q

أن تتصدى للإفتاء والإجابة عما يدور في خواطر الناس من أسئلة وهواجس ليس بالأمر الهيّن، أما أن تكون متصدياً للإفتاء ولزعامة الطائفة ولمواجهة خطر كارثي يتمثل باحتلال دولة أجنبية لأراضيك؛ فهنا يكمن الشقاء كله، لأنك أمام مسؤولية معقدة لا حدود لها، فمن جهة أنت مطالب بأن تكون حازماً في اتخاذ قرار المواجهة في اللحظة الحاسمة قبل حدوث الكارثة، ومن جهة أخرى عليك أن تدير حرب التحرير هذه بأقل الخسائر البشرية، وهذا ما حدث فعلاً مع مفجر وقائد ثورة العشرين الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس).

إذاً، نحن أمام إمبراطورية بريطانيا التي انهارت في العراق على يد مرجع شيعي قدم من شيراز الإيرانية التي ولد فيها، هاجراً إيها أيام شبابه إلى كربلاء، ومستقراً هناك لزعامة الشيعة في العالم.

بهذه السيرة المقتضبة التي ذكرتها الآن، لرجل يبدو في الظاهر أنه رجل عادي كغيره من نظرائه؛ كيف يمكن له أن يصنع ثورة طرد عبرها جيشاً غازياً لبلاده ببضع كلمات وبيانات أمام ترسانات الجيش الإنكليزي المتطورة؟ كيف نجح هذا الرجل البسيط في مواجهة هذا الخطر المحيط بالأمة دون أن يكون "رجلاً خارقاً"؟!

الإجابة بكل بساطة هو أن الرجل كان ساحراً، واستطاع أن يأسر قلوب الناس ويجذبهم نحوه عبر خلقه النبوي الرفيع الذي جعل من العراقيين طوع إرادته، مضافاً إلى ذلك الحنكة السياسية التي كان يوظفها بحكمة عالية والتي استطاع من خلالها استقطاب الجميع عبر مشاورتهم وإشراكهم في اتخاذ القرارات.

إذ ينقل عنه (قدس) أنه كان يستشير جملة من الفقهاء آنذاك في كل صغيرة وكبيرة فيما يرتبط بالوضع السياسي وأنه كان لا ينفذ قراراً أو يتخذ موقفاً دون أن يطرحه عليهم فإن وافقوا توكل على الله ومضى في الأمر وإلا فإنه يقدم قرار ورأي الأكثرية منهم.

الوجه الآخر للميزا محمد تقي الشيرازي (قدس) وهو ما لا يعرفه كثيرون عنه، والذي كان عاملاً مهماً في نجاح ثورته وقيادة الأمة وصياغة شخصيتها؛ وهو إنسانيته العالية وعاطفته الجياشة التي كانت تشعره بالآخرين من حوله، فعلى الرغم من حزمه وشدته وصلابته في مقاومة الاحتلال البريطاني آنذاك، كان أيضاً رحيماً عطوفاً ليناً مع الآخرين. إنني هنا بصدد بيان واحدة من مصاديق وتجليات الآية الكريمة: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.(1)

وإليكم، ما لا نألفه من الخُلق العالي في غير هذه الشخصية الإيمانية، وهي بمثابة الوجه الآخر لقائد جرّت بريطانيا بكبريائها أذيال الخيبة على يده.

كان شديد الحياء

ينقل أحد الملازمين للميرزا (قدس) وهو أخ لآية الله السيد ميرزا مهدي الشيرازي، أن سماحته (قدس) كان متواضعاً وشديد الحياء، لدرجة أنه كان ينظر إلى الأرض أكثر مما ينظر إلى مكان آخر، بل أن ناقل الوصف الذي رافق سماحته لمدة عشرين عاماً يقول: "لم يقع نظري في نظره إلا مرتين فقط، كل ذلك لتواضعه، وحيائه وكثرة إطراقه برأسه إلى الأرض".

يأكل دون الشبع

وبالرغم من أنه كان يشغل أهم أعلى منصب، وهو منصب المرجعية العليا للشيعة في العالم، إلا إنه كان في غاية الزهد، فلم يكن متقيداً بمظاهر الزينة، ولا مهتماً بوسائل الراحة في الحياة، لم يكن أيضاً يعتبر الملبس أو المسكن أو المطعم أو المشرب محوراً في حياته، إذ ينقل عنه أنه لم يكن ينتقد طعاماً ينقصه الملح مثلاً، أو أن طعامه كان لذيذاً أو لا، بل حتى أنه لم يكن يأبه لأن يكون هذا الطعام بارداً أو حاراً.. قُدم موعده أو أُخر، وكان يأكل دون الشبع ويدعو الله كثيراً أن يشبع الجائعين على وجه الأرض.

موقف في السفر!

أما على مستوى الرفق والسماحة والحلم، فيروى أنه تعاهد أحدهم لإثارة غضب وسخط الميرزا رحمه الله، مستغلاً ثغرة حب كل إنسان للتعظيم والتبجيل وكره كل من يزدري به، فقام خلال سفرة دينية بطرح مسائل أصولية على الإمام بطريقة استفزازية وبأسلوب خشن في النقاش بغية إثارة غضبه، لكن الإمام رحمه الله كان يجيبه بتأنٍ وهدوءٍ شديدين جداً، وفشلت كل محاولات النيل منه، حتى لجأ أخيراً إلى القفز من الهودج الذي كان يقلهما سويةً، فاختل توازن الهودج وسقط الميرزا من الجمل على الأرض، فما كان منه -رحمه الله- إلا أن يقوم عن الأرض وينفض الغبار عن ملابسه ويقول: "الحمد لله رب العالمين، أما أنا فلم يصبني سوء، كيف أنت يا أخي لم يصبك سوء؟!". (2)

رجل يتهجم على الميرزا الشيرازي

وفي موقف آخر، ينقل أنه جاء رجل محتاج إلى الميرزا رحمه الله يسأله عن مال إزاء الإجارة للصلاة أو الصوم عن الميت، وهو أمر شائع أن يستأجر أحدهم شخصاً يكون مؤمناً عادلاً لأداء الصلاة أو الصوم أو الحج عن ميته الذي تعلق في ذمته شيء منها.

وفي تلك الأثناء، جاء هذا الرجل المحتاج وطلب من الميرزا محمد تقي الشيرازي رحمه الله أن يعطيه شيء من الأموال المتعلقة بهذا الأمر، لكن الميرزا لم يكن لديه من هذه الأموال في حينها، فاعتذر منه ووعده بأنه متى ما وصل له شيء من هذه الأموال المخصصة للعبادات الإنابة سوف يرسل له منها.

غير أن الرجل أخرجه العوز عن حدود صبره، وانهال على الميرزا قدحاً وقذفاً، وبعد أيام وصلت أموال العبادات للميرزا، فقام بفرز قسماً منها وأمر أحدهم بإيصاله إلى الرجل، فاعترض عليه الحاضرين الذين شهدوا واقعة تهجم الرجل على الميرزا وقال أحدهم للميرزا: "يا سماحة الميرزا! ألم تشترطوا في الأجير الذي يقضي الصلاة والصوم عن الميت بأن يكون عادلاً؟

أجاب الميرزا: نعم، اشترط ذلك.

فرد المعترض قائلاً: ألم تعدّوا القذف والقدح من الكبائر المسقطة للعدالة؟ أجاب الميرزا ثانية: نعم، إنها من الكبائر ومسقطة للعدالة، إلا أن يرجع ويتوب.

فتابع المعترض: إذاً هذا الشخص الذي تبعثون لـه بالمال، قد قدحكم وقذفكم، فسقط عن العدالة، فلا يستحق شيئاً من المال لعدم أهليته لقضاء شيء من ديون الميت.

فأجابه الميرزا رحمه الله: ألم تسمع الحديث الشريف يقول: احذر الكريم إذا جاع، فإنها ساعة لا يؤاخذ عليها فهي لا تنافي ملكة العدالة، ثم إنه لم يتعرض لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وللإمام عليه السلام، وإنما تعرض لي وقد عفوت عنه. (3)

رجل دين ودنيا

أما وصية "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" التي وردت عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقد تجلت في الكثير من تصرفات الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي، ويصفه المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم، والذي كان من كبار الفقهاء الشيعة والمناصرين لقيادة الميرزا في ثورته ضد الإنكليز، يصفه بأنه "كان رجل دين ودنيا بما للكلمة من معنى".

وينقل إنه كان يقول الميرزا: "لقد كان يهيئ كل الأمور والأسباب المادية اللازمة، ويأخذ كل الاحتياطات والاستعدادات الحسية الكفيلة بنجاح الثورة وتقدمها، وكان لا ينسى إلى كل ذلك الجانب المعنوي والمعدات الغيبية البالغة الأثر في تفوق الثورة وانتصارها، ألا وهو جانب الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، والتوسل بأهل البيت عليهم السلام ووساطتهم إلى الله سبحانه". (4)

أخيراً، لا يزال للخلق النبوي تأثيره حتى مع تطور الحياة واتساع دائرة المغريات الدنيوية. فبإمكان القيادات المتصدية أن تسير على نهج القائد الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس) من خلال الاقتداء بسيرته التي استقاها من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن الأئمة الأطهار عليهم السلام، فالرجل بعد أكثر من ألف عام على رحيل النبي استطاع عبر أخلاقه وإنسانيته أن يأخذ أبناء الشعب العراقي إلى تلك الفترة التي حقق فيها النبي مع أصحابه أهم انتصاراته، وصنع من خلالها انتصاراً جديداً للإسلام.

...............................
(1) سورة الفتح الآية 29.
(2) "في رحاب قائد ثورة العشرين" إعداد لجنة إحياء تراث الإمام الشيرازي ص 15.
(3) المصدر نفسه ص 22
(4) المصدر نفسه ص 41

اضف تعليق