أضحت التنمية المستدامة في العصر الحديث مطلبا عالميا تتسابق الدول والمؤسسات لتحقيقه، نظرا لما تمثله من ضمان لاستمرارية الحياة الكريمة للأجيال الحالية والمستقبلية، من خلال التوازن بين التنمية الاجتماعية والحفاظ على كيان المجتمع، وتعزيز مفاهيم العدالة والأخلاق، وفي خضم هذا التوجه العالمي، يبرز القران الكريم كمرجعية عليا تقدم رؤية متكاملة وشاملة لمفهوم التنمية...

تعد التنمية المستدامة من ابرز المفاهيم التي تتداولها السياسيات الدولية والبرامج التنموية الحديثة، كما تناولتها القوانين من حيث المفهوم والتنظيم، ذلك لما لها من أهمية في ضمان استمرارية الحياة البشرية في ابعادها الاجتماعية والقانونية والاقتصادية، غير ان هذا المفهوم لم يأتِ مبتورا عن السياقات الدينية والأخلاقية، بل نجد جذوره ضاربة في نصوص الوحي، لا سيما في القران الكريم، الذي قدم تصوراً متكاملاً لبناء مجتمع متوازن يقوم على العدل والتعاون والتكافل والاعتدال في استهلاك الموارد، واستدامة النفع للأجيال المقبلة، إلا اننا سوف نركز في هذا المقال على التأصيل الشرعي لفكرة التنمية المستدامة في ضوء القران الكريم، ونبين كيف تشكل الركائز القرآنية إطاراً لبناء مجتمع متوازن ومستقر.

  فتعني التنمية المستدامة: بأنها التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها، وتشمل ابعادا متعددة: اجتماعية وقانونية واقتصادية وبيئية، اما من المنظور الإسلامي يمكن فهم التنمية المستدامة باعتبارها تلك التي تحقق المقاصد الشرعية في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، بما يضمن استمرار العمران البشري، فالقران الكريم يعرض رؤية شاملة لعمران الأرض تقوم على الإصلاح لا الافساد، والتوزان لا الطغيان، والاستثمار لا الاستنزاف، وقال تعالى في محكم كتابة العظيم ( .. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..) سورة هود : اية "61"، فيتضح من الاية الكريمة ان الانسان مستخلف في الأرض ومطالب بعمرانها على نحو يحقق الصلاح ويمنع الفساد.

كما يدعو القران الكريم الى حفظ الموارد الطبيعية وعدم الاسراف والتبذير فيها، ومصداق ذلك هو قوله تعالى (....وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) سورة الأعراف: آية " 31"، كما انه يقر مبدأ العدالة في التوزيع، والتكافل الاجتماعي، مما يجعل التنمية مشروعا أخلاقيا وانسانيا قبل ان يكون اقتصاديا وقانونيا، وبذلك فان التنمية المستدامة من منظور قراني ليست فقط تنمية مادية، بل تنمية شاملة تستوعب الابعاد الروحية والبيئية والاجتماعية، التي تؤسس لعمران بشري متوازن ومستقر، فالقران الكريم يربط بين صلاح الانسان وصلاح العمران إذ لا يتحقق الاستقرار المجتمعي ولا الازدهار الحضاري الا العمل والاتقان والعلم ويجعلهما العمران البشري، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ...) سورة التوبة : اية 105 .

  وفي هذا الاطار فان التنمية التي يتحدث عنها القران الكريم تنظر الى الانسان لا كمستهلك للموارد فقط بل كمستخلف مسؤول عن حسن ادارتها وتوظيفها في خدمة الصالح العام، مع اتباع السلوك الأخلاقي والمنصف في كل نشاط تنموي، وعليه يجب ان يتبع منهج القران الكريم وآياته المحكمات لجعل الانسان في استقرار حقيقي الذي لا يقوم على وفرة المال فحسب بل على العدالة والانصاف والامن والتعلم وكلها مفاهيم اصيلة لبناء انساني يتبع تنمية من صلب القران الكريم ويحافظ على كل الموارد التي سخرها الله سبحانه وتعالى له.

 وان وجود آيات القران القرآنية تكشف عن منظومة متكاملة من المبادئ التي تؤسس لتنمية مستدامة تحقق توازن بين الانسان وموارد الارض، كون الانسان المعاصر مدعو الى استحضار هذه القيم في التعامل مع البيئة ومع بني جنسه وان يدرك ان التنمية ليست مجرد تراكم الثروات بل مسؤولية حضارية تتطلب وعيا وتخطيطا ومحاسبة.

 ومن ابرز ما يمكن التوصية به في مقالنا هذا: هو تنبني منهج الاستخلاف المسؤول حيث يدرك الانسان ان مستخلف في الأرض وان تصرفه في الموارد يجب ان يكون وفق مبدأ الأمانة لا التملك المطلق مما يحثه على عدم الافساد والاسراف، كما يمكن للإنسان ان يهتم ببناء نفسه قبل البنيان والتركيز على التعلم وترسيخ قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية وتربية الضمير الأخلاقي لان صلاح الانسان هو أساس في استدامة أي تنمية او عمران، استنادا الى المبادئ القرآنية التي تدعو الى حماية البيئة وصون الموارد، والاعمار والتزكية وعدم الاسراف والاستغلال مع مراعاة حق الأجيال القادمة في هذه الموارد. 

  وختاما: يتضح ان القران الكريم لا يقدم فقط تعالين دينية، بل يرسم منهج حياة متكامل، يجعل من التنمية عملا تعبديا، ومن الاعمار هدفا ساميا ومن الانسان شريكا فاعلا في بناء حضارة متوازنة ومستدامة.

أضحت التنمية المستدامة في العصر الحديث مطلبا عالميا تتسابق الدول والمؤسسات لتحقيقه، نظرا لما تمثله من ضمان لاستمرارية الحياة الكريمة للأجيال الحالية والمستقبلية، من خلال التوازن بين التنمية الاجتماعية والحفاظ على كيان المجتمع، وتعزيز مفاهيم العدالة والأخلاق، وفي خضم هذا التوجه العالمي، يبرز القران الكريم كمرجعية عليا تقدم رؤية متكاملة وشاملة لمفهوم التنمية، ليس باعتبارها مجرد نمو اقتصادي بل بوصفها منظومة قيمية وعمرانية تضمن صلاح الانسان والمجتمع والكون.

فالقران الكريم بمنهجه التشريعي والروحي، يؤسس لفكرة الاستدامة من خلال مفاهيم الاستخلاف، والعمارة والاعتدال وعدم الفساد، والتوازن بين متطلبات الروح والجسد والمادة والمعنى، ومن هنا، تسعى هذه الدراسة الى استقراء ابعاد التنمية المستدامة في ضوء الهدي القرآني، تأصيلا شرعيا لرؤية مستقبلية فيها صلاح الانسان، حيث تجمع بين القيم الايمانية والممارسات التنموية الرشيدة، وتقدم تصورا إسلاميا أصيلا يرفد الجهود المعاصرة في هذا المجال برؤية روحية وأخلاقية متجّذرة.

أ. د زينة غانم العبيدي- عميدة كلية القانون- جامعة نينوى

اضف تعليق