أكتب لكم هذه السطور، وبانتظاري جيش من النقّاد والمستهزئين غالبيتهم من الأهل والأقارب والأصحاب، ينتظرون مقدم ولدهم من كربلاء إلى بغداد حاملاً معه فرحة العيد، وابتسامة تخفي آلاماً وجروحاً عميقة بلباسه البالي الذي لم يغيره منذ خمسة أعوام.
صدقوني وأنا أعلم جيداً وأثق تماماً بأن هذه السطور، وإن حوت حججاً ساطعة، لن تشفع لي خطيئتي الكبرى التي أقدمت عليها مؤخراً! حيث قررت في لحظة من "فقدان القلب والعاطفة" أن أعتزل الجميع وأنشغل بهمومي المتراكمة وإصلاح عيوب نفسي. حتماً سينظر لي الجميع على أنني "ولد عاق" في هيئة رجل دين ينشد الزهد طلباً للجنة.
لكن مع كل ما تقدم، أصر على سرد ما يلي:
يُنقل عن الشيخ النراقي، صاحب كتاب "جامع السعادات" أشهر كتب الأخلاق، أنه كان لا يفتح الرسائل التي تصله من أهله، ويرميها تحت الفراش -السجادة- لكيلا يقرأ ما يشغله عن اهتماماته وأهدافه الكبيرة التي يجهل أهميتها عامة الناس، فاهتماماتهم متفاوتة، وينصب غالبيتها في يومياتهم التي لا تخلو من المشاكل البسيطة وإن كبرت في أعين أصحابها.
لكن ذات مرة، حملت للشيخ إحدى الرسائل خبراً مفجعاً وهو مقتل والده المقيم في نراق، فكيف تعامل صاحب أشهر كتاب أخلاقي مع هذا الحدث؟
في الرسالة طلبوا منه الحضور لتصفية التركة ومتعلقات الإرث. وكالعادة، لم يفتح الشيخ النراقي هذه الرسالة أيضاً كسابقاتها ليطلع على ما جاء فيها، ورماها تحت السجادة إلى جانب رسائل أخرى.
ولأنه لم يجب عليها، كتبوا له مرة أخرى، ولم يأت الرد في هذه المرة أيضا.
أخيراً قرروا أن يكتبوا لأستاذه الشيخ إسماعيل الخاجوئي بما جرى على والد الشيخ النراقي ليحضر الأخير إلى بلده. أما الشيخ الاستاذ، فارتأى أن يمهد لهذا الخبر المفجع على أمل أن يخفف من وطأة هذا النبأ الصادم.
فأخبر الشيخ الخاوجئي تلميذه أن والده جرح ويفضل له الذهاب إلى بلده حالاً، غير أن الشيخ النراقي اكتفى بالدعاء طالباً العافية لوالده، وسأل استاذه أن يعفيه من ترك درسه واهتماماته والذهاب إلى بلاده.
إصرار الشيخ النراقي آنذاك أجبر أستاذه الخاجوئي على البوح بحقيقة ما حدث لوالده، وأخبره بأنه قد قتل، غير أنه لم يكترث أيضاً، فما كان من الأستاذ إلا أن يأمره بالسفر إلى أهله حتى امتثل وسافر وبقي في بلده ثلاثة أيام فقط ثم عاد إلى درسه.
وسمعت ذات مرة من سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي، دام ظله، وهو ينقل وصية أخيه المرجع المرحوم آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي لطلبة العلوم الدينية بأن يجدوا الأعذار دائماً للدرس والمواظبة عليه، لا أن يعتذروا عن الحضور بالالتزامات الاجتماعية والانشغال بهموم العائلة والأولاد.
ولمست شخصياً اهتمام المرجع المدرسي، دام ظله، بإلقاء دروسه على طلبته وكتابة بيانه الأسبوعي الذي يصدره كل يوم جمعة من مدينة كربلاء المقدسة في أصعب الظروف، ولا أذكر ولو لمرة واحدة أن طارئاً أو مرضاً أو تعكر في المزاج قد منعه من تحرير بيانه بنفسه.
وحتى عند رحيل ابنته الشابة العلوية أم حسين رحمها الله التي وافتها المنية في حادث سير في إيران، أصر في اليوم التالي على إصدار بيانه الأسبوعي وتطرق فيه كالعادة إلى جملة من التوصيات الدينية والسياسية.
هذه المواقف وأخرى كثيرة، تدعونا إلى الاهتمام بجوهر ما يراه عامة الناس على أنه "العزلة" عن الآخرين.
جوهر هذه العزلة هو التركيز على القضايا المهمة والأهداف الكبيرة واجتناب الانشغال بسفاسف الأمور وتوافهها والهروب من شرور الدنيا.
أخيراً.. ما لا يفهمه كثيرون هو أن الانفراد عن الناس والانعزال عنهم أو عدم التفاعل مع مشاكلهم السطحية لا يأتِ بدافع شعور رجل الدين بالتعالي عليهم، وإنما هي خطوة في طريق بناء الذات وصيانة الدين حتى لو كان ذلك على حساب الاحتفاء ببهجة قدوم العيد.
اضف تعليق