام الرضا يرفض حتى غضب المأمون وقال له: بالله اقسم لئن قبلت بولاية العهد وإلا ضربت عنقك فقال له الرضا: على شرط أني لا آمر ولا أنهي ولا أقضي ولا أغير شيئاً مما هو قائم على أصوله، فقبل المأمون بذلك لقد وضع الامام الرضا (ع) هذه الشروط حتى لا يتحمل شيئاً من تبعات الحكم العباسي وأمر المأمون ان يعلن هذا النبأ في أرجاء البلاد وأن يبدل الشعار العباسي (اللون الاسود ) باللون الأخضر وهو شعار العلويين وان تضرب النقود باسم الإمام الرضا (ع) وأمر ولده العباس ليكون أول المبايعين فقام وبايع الرضا (ع) بولاية العهد، وقد آثار قبول الإمام الرضا (ع) بولاية العهد ردود أفعال مختلفة في الوسط الإسلامي وخاصة الشيعي منه فكيف تنقل الخلافة التي بناها بنو العباس على السيف والدم والسجون والتشريد والتعذيب والتنكيل بهذه السهولة الى العلويين.
صراع وكفاح دموي وعقائدي وفكري عنيف امتد بينهم لأكثر من ستة عقود فكان هناك رفض واحتجاج وتذمر من قبل العباسيين ومن والاهم، ولا يهمنا هنا ردود أفعال العباسيين وسخطهم ودسائسهم بقد ما يهمنا إيضاح الموقف من قبل الإمام الرضا (ع) لشيعته وبقية الناس وكشف الملابسات التي احاطت بقبوله ورد الشبهات المثارة نحوه حيث قال (قد علم الله كراهيتي لذلك فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل أما علموا أن يوسف (ع) كان نبياً ورسولاً فلما دفعته الضرورة الى تولي خزائن العزيز قال: اجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة الى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك على إني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول الخارج منه.
لقد كشف الإمام الرضا (ع) في الفقرة الأخيرة من حديثه انه خرج من العهد بمجرد وضعه للشروط التي اشترطها والعمل بها يعني انه لم يكن ضمن نظام السلطة الذي لا يتلاءم مع فكره وأخلاقه ومنهجه ولا بد من لفت النظر الى إن الإمام كان لا يتمكن أن يصرح بالعلة التامة لقبوله ولاية العهد حرصاً على عدم كشفها للطرق الآخر وتحمل تبعات ذلك ولكنه استعمل اسلوب السوابق التاريخية للتدليل على موقفه.
وتدلنا رواية الريان بن الصلت على ذلك فقد روى ان هشام بن ابراهيم الراشدي كان مصاحباً للرضا (ع) فلما حمل الإمام (ع) الى خراسان اتصل هشام بذي الرياستين وأدناه إليه لينقل إليه والى المأمون أخبار الرضا وقد حظي عندهما حتى أصبح لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره ثم ولاه المأمون حجابة الرضا فضيق عليه ومنع عنه حتى بعض مواليه وخاصته ولم يتكلم الإمام في داره بشيء إلا وكان يبلغه لهما، ثم إن الإمام (ع) لم يجد بداً من الاستجابة لطلب المأمون بعد ان هدده بالقتل كما جاء في رواية علل الشرائع ومقاتل الطالبين وجاء فيها انه المأمون قال للأمام الرضا (ع): أنك تتلقاني أبدا بما اكرهه وقد أمنت سطوتي، فبالله اقسم لئن قبلت ولاية العهد وألا أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، وهذا ما جعل الإمام الرضا (ع) يقبل بولاية العهد رغم انه يعلم دخائل المأمون وما انطوت عليه سريرته من الخبث والمكر وقد اعترف المأمون بأنه لم يكن جاداً في عهده للأمام الرضا (ع) كما في رواية البحار في قوله لبني العباس الذين اعترضوا على توليه الرضا لولاية العهد فقال: أما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى الرضا فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم وان تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فأني في تدبيري والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم وانتم ساهون لاهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم.
ويتضح جلياً من مضمون كلامه انه لم يكن يريد أن ينقل الخلاقة الى العلويين كما تصور بنو العباس بل أراد أن يطوق ما كان منتظراً في ذلك الظرف من المضاعفات التي قد تسبب له ولخلافته الكثير من المتاعب وتعرضها لأسوأ الاحتمالات، كما إن هناك أمر أخر في سبب قبول الإمام الرضا لولاية العهد فبغض النظر عن القتل الذي ينتظره في حال رفض ذلك فإنه سيفتح باباً للقتل على أتباعه وأهل بيته فكان الإمام يوازن بين النتائج والمعطيات المترتبة على القبول والرفض واضعاً المصلحة الإسلامية نصب عينيه فرجح القبول على الرفض، فعقدت البيعة للإمام الرضا (ع) بولاية العهد في الخامس من شهر رمضان سنة 201 كما جاء في رواية الصدوق عن البيهقي.
وبانتهاء شهر رمضان أي بعد خمس وعشرين يوماً كلفه المأمون ان يصلي بالناس صلاة العيد على الرغم من ان الإمام الرضا (ع) كان قد اشترط على المأمون أن لا يشترك معه بشيء يتعلق بالحكم فاستعفاه من ذلك لكن المأمون ألح عليه وجعل يرسل الرسول بعد الرسول حتى أجابه (ع) الى ذلك على شرط أن يخرج الى الصلاة كما كان يخرج إليها رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) علي بن أبي طالب بعده، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه ووقف الجند والقادة على بابه حتى طلعت الشمس فاغتسل الإمام الرضا (ع) ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه ومس شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازةً وقال لمواليه وخاصته: افعلوا مثل ما فعلت فخرجوا بين يديه وهو حاف ثم رفع رأسه الى السماء وكبر فكبر معه مواليه فلما رآه الناس ارتفعت أصواتهم حتى ضجت المدينة بأصوات المكبرين وخرج الناس من منازلهم وازدحموا في الشوارع بشكل لم تعهد له المدينة مثيلاً من قبل، ولما رأى أجهزة الحكم هذا الاستقبال من قبل الجماهير للأمام الرضا (ع) والذي لم يكن حتى المأمون يتوقعه سارعت الى تحذير المأمون من خطورة هذا الموقف إن استمر الإمام (ع) في طريقه الى المسجد وأدى الصلاة فأرسل إليه المأمون: لقد كلفناك شططاً واتبعناك يا ابن رسول الله ولسنا نحب لك إلا الراحة فارجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه، فلم يكن المأمون ذلك الشخص الزاهد بالخلافة حتى يرى التفاف الناس حول الإمام الرضا (ع) ويسكت على ذلك وقد قتل من اجلها أخاه الأمين وقتل من خدموه وثبتوا ملكه وكان لهم الفضل في تصفية خصومه أمثال طاهر بن الحسين والفضل بن سهل وغيرهم فكيف بالإمام الرضا (ع) وهو عدوه اللدود وأشد الناس خطراً عليه فدس إليه سماً قتله وكانت شهادته (ع) في اليوم الأخير من صفر سنة 203 بمدينة طوس والتي دفن فيها حيث تهفو إليه قلوب الملايين من كل أنحاء المعمورة.
اضف تعليق