بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
عاشوراء أيضاً
مرة أخرى يطلّ علينا شهر محرّم الحرام وذكرى عاشوراء حيث تمّ إحياء هذه المناسبة منذ استشهاد سيد الشهداء الإمام الحسين سلام الله عليه إلى يومنا هذا ألفاً وعدّة مئات من المرّات، وفي كل مرّة ينهل فيها محبّو الإمام قيماً ومفاهيم جديدة من مدرسة عاشوراء الخالدة، وهو ما أبقى على قبس هذه الملحمة العظيمة مضيئاً يخطف الأبصار عبر العصور، وجعل الأغيار يطأطئون رؤوسهم إجلالاً لعظمة صاحب الذكرى، والمؤمنين يتزوّدون من هذه المدرسة الغنية لدنياهم وأخراهم.
لا ننسى بأنّ ذكرى عاشوراء مرّت بمسيرة طويلة من التحوّلات، وأنّ التضحيات التي قدّمها الأسلاف والوالهون بسيّد الشهداء سلام الله عليه هي التي أوصلت إلينا هذه المدرسة العاشورائية المناهضة للظلم العريقة بأهدافها المقدسة.
ولا يمكننا أن ندّعي انتماءنا لهذه المدرسة ما لم نرخص الغالي والنفيس في سبيل تحقيق أهدافها العالية، وأن نسلّم هذه الأمانة الحسينية، السماوية، إلى الأجيال اللاحقة مصونة لا تشوبها شائبة، وفي الوقت نفسه فاعلة ومحفوظة من أي زيغ أو حرف، طبعاً إذا خلصت النوايا، وذابت المصالح الشخصية، ليحلّ محلّها تحقيق مرضاة الله عزّ وجلّ.
وأولى مهام محبّي أهل البيت سلام الله عليهم إعلاء شأن عاشوراء وثقافة عاشوراء، وبرامج عاشوراء، ومجالس عاشوراء، ومواكب عاشوراء وإحياء كل ما يتعلّق بها ويخلِّد ذكراها، ولا يخفى أنّها مسألة محفوفة بالمشاقّ والصعاب، لكنّها مشاقّ عاقبتها الثواب الجزيل والأجر الجميل. فالذين قدّموا في هذا الطريق الخدمات الجليلة للإمام الحسين سلام الله عليه، وتحمّلوا في سبيله العناء والعذاب، سيسَجَّل لهم ذلك بأحرف من نور في سفر التاريخ، وفي المقابل ستكتب أسماء الذين وجّهوا أدنى إهانة لمواكب العزاء والمآتم الحسينية بأحرف من نار وهوان، أولئك الذين تصدّوا لمراسيم العزاء على سيد الشهداء سلام الله عليه وصدرت عنهم عبارات من قبيل: «هذا ليس شأنك، اترك الأمر لهم»، أو الزوج الذي منع زوجته من المشاركة، والزوجة التي ثبّطت من عزيمة زوجها، أو الأخ الذي منع أخاه، أو الجار الذي منع جاره، وبعبارة واحدة: كلّ من وضع عقبة في طريق إقامة الشعائر الحسينية، كل ذلك سيسجّل عليهم صغيراً كان أم كبيراً.
الخشية من عدل الله
ليس في أسماء الله تعالى ما يبعث على الخوف أو الصدود، فرحمته تعالى ورأفته ومغفرته وكلّ صفاته وأسمائه لا تحمل من معاني الخوف أو الرهبة شيئاً. ذكر في دعاء الجوشن الكبير ألف اسم من أسماء الربّ (جلّ وعلا) وصفاته، ليس في أيّ منها ذرة خوف أو فزع عدا واحدة وهي صفة العدل. وثمة صفات أخرى وردت في الدعاء تدخل في السياق نفسه، وجميعها تصبّ في صفة العدل، وعليه يجب الخشية من عدله سبحانه.
على سبيل المثال، إذا كان لنا أن نستبشر بميزان العدل الإلهي الذي لا يضيع مثقال ذرّة من حسناتنا وأعمالنا الصالحة، فعلينا أن نتصوّر في المقابل ما سيكون عليه حال الإنسان المسيء لو كان الأمر كذلك في حساب السيئات، هذا مع علمنا بأن ليس في عقاب الله عزّ وجلّ يوم القيامة وقفة، وأنّه خالد، وأن أسباب الهلاك والثبور من كل لون تصبّ على العاصي في ذلك اليوم، ومع ذلك لا يموت بل يذوق أشدّ أنواع العذاب. فلو تأمّل الإنسان قليلاً في وصف القرآن الكريم لجهنّم وعذابها مثل قوله تعالى: ﴿ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت﴾(1) لأخلّ بنومه ربما وغير ذلك.
ليس البائس من يبيت ليلته وهو جائع، أو من يقبع في غياهب الزنزانات ويذوق أشدّ أنواع التعذيب، لأنّ ذلك كلّه إلى أجل معلوم ثمّ بعدها يشبع الجائع ويتحرّر السجين، إنّما البائس هو من حكم الله تعالى عليه بالعدل وحاسبه على سيّئاته، يوم تعرض صحيفة أعمال الخلائق على الله تعالى، فلا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة. عندها يفوز الذين ثقلت موازينهم، ومنهم أولئك الذين تفانوا في خدمة مجالس الإمام الحسين سلام الله عليه وكان محفّزهم في كلّ ما بذلوا من جهد وتضحية هو خدمة الإمام سلام الله عليه.
إنّ لمواكب العزاء الحسينية منزلة رفيعة ومقاماً سامياً جعلت جهابذة العلماء وكبار الوجهاء يفخرون بالمشاركة فيها أيّما افتخار. على سبيل المثال، تقام سنوياً في مدينة كربلاء المقدسة، وفي يوم عاشوراء بالتحديد مراسيم عزاء تعرف بعزاء طويريج(2)، وكان السيد بحر العلوم(3) مواظباً على المشاركة فيها، وكان يقول بأنّه قد شاهد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بين صفوف المعزّين. كان العمل بهذه المراسيم مستمرّاً في كربلاء حتى مكوثنا فيها أي قبل حوالي 33 سنة، حيث كان يشارك فيها الآلاف، مهرولين حفاة، وضاربين بأيديهم على رؤوسهم ووجوههم، ولقد رأيت مرات عديدة مراجع كبار وهم يؤدّون هذه المراسيم مع الجموع المهرولة، كما كان يشارك فيها بعض الوزراء والوكلاء والأعيان... . هؤلاء لم يكونوا يفعلون ذلك حتى في مجالس عزاء آبائهم، ولم يكونوا ليجزعوا هذا الجزع حتى لو فقدوا أموالهم وثرواتهم. فهنيئاً لهم ثم هنيئاً.
المحيون للمآتم الحسينية
إن مقيمي المآتم الحسينية إنما هم في الحقيقة يعزّون رسول الله صلّى الله عليه وآله. يقول الإمام المعصوم في هذا المجال: «يعزّ على رسول الله صلى الله عليه وآله مصرعهم (الحسين وأهل بيته سلام الله عليهم) ولو كان في الدنيا يومئذ حيّاً لكان صلوات الله عليه وآله هو المعزّى بهم»(4).
في الحقيقة، لا يمكننا مطلقاً أن نتصوّر ما كابد سيّد الشهداء سلام الله عليه في يوم عاشوراء. قد تراود الإنسان أحياناً بعض الخطرات، لكن مع ذلك، لا يمكن مطلقاً تصوّر ما جرى في ذلك اليوم فعلاً، وليس لنا أن نختصر القضية بالقول: إنّه إمام، والإمام يتمتّع بالصبر ورباطة الجأش. لاشك أنّ الإمام المعصوم سلام الله عليه أرقى وأعقل خلق الله، وله روح عالية تعلو على جميع المخلوقات، لكنّ له قلباً يطفح بعاطفة تسمو على عواطف جميع البشر. إن له سلام الله عليه عاطفة أيضاً وإن كانت معقودة بأكمل العقول.
لقد ذرف الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله الدمع همّاً وحزناً على فقد ولده إبراهيم، الذي لم يتجاوز العام ونصف العام، وكان صلّى الله عليه وآله يجهش بالبكاء لدرجة كان كتفاه يهتزّان حتى قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، تأمرنا بالصبر وتبكي لهذه المصيبة؟ فقال صلّى الله عليه وآله: «تدمع العين ويحزن القَلْبُ ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون»(5).
فالرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يبكي كلّ هذا البكاء لفراق ولده ذي الثمانية عشر شهراً، في حين فقد الإمام الحسين سلام الله عليه في يوم عاشوراء أعزّ الناس وأقربهم إليه كأبي الفضل العباس وعلي الأكبر والقاسم... سلام الله عليهم. ولو كان هؤلاء أفراداً عاديين لهان الأمر، ولكن معظمهم كان قد ترعرع في حجر الإمامة الطاهر، وكانوا بعد الإمام المعصوم سلام الله عليه قدوات في الوفاء والنخوة والأصالة، ولا مثيل لهم على وجه الأرض مطلقاً، وإنّنا لنعجز عن أداء حقّهم في وصف مكانتهم.
في أقلّ من نصف يوم، تجرّع الإمام الحسين سلام الله عليه كل هذه المصائب وتحمّل ما لا يطيقه بشر؛ وكلّ ذلك كان بعين الله التي لا تنام ولكن ستحلّ الساعة التي يُقرّر الله سبحانه بحكمته العالية انتهاء أمر الصبر وتصل النوبة للعدل الإلهي الذي يُعدّ الانتقام من الظالمين أحد فروعه.
قتلة سيد الشهداء سلام الله عليه
ورد في كتاب كامل الزيارات (أحد المصادر المعتبرة والقيّمة لدى الشيعة) أن كلّ من شارك في قتل الإمام سيد الشهداء سلام الله عليه ابتلي بأحد الأمراض الثلاثة: الجنون والجذام والبرص(6).
وتقول الرواية أيضاً بأنّ هذه الأمراض قد انتقلت إلى ذرياتهم من بعدهم، على الرغم من أنّهم لا علاقة لهم بجريرة آبائهم، إلا أنّ هذا هو الذي حصل بالفعل، وكان ذلك من عواقب قتل الإمام الحسين سلام الله عليه، فكما السكّير تمتد آثار عمله إلى نسله، فكذلك الحال مع الفاسد، وهذه مسألة تكوينية.
كما نقرأ في (كامل الزيارات) أيضاً: أنّ قتلة الإمام الحسين سلام الله عليه قد قُتلوا جميعاً، ولم يمت أيّ منهم ميتة طبيعية. في هذا السياق يقول الإمام محمد الباقر سلام الله عليه: «والله لقد قُتل قتلة الحسين سلام الله عليه ولم يُطلب بدمه بعد»(7)، والله تعالى لم يرض بعد، لأنّ للإمام الحسين سلام الله عليه مكانة في أعالي الذرى، والانتقام الذي حلّ بهم وهو القتل ليس كافياً البتّة، وهذا ما يقرّ به الشيعي والسنّي والمسيحي... على السواء.
تفاخر الكعبة ومكانة كربلاء
نسب ربّ العزّةِ الكعبةَ إليه فسُمّيت بيتَ الله الحرام، وهو تقديس لمكانتها وتشريف لمنزلتها؛ وذلك لأن ليس لله سبحانه بيت بعينه فهو غنّي عن المكان. لهذا، رفع هذه البقعة من أعماق الأرض إلى قمة السماء، وشرّفها بنسبها إليه عزّ وجلّ.
هذه الكعبة المشرّفة التي كرّمها الله، وأمر الحجيج أن يخلعوا لباسهم عند مشارفها، وأن يدخلوها مُحْرمين، تاركين بعض اللذائد الدنيوية المباحة، هذه الكعبة تفاخرت(8) فيما مضى على البقاع الأخرى، كما جاء عن الإمام الصادق سلام الله عليه حيث قال: «إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بنى الله بيته على ظهري ويأتيني الناس من كلّ فج عميق وجُعلت حرم الله وأمنه! فأوحى الله إليها أن كفّي وقرّي، فوعزّتي وجلالي ما فضل ما فضِّلت به فيما أعطيتُ به أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر! ولولا تربة كربلاء ما فضّلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء لما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به؛ فقرّي واستقري...»(9).
لقد اتخذ الله تعالى الكعبة المشرّفة بيتاً له، فماذا عن كربلاء؟ وأيّ ميزة تمتاز بها؟ لمعرفة ذلك اقرأ ما جاء عن الإمام الصادق سلام الله عليه حيث قال: «وإن أرض كربلاء وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدّس الله تبارك وتعالى، فبارك الله عليهما فقال لها: تكلّمي بما فضّلك الله تعالى؛ فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض. قالت: أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك ولا فخر على من دوني بل شكراً لله فأكرمها وزادها لتواضعها»(10).
هنا نريد أن نسبر أعماق «من مثلي» للكعبة المشرفة و «لا فخر على من دوني بل شكراً لله» لكربلاء المقدسة، وقد ذكر هذا الأمر للتأكيد عملياً على أنّنا لا نملك خيراً من أنفسنا إلا ما حبانا الله به، وما نبذله من جهد إن هو إلا توفيق ولطف من الله جلّ وعلا.
فإن وُفّقنا لإقامة مجالس العزاء الحسينية، وأسدينا خدمة لسيد الشهداء سلام الله عليه، وتحمّلنا العناء والمشقّة في هذا السبيل، وكان لنا شرف المشاركة في هذه المآتم نقول: الحمد لله الذي وفّقنا لهذا، الحمد لله الذي أكرمنا لنستظلّ بمظلّة الإمام الحسين سلام الله عليه، إن هو إلا توفيق من عند الله لنتشرّف بخدمة الإمام سلام الله عليه.
عطاءات عاشوراء
في الواقع، إنّ جلّ ما نملك من مُثُل وقيم هو من بركات تضحيات سيد الشهداء سلام الله عليه. فعاشوراء هي التي غرست في أعماقنا مبادئ الإنسانية والعبودية لله عزّ وجلّ والإيثار وخدمة الآخرين والعطف على المستخدمين والدفاع عن المظلومين، ولأجل هذا كلّه يجب أن نبقي على جذوة ملحمة عاشوراء متّقدة على الدوام، وأن نبذل مهجنا دونها، لنضمن الرفعة والشموخ لنا وللأجيال من بعدنا.إننا ننفق في حياتنا اليومية الكثير من الأموال في مختلف الشؤون، وكذلك نصرف الكثير من الجهد والوقت مع الأولاد والزوجة وفي البيت والعمل والتجارة وما إلى ذلك، ولكن لنعلم أن ما ينفق ويبذل في سبيل الإمام الحسين سلام الله عليه هو الأفضل حيث يحظى بمكانة أرفع وقيمة أكثر، ولنعلم أيضاً بأنّ أي خطوة نخطوها في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم، سنثاب عليها من قبلهم بأفضل الثواب.
ثواب ذكر الحسين سلام الله عليه
كان هناك عالمان جليلان، رهن أحدهما عمره في خدمة مجالس عزاء سيد الشهداء سلام الله عليه، ولم يتوان عن بذل أي خدمة بماله أو بلسانه... في هذا السبيل، أمّا الآخر فلم يكن يعر أهمية تذكر لهذه القضية. والآن، وبعد مضي سنوات على وفاتهما، كان الثواب الذي ناله الأول هو أنّ الله قد وفّق أبناءه وأحفاده فجعل منهم المؤلف والعالم والمدرس والمرجع الديني، منتشرين في أصقاع الأرض يحيون ذكرى والدهم، في حين لم يبق من الثاني أي أثر يخلّده، وهذا بالتأكيد نتيجة تعظيم الأول لمسألة التفاني والإخلاص لسيد الشهداء سلام الله عليه، وعدم اكتراث الثاني لهذه المسألة، وهنا يتبيّن بأنّ أي خدمة تقدّم لمواكب العزاء الحسينية لن تذهب سدى أبداً.
وهنا استعرض مثالاً آخر من آلاف الأمثلة التي توضّح ثواب أهل البيت سلام الله عليهم لخدّام المسيرة الحسينية، وقد يحمل كل واحد منكم أيضاً في ذاكرته أمثلة أخرى عن بركات وألطاف البيت النبوي قد لمسها في بعض أقربائه.
يروى أنّه كان هناك شخصان يعيشان في أحد البلدان، أحدهما بائع بسيط بدخل متواضع، والآخر هو من أغنياء المدينة وأعيانها، وكلاهما رحل عن هذه الدنيا. كان البائع البسيط يكدّ ويشقى من الصباح حتى المساء لتأمين رزقه، وعندما كان يعود إلى بيته كان يأخذ ثلث دخله اليومي ويقول هذا سهم الإمام الحسين سلام الله عليه، وكان يدفع عن المبلغ المتبقّي (الثلثين الآخرين) فريضة الخمس إن فاض عنه شيء، فكان يجمع المال باسم الإمام الحسين سلام الله عليه ويبتاع به أراضي خارج المدينة، وكان الناس يقولون له: «لماذا تشتري أرضاً في البراري، حيث لا ماء ولا عمران؟»، وكان يجيبهم: «ليس لديّ المال الكافي لشراء أراضٍ في المدينة، وقد اشتريت هذه الأراضي على أمل أن يبنى في موضعها حسينية». واليوم، أصبحت تلك القفار مدينة عامرة، تقع في مركزها تلك الأرض التي تحوّلت إلى حسينية كبيرة تقام فيها أغلب أيام السنة مراسيم العزاء على سيد الشهداء سلام الله عليه بالإضافة إلى مراسيم أخرى. وقد قال ابن ذلك الكاسب خلال رحلة له إلى إيران قبل فترة، بأنّ أهل البلد الذي تقع فيه تلك الحسينية عرضوا عليه شراء تلك الحسينية مقابل مبلغ 5 مليارات تومان وذلك لتحويله إلى مبنى عام، لكنه رفض وقال: «هذا المكان وقف، وهو بالتالي ليس لنا، هو للإمام الحسين سلام الله عليه».
إن خدمات ذلك الكاسب في الدنيا محفوظة له، والمراسيم التي كانت تقام في تلك الحسينية حيّت ذكره، هذا بالإضافة إلى الثواب الأخروي الذي ينتظره.
من ناحية أخرى، لم أسمع أن أوقف ذلك الثري شبراً واحداً من أملاكه للإمام الحسين سلام الله عليه، وقد اقتسم ورثته من بعده أمواله، ولم يبق منه أي شيء يحيي اسمه من بعده.
ومن هذا المنطلق، تعتبر قضية الإمام الحسين سلام الله عليه قضية تكوينية، بمعنى أنّه من قدّم خدمة خالصة للإمام سلام الله عليه، سيثاب عليها في الدنيا قبل الآخرة.
عاقبة محاربة المواكب الحسينية
كما أنّ لخدمة المواكب الحسينية ثواباً وأجراً جزيلاً، كذلك فإن التصدي لهذه المواكب ومحاربتها ستكون لهما عاقبة سيئة. ومن يضع العراقيل في طريق المواكب الحسينية عامداً أو جاهلاً، سيلقى جزاءه في دار الدنيا قبل الآخرة. على سبيل المثال، الذي يشرب السمّ ظنّاً منه أنه دواء سيموت لا محالة، وكذلك الحال مع من يحارب الإمام الحسين سلام الله عليه. بالطبع، إنّ الثواب الحقيقي للأعمال هو في يوم الحساب، لكن المسيء للإمام الحسين سلام الله عليه سيدفع ثمن ذلك في الدنيا أيضاً قبل وصوله الدار الآخرة.
مسألة أخرى يجب الالتفات إليها ألا وهي السعادة والنعمة التي يهبهما الله تبارك وتعالى لعباده مقابل تقديم الخدمة في المواكب الحسينية، لذا علينا أن نغتنم هذه النعم كبقية النعم الإلهية الأخرى قبل أن نندم على التفريط بها، ولات ساعة مندم، ولا مجال حينذاك للعودة إلى الدنيا للتعويض عمّا فات.
كما علينا أن نعلم بأنّنا إذا كنّا قد وُفّقنا لإحياء مجالس العزاء الحسينية، فالفضل في ذلك كلّه يعود لآبائنا وأجدادنا وأسلافنا. لذلك، علينا أن نتذكّرهم دائماً، وأن نعلم بأنّنا نحن أيضاً سنترك تأثيراً على أجيالنا وذلك بحسب هممنا وعزائمنا في خدمة سيد الشهداء سلام الله عليه.
ثواب الحزن على أهل البيت سلام الله عليهم
من المناسب أن نقيّم أعمالنا ونرى ما لمجالس العزاء والحزن على مصاب أهل البيت سلام الله عليهم من ثواب من خلال ما ورد في ذلك عن الإمام المعصوم سلام الله عليه، ففي رواية عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه أنّه قال: «نَفَسُ المَهموم لِظُلْمِنا تَسْبيحٌ، وَهَمّهُ لَنا عِبادَة»(11).
إنّكم تحملون في داخلكم همّاً عظيماً بسبب ما لحق الإمام الحسين سلام الله عليه من ظلم وإجحاف، إذن أنفاسكم كلها تسبيح تسجّلها الملائكة لكم في صحيفة أعمالكم، ففي كل نفس يكتب لكم قول سبحان الله. كما أنّ حزنكم عبادة لكم، وبالإضافة لهذين الثوابين هناك ثواب عظيم آخر لكم هو خدمتكم في هذا الطريق.
لذا، فمن يتحمّل مشاقَّ وأعباءً أكثر ويضع راحته وسهره في خدمة الإمام الحسين سلام الله عليه، بطبيعة الحال له أجرٌ أعظم، وأحد أوضح الأمثلة على ذلك ما رُئي لاثنين من الفقهاء الأفاضل في المنام (12)، أحدهما الشيخ الأنصاري(رحمه الله) الذي تنهل الحوزات العلمية الدينية منذ 150 عاماً من علمه، والآخر الشيخ الدربندي(رحمه الله). هذان العالمان كانا زميلي دراسة في مرحلة الشباب، وكانا من تلامذة المرحوم شريف العلماء المازندراني (ره)، وأصبح كلاهما فيما بعد مرجعين للتقليد، وفي ذلك الوقت كان الشيخ الأنصاري هو المرجع العام للشيعة، والدربندي له مرجعية محدودة. ذات يوم عزم أحد طلاب الشيخ الأنصاري ـ وكان طالباً مجدّاً يحمل صفات العلم والورع ـ على السفر إلى إيران، فقام الشيخ الأنصاري بوداعه حتى مشارف المدينة مشياً على الأقدام، ثم رجع. كان ذلك الطالب يعتزم السفر إلى مدينة كربلاء ثم الكاظمية وسامراء ليعود بعدها إلى إيران، لكنّه في اليوم التالي لم يذهب إلى كربلاء، ورجع من وسط الطريق. وعندما رأى الشيخ الأنصاري تلميذه في النجف الأشرف سأله: «لماذا عدت؟». أجابه: «ليلة أمس غلبني النوم وأنا في الطريق في جوف الصحراء، فرأيت ملكاً في منامي يقول لي: إلى أين أنت ذاهب في هذه الصحراء، إنّك راحل عن هذه الدنيا بعد ثلاثة أيّام. وهذا القصر لك (وأشار الملك إلى قصر) ولم أكن أعلم على وجه اليقين إن كانت هذه رؤيا صادقة أم لا، فقفلت راجعاً إلى النجف، لأكون عند أمير المؤمنين سلام الله عليه وليس في الصحراء فيما لو تحقّقت الرؤيا، وإذا لم تتحقّق أواصل رحلتي من جديد. وبالفعل، تحقّقت الرؤيا وتوفّي الرجل بعد ثلاثة أيّام كما وُعد بذلك. يروي هذا الشخص نفسه ـ قبل وفاته ـ للشيخ الأنصاري بأنّه قد رأى في ذلك المنام أيضاً قصراً شامخاً فسأل: لمن هذا القصر؟ قيل له: «إنّه للشيخ الأنصاري»، وفي ناحية مجاورة من ذلك القصر رأى قصراً آخر أفخم من القصر الأول فسأل: وهذا لمن؟ قيل له: «هذا قصر الشيخ الدربندي». في ذلك الوقت كان الشيخان لا يزالان على قيد الحياة، كان الشيخ الأنصاري في النجف الأشرف، والشيخ الدربندي في كربلاء المقدسة. وبالإضافة إلى كون هذا الأخير مرجعاً دينياً، كان خطيباً يعتلي المنابر الحسينية وكان له منبر خاص في كل عام، حيث نُقل لي بعض من قصصه تلك بواسطتين عمّن حضر مجلسه، وكانت مجالسه تقام في الصحن الشريف في ظهيرة يوم عاشوراء من كل عام بعد انتهاء المجالس الأخرى حيث كانت تعجّ بجماهير غفيرة، وأحياناً كان يتحدث قبل ساعة من موعده، ويقول أحياناً: «لا أريد أن أقيم مجلس ندب ونواح فقد سمعتم منها ما يكفي طيلة الليل وحتى الظهيرة، لكنّني أريد أن أوجّه بضع كلمات باسمكم إلى الإمام الحسين سلام الله عليه...» وكان مجلساً مميّزاً حقّاً. كما دوّن المرحوم الدربندي كتاباً مسهباً عن الإمام الحسين سلام الله عليه يحمل عنوان «إكسير العبادات». كان المتحدّث(تلميذ الشيخ الأنصاري) يعرف الشيخين جيداً، ويعلم أنّ مرجعية الشيخ الدربندي لا تضاهي مرجعية الأنصاري، لذلك أثارت فخامة قصر الشيخ الدربندي في تلك الرؤيا السؤال في نفس تلميذ الشيخ الأنصاري ليسأل الملك عن سبب ذلك، لأنّه من المتوقع أن يكون قصر الشيخ الأنصاري أكثر فخامة وعظمة، فأجابه المَلَك قائلاً: «هذا ليس جزاء أعمال الدربندي، بل هو هدية له من قِبل الإمام الحسين سلام الله عليه».
سيد الشهداء سلام الله عليه يلي حساب الناس
روي عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه قوله: «إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن علي عليهما السلام، فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة وبعث إلى النار»(13).
كلنا سنرحل عن هذه الدنيا وسنحاسَب على أعمالنا في ثلاث محطات، - أعاننا الله عليها - حيث نُقل في بعض الروايات أنّه عند الموت، يؤتى بروح الإنسان عند الله الرحمن الرحيم لتُسأل، وحسب الرواية فإنّ الجسد لا يرفع من مكانه ما لم يتمّ الانتهاء من الحساب. وهناك حساب ثانٍ قبيل يوم القيامة، وثالث في يوم القيامة. وتصرّح الرواية المذكورة بأنّ حساب البرزخ للمؤمن والكافر فرادى وجماعات هو من اختصاص سيد الشهداء سلام الله عليه فقط. إذن كلنا سنواجه الإمام الحسين سلام الله عليه وسنكون مسؤولين أمامه، وقد خصّه الله جلّ وعلا بخصوصية لم يخصّ جدّه أو أباه أو أمّه أو أخاه بها ـ مع أنّهم جميعاً يفوقونه في المنزلة ـ، هذه الخصوصية هي في حسابه للخلق قبل يوم القيامة.
ومن المناسب هنا أن نتطرّق لرواية أخرى هي:
سابقاً كان قبر الإمام الحسين سلام الله عليه في عرض الصحراء حيث لا أثر أو علامة تميّزه، ولم يكن باستطاعة أحد الاهتداء إليه وزيارته من غير دليل مرشد، ومن ناحية ثانية، كان الجواسيس منتشرين في تلك الناحية ومأمورين بالقبض على كل زائر يتّجه صوب القبر، لتسليمه إلى السلطات آنذاك. وقد أدخل هذا الأمر الرعب في قلوب الجميع، ولم يكن أحد ليجرؤ على الزيارة. يقول عبد الله بن بُكير أحد أقرب أصحاب الإمام الصادق سلام الله عليه الذي نقل عنه روايات كثيرة: قلت له (أي للإمام سلام الله عليه): إني أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح؟ فقال له الإمام سلام الله عليه: يابن بكير أما تحبّ أن يراك الله فينا خائفا؟ أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظلّه الله في ظلّ عرشه وكان محدّثه الحسين عليه السلام تحت العرش وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة يفزع الناس ولا يفزع فإن فزع وقرته الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة (14).
إن الكثير منا قد قرأ قوله تعالى: ﴿في يومٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنَة﴾(15). في ذلك اليوم العصيب الذي ينشغل كلٌّ بنفسه ومصيره، هناك مكان آمن يرفل بالطمأنينة والسكينة ألا وهو ظلّ العرش حيث يقف الإمام الحسين سلام الله عليه، فأولئك الذين تحمّلوا المشاقّ والهوان في سبيله سلام الله عليه سيحظون بشرف التحدّث والأمن، أمّا الذين لم يسيروا في ذلك الطريق ولم يتحملوا الصعاب فيه فسيحرمون هذه النعمة العظيمة.
ذخر ليوم الحساب
علينا أن نتزوّد ليوم الحساب مادامت الفرصة سانحة، حيث يقول الإمام علي سلام الله عليه «فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم»(16).
وفي رواية أخرى له سلام الله عليه: «فإن اليوم عمل ولا حساب، وإنّ غداً حساب ولا عمل»(17)، لا يستطيع الإنسان يومئذ إضافة حسنة لصحيفة أعماله ولا محو سيئة منها.
لهذا، وبسبب انقطاع الأموات عن العمل في الدار الآخرة ـ من ذكرٍ ينفعهم أو حسنة تضاف لهم ـ تراهم يتحسّرون ويحسدونكم على كل لحظة من لحظات حياتكم، في حين أننا على العكس منهم، نستطيع أن نصحّح أخطاءنا.
بعبارة أخرى: إنّ صلاتنا وصومنا وحسن أخلاقنا ومعاشرتنا في الأسرة والمجتمع وكلّ ما يصدر عنّا من عمل صالح، كلّ ذلك حسابه عند الله تعالى، أمّا الخدمة في سبيل الإمام الحسين سلام الله عليه فلها وضع خاصّ عمّا سبق من الأعمال، والإمام الحسين سلام الله عليه وحده الذي أعطاه الله أن يثيب عليها، فهنيئاً لمن ضاعف من خدمته على هذا الطريق.
قد لا يخطر هذا الشيء على بال بعض، ويسأل: هل هذا معقول؟ جواباً على ذلك نقول: بأنّ الله سبحانه وتعالى قد خصّ الإمام الحسين سلام الله عليه بامتيازات دون غيره، فمثلاً: طبقاً للعديد من الروايات يكره المشي حافي القدمين حتى على الأرض الطاهرة، كما يكره لمن يرتدي زيّاً خاصّاً مثل العمامة والعباءة أن يخرج بدون عباءة، وهذه الكراهة تصدق في جميع أيّام السنة، في حين جاء في رواية صحيحة عن عبد الله بن سنان ـ نقلها الشيخ عباس القمي في كتابه مفاتيح الجنان، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار، والشيخ الحرّ في الوسائل وكذلك نقلها شقيقنا المرحوم(18) في كتاب الدعاء والزيارة في أعمال يوم عاشوراء ـ ما يستفاد منها أنّ من كان يضع العباءة طوال العام يستحبّ له أن يخلعها في يوم عاشوراء، ومن كان ينتعل يستحب له أن يخلع نعليه في ذلك اليوم(19).
كما ورد في روايات عدّة ما يلي: «يكره الصلاة بلباس أسود، لأنّ السواد يقلّل من ثوابها، كما يكره الطواف بلباس أسود، ويكره أيضاً الجزع على الميّت وهو غير الحزن والبكاء، فالجزع يعني العويل على الميّت، أو الضرب على الرأس واللطم على الوجه، لكنّ الجزع ولبس السواد على الإمام الحسين سلام الله عليه ليس مكروهاً، بل هو مستحبّ». فكلّ الامتيازات التي خصّ الله تعالى الإمام الحسين سلام الله عليه لم يخصّ بها أحداً من المعصومين الأربعة عشر سلام الله عليهم، وبعض الأمور التي تكره في مواضع أخرى هي مستحبّة إذا كانت في سبيل الإمام الحسين سلام الله عليه بل تُعدّ فضلاً وثواباً، هذا علاوة على الثواب الإلهي جزاءً على فعل الطاعة.
فالله تعالى قد أكرم الإمام الحسين سلام الله عليه بقائمة طويلة من الامتيازات، وعلى هذا الأساس، أولئك الذين يتحمّلون قسطاً أكبر من الشدائد والصعاب سيغبطهم غيرهم ويتحسرون عليهم. وفي الحقيقة، إنّ مثل الآخرة كمثل أسواق الدنيا، من يعمل ويكدّ أكثر، يكون ربحه في نهاية الموسم أكبر، ومن كان عمله أقلّ كان ربحه بطبيعة الحال أقلّ من غيره، مع فارق واحد وهو أنّ كلّ ما يجمعه الإنسان في سوق الدنيا قلّ أو كثر هو سراب، بينما خدمته لسيد الشهداء سلام الله عليه هي الثروة الحقيقية وهو ما يتجمّع له من الذخر الذي يستطيع الإنسان أن يأخذ معه لآخرته، بينما لا يستطيع المرء أن يشتري بأموال الدنيا الزائلة حتى حسنة واحدة.
يقول سيّد الشهداء سلام الله عليه مخاطباً أصحابه: «الدُّنْيا حُلْوُها وَمُرُّها حُلم»(20). أحياناً يرى الإنسان أحلاماً سعيدة، لكن ما أن يصحو من نومه حتى يتحسّر على كونها مجرّد أحلام، وكذلك الحال حينما يرى كابوساً، يسعد لكونه كان كابوساً لا حقيقة، وبالنسبة لنا عندما ننتقل إلى الآخرة سنرى بأنّ الدنيا لم تكن إلا حلماً وانتهى، لكن الخدمات التي قدّمناها على طريق محبة الإمام الحسين سلام الله عليه باقية، وكلما كانت هذه الخدمات أكبر كانت فرحتنا أعظم.
صيانة المكاسب
إن للمدرسة الحسينية عطاءً لا ينفد، ومكاسب لا تبلى، وهي تجسّد عظمة سيد الشهداء سلام الله عليه. فالحسين إمامنا ومثلنا الأعلى، فلنرَ ماذا قدّم لنا حتى نسلك طريقه ونتبع أثره، وهاهنا نستعرض بعض المكاسب التي جادت بها المدرسة الحسينية على الإنسانية، علّنا ننتفع بها في حياتنا:
أحد الأعمال التي قام بها الإمام الحسين سلام الله عليه هي تقديمه الماء لأصحاب الحرّ الرياحي، فمن هم يا ترى أصحاب الحرّ. إنّهم جماعة كلّفهم ابن زياد بمهمة اقتياد الإمام الحسين سلام الله عليه إليه، وكان الحسين قد قال: «حتى لو استسلمت لهم، فلن يتورّعوا عن قتلي»، نعم، إنّهم جاءوا لمحاربة الحسين سلام الله عليه وقتله في حال عدم استسلامه، لكنّ الحرّ رجع إلى نفسه وتاب في يوم عاشوراء بعد الذي بدر منه في البداية، فتاب الله عليه وكذلك الإمام سلام الله عليه عفا عنه. والآن لنرَ ماذا فعل أصحاب الحرّ؟ فريق منهم رمى الإمام بوابل من سهامه، وفريق آخر حاربه بالرمح والسيف، وأولئك الذين لم يكن معهم سلاح أمطروه بقطع الخشب والحجارة، كما ساهم بعضهم في قتل علي الأكبر سلام الله عليه، ومنهم من رمى أبا الفضل العباس بالسهام. وكان الإمام سلام الله عليه يعرفهم ويعرف نواياهم، لكن مع ذلك سقاهم الماء، وهنا نسأل دون أن نعترض: «يا أبا عبد الله لماذا سقيتهم الماء؟». الجواب هو أنّ الله تعالى يريد من الإنسان أن يخدم أخاه الإنسان صالحاً كان أم شريراً، وهنا أيضاً لا ينبغي أن يقال: لو لم يسقهم لما دخل بعضهم النار. لأنه كان سيموت من العطش، وبالتالي لم يكن ليشارك في محاربته سلام الله عليه، لأنّ الله يريد من الإنسان أن يخدم أخاه الإنسان بغضّ النظر عن كونه كافراً أو مسلماً، عادلاً أم فاسقاً، ولكن بشرط أن لا تكون تلك المساعدة علامة على تأييد مسلكهم الخاطئ.
لنحاول تعلّم هذه الدروس من الإمام الحسين سلام الله عليه وهي أن نستعمل ألسنتنا ومواقفنا في فعل الخير دائماً ومع الجميع دون استثناء، فإذا كان باستطاعتنا التفريج عن كربة مكروب فلا نتردد في ذلك، وإذا كان بإمكان المرء أن يساعد بماله أو لسانه أو التوسّط للمساعدة لصالح من يعرفه أو حتى من لا يعرفه، فليفعل.
وهنا نسأل: أليس قتلة الإمام الحسين سلام الله عليه هم شرّ خلق الله؟ لكن مع ذلك نرى الإمام سلام الله عليه نفسه في ذلك اليوم يترجّل عن فرسه ليسقي من ماء قربته أحد أفراد العدو الذي خارت قواه من شدّة العطش ولم يقوَ على النهوض. يقول بعض الرواة بأنّ ذلك الشخص كان أحد الذين شاركوا في قتل الإمام الحسين سلام الله عليه يوم عاشوراء، والإمام نفسه كان يعلم بهذا، ومع ذلك سقاه الماء.
هناك نقطة أخرى وهي: أن بعض محبّي أهل البيت سلام الله عليهم هم من الذين يقطنون في مختلف بلدان العالم غير الإسلامية، وهم بأمسّ الحاجة إلى الحسينيات والمساجد والمدارس والكتب لأبنائهم، فإذا كنتم لا تستطيعون بناء الحسينيات والمساجد، فعلى الأقل شجّعوا الآخرين على هذا العمل النبيل، أو المساهمة في الأعمال الثقافية المتعلقة بمواكب الإمام الحسين سلام الله عليه. فقد يتّصل بكم أحد الأقارب أو الأصدقاء تلفونياً أو يبعث لكم برسالة، أو قد تتّصلون أنتم بهم، فهذه فرص مناسبة لتشجيع الآخرين على تقديم الخدمات في سبيل الإمام الحسين سلام الله عليه، حتى لو بدأ المرء من نقطة الصفر، والإمام الحسين سلام الله عليه هو الكفيل بأن يأخذ بيده ليصل بعمله إلى النتيجة المطلوبة.
لقد رأيت بنفسي حسينية تأسّست في إحدى الدول كانت الأموال التي جمعت لها في بادئ الأمر هي من أموال القروض، وخلال 20 عاماً أصبحت أهمّ حسينية في ذلك البلد. لذلك، ابدأوا العمل في هذا الطريق بأقلامكم وألسنتكم وتشجيعكم، وإذا كانت لديكم استطاعة مالية، مهما كانت متواضعة، فلا تترددوا، فإن أعمالاً كهذه هي التي جعلت المرحوم الدربندي يحظى بقصر من لدن الإمام الحسين سلام الله عليه أفخم وأعظم من قصر المرحوم الشيخ الأنصاري مع ما لهذا الأخير من مكانة ومنزلة مرموقة.
ونقطة أخرى هي أنّه يمكنكم أن تضيئوا مصباح الهداية الحسيني في بيوتكم، وذلك من خلال إقامة مجالس العزاء الحسينية العامة، فمن تمكّن من فعل ذلك فهنيئاً له، ومن لم يتمكّن فليقم مجالس عزاء خاصة في بيته، وإذا تعذّر ذلك أيضاً فيمكنه إقامة مجلس عزاء لأسرته فقط مع مشاركة جار أو قريب له. ولهذا العمل بركات دنيوية جليّة تسبق بركاته الأخروية.
بالإضافة إلى أنّ الحضور في الحسينيات والمجالس العامة له أهمّيته كذلك، لكن من الأفضل أن ينقل المرء هذه البركات إلى داخل بيته، وإذا لم يستطع تحمّل أعباء هذه المجالس، فليكتف بأقلّها، وسترون بأمّ أعينكم كيف أنّ الله سيبارك بها وستتمكّنون حتى من الإطعام.
حفظ الأمانة
إنّ شبابنا هم أمانة الله وأهل البيت سلام الله عليهم في أعناقنا، وقد حافظ أسلافنا على الأمانة على أحسن وجه وسلّمونا الدين ومضوا، لذلك علينا أن نسعى بدورنا أن نصون الأمانة الواصلة إلينا على أتمّ صورة، لنسلّمها إلى الأجيال من بعدنا، فلنحاول أن لا يُحرم أيّ شابّ في محلّتنا أو عشيرتنا أو بين أصدقائنا من المشاركة في الحسينيات ومجالس العزاء، وإذا كنّا نعرف شباباً كهؤلاء فلنشجّعهم على المشاركة في هذه المجالس، ولندفع الشباب نحو المواكب الحسينية والتي هي حبل النجاة من الضلال والجهل بكلّ وسيلة متاحة، ولنكرّر محاولاتنا معهم مرة وثانية وثالثة... وهكذا، ولا نيأس من عدم استجابتهم، حتى ينضمّوا إلى الصفوف الحسينية. فلو سألكم مولانا أبو عبد الله سلام الله عليه: «كان فلان شابّاً صالحاً، فلماذا لم تشركوه في هذه المجالس؟» وأجبتم: «يا مولاي حاولنا معه ولم يستجب»، فإنّه سلام الله عليه سيقول لكم: «هلاّ حاولتم مرّة ثانية»، فإن قلتم: «أرسلنا في طلبه ولم يأتِ»، فسيقول لكم: «كان عليكم أن تشجّعوه..» فبم ستجيبونه حينئذٍ؟ لنحاول دفع الشباب باتجاه المواكب والشعائر الحسينية، فهذه المسألة تحظى بأهمية كبيرة، خاصة في عالم اليوم حيث تحاول وسائل الأعلام المضلّة وبشكل واسع إغراء الشباب وجذبهم نحوها. وعلينا أن نعلم بأنّ كلّ حسينية هي بيت من بيوت الإمام سيد الشهداء سلام الله عليه، فلنحاول تجنيب هذه الحسينيات من أن تتحوّل إلى مسرح لطرح الخلافات والنزاعات، بل على العكس، لنجعل منها أماكن للاجتماعات والوحدة والوئام.
الاقتداء بسيّد الشهداء سلام الله عليه
إنّ المشاركة والخدمة في المجالس الحسينية فيها ثواب عظيم، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ، فلم يكن يوم عاشوراء مناسبة للندب والتعزية فحسب، بل كان وما يزال وقفة للتأسّي بدروسه والاقتداء بأبطاله، وعليه يجب علينا أن نقتدي بسيد الشهداء سلام الله عليه وأن نتأسّى به في جميع شؤوننا.
إن قضية الإمام الحسين سلام الله عليه تتميز بميزتين هما العَبرة والعِبرة، وهاتان الميزتان ملازمتان. من هنا، فإنّ الذي يحظى بمنزلة أرفع وحرمة أكبر عند سيّد الشهداء سلام الله عليه هو الأقدر على أخذ العِبرة من الإمام سلام الله عليه وذرف الدمعة والعَبَرة عليه، وعلى قدر السعي في هاتين المسألتين يكون الثواب والجائزة، بعبارة أخرى، إن توقّع الإمام الحسين سلام الله عليه من الأفراد يتناسب مع منزلتهم ومقامهم. ولم يهمل المعصومون سلام الله عليهم في رواياتهم هذا الجانب أي منازل الأفراد، حيث يقول الإمام الصادق سلام الله عليه لأحد أصحابه: «إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منّا، وإن القبيح من كلّ أحد قبيح وإنّه منك أقبح...» (21).
وفيما يتعلّق بالنقطة الثانية وهي أخذ العبرة من سيد الشهداء سلام الله عليه، فقبل كل شيء يجب أن نعلم لماذا اختار الإمام سلام الله عليه وأبناؤه وأصحابه طريق الشهادة وبهذه الطريقة المفجعة، ولعلّ زيارة الأربعين تجيب عن تساؤلنا حيث جاء فيها: «لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ»(22). هنا استخدمت كلمة«عبادك»، وهي لا تخصّ الشيعة وحدهم، بل جميع العباد. في الحقيقة، إن الإمام الحسين سلام الله عليه باستشهاده قد فتح مدرسة العبرة للجميع، ليقارعوا الظلم ويتحمّلوا الشدائد والمصاعب حتى يذوقوا طعم السعادة.
فالإمام سلام الله عليه أراد أن ينجي العباد من الجهل والضلال والتيه، لذلك إذا أردنا أن نتقرّب منه أكثر علينا أن نبذل كل ما نملك في خدمة هذه القضية.
وخلاصة القول، إنّ الإمام الحسين سلام الله عليه استشهد لثلاثة أهداف: أصول الدين، والأحكام الشرعية، والأخلاق الإسلامية، فمن أراد البرهنة على ولائه لسيد الشهداء سلام الله عليه وأهدافه السامية عليه أن يسعى لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة التي استشهد من أجلها الإمام سلام الله عليه، وأن يضعها على رأس أولوياته، لتقرّ عين الإمام الحسين سلام الله عليه والإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. ولنعلم بأنّه على قدر هممنا في المضي في هذا الدرب، تكون عنايتهما ولطفهما تجاهنا.
نور أوقده الله
ميزة أخرى للإمام الحسين سلام الله عليه نرويها هنا نقلاً عن كتاب كامل الزيارات وهي قول سيدتنا زينب الكبرى سلام الله عليها: «وَلْيَجْتَهِدَنَّ أئِمَّة الكُفْرِ وَأشْياع الضَّلالة في محوه وتطَميسِهِ فَلا يَزْدادُ أثره إلاّ ظُهوراً وَأمْرُهُ إلاّ عُلوّاً»(23).
إنّ التصدّي والقمع يؤدّيان إلى إضعاف واضمحلال السلطة وأهمّ من ذلك الفكر أحياناً، ولكن بالنسبة لمواكب سيد الشهداء سلام الله عليه كان الأمر على العكس، فكلما كان القمع والضغط يشتدّان، كان نورها يشتدّ ويقوى، وكلما كان عدد المعارضين والمتصدّين لهذه المواكب يزداد كانت المواكب تترسّخ وتصلب.
في الماضي كانت طقوس محرّم والمجالس الحسينية مقتصرة على المناطق الشيعية وأحياناً بعض المناطق الإسلامية، أمّا الآن، وبسبب السياسات التي اتّبعت لمحو هذه الطقوس، نرى أنّ النطاق الجغرافي لإقامة هذه الطقوس والمراسيم بدأ يتّسع ليشمل مختلف أرجاء العالم بما فيها البلاد غير الإسلامية، وهذا هو معنى الظهور الوارد في الرواية. ونتيجة لهذا الانتشار، أصبح الذين لم يسمعوا باسم الإمام الحسين سلام الله عليه يتعاطفون معه ومع أهدافه في الثورة ومحاربة الظلم، وبدأوا يدخلون في الإسلام، وأصبحوا هم أنفسهم عاملاً مهمّاً في إقامة هذه الشعائر.
نقطة أخرى تشير إليها السيدة زينب سلام الله عليها أيضاً وهي علوّ الأمر الوارد في الرواية أعلاه (وهو كل ما يرتبط بالمواكب الحسينية). ففي الأيام السالفة كانت مجالس العزاء تقام في المحلات السكنية والحسينيات والتكايا و...إلخ، فكان الحاضرون لهذه المراسم هم الذين يشهدون وقائعها، أما اليوم، وفي ظل التقدّم الكبير في وسائل الاتصال، يمكن لجميع الناس مشاهدتها عن طريق وسائل الإعلام كالتلفزيون وغيره، وأن يشهدوا وقائعها عن كثب، وهذا هو معنى علوّ الأمر.
سبايا أهل البيت سلام الله عليهم في ساحة المعركة
حينما أراد جيش عمر بن سعد في اليوم الحادي عشر من محرّم اقتياد السبايا إلى الكوفة، كان الإمام السجّاد سلام الله عليه من شدّة ما ألمّ به من مرض لا يقوى على ركوب الناقة، لذلك قاموا بربط رجليه من أسفل بطن الناقة. وعندما اقتيد السبايا من وسط ساحة المعركة، رمت النسوة والصبية بأنفسهم على جثث الشهداء، أمّا الإمام السجّاد سلام الله عليه فلم يستطع فعل ذلك، ويقول في هذا الشأن: «فكادت نفسي تخرج فَتَبَيَّنَت ذلك عَمَّتي زينب...» (24).
العقيلة زينب ليست ضمن الأربعة عشر معصوماً، لكنّها صاحبة «العصمة الصغرى»، ومكانتها تأتي بعد مكانة المعصوم سلام الله عليه مباشرة، لذلك عندما رأت الإمام السجّاد سلام الله عليه يوشك أن يلفظ أنفاسه، تركت جثث الشهداء وتوجّهت إليه سلام الله عليه، وذكرت له بعض الأمور - والتي طبعاً هو أعلم بها ـ حتى هدأ قليلاً. وقد أخبرت العقيلة زينب ابن أخيها بأنّ هذا الحال لن يدوم، فسوف يأتي زمان يقيم أناس مجالس عزاء للإمام الحسين سلام الله عليه ويحيون ذكراه. وهكذا أسكنت لوعة قلبه الشريف قليلاً.
أسأل الله ببركة سيّد الشهداء سلام الله عليه ـ هذا الإمام الهمام الذي هو منشأ البركات في الدنيا والآخرة ـ أن يوفّقنا أكثر فأكثر على طريق خدمة أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه وأهدافه الرفيعة والمجالس الحسينية المباركة.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين
اضف تعليق