الذي يمرُّ بأَطوارٍ عقليَّةٍ ووعيٍ مُتميِّزٍ بشَكلٍ مُستمرٍّ فهو النُّموذج السَّليم والطَّبيعي وغيرهُ الشُّذوذ في هذا العالَم المُتغيِّر. إِنَّ للعُمرِ حقٌّ في الدَّفعِ باتِّجاهِ أَطوار التعقُّلِ والفَهمِ والوعي والإِدراك. للقراءةِ والتفكُّرِ والتدبُّرِ والإِطِّلاعِ على تجاربِ الآخرين وقَصصِ الأُممِ الأُخرى، إِنَّ لكُلِّ ذلكَ حقٌّ على المرءِ في أَن يشعُرَ بأَطوارهِ...
(نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
إِنَّ الكلامَ في أَطوارِ الفهمِ والوعي لا يخصُّ الثَّوابت والأُصول لنخشى أَو نتردَّد وإِنَّما المقصُودُ على مُستويَينِ؛
- فَهمُ الثَّوابت والأُصول وطريقة التَّفكير في عمليَّة الوعي.
وليسَ عبثٌ أَن حرَّمَ المُشرِّع التَّقليد في الأُصُول، كونَ الإِيمانِ بها يتوقَّفُ على الفهمِ والإِدراكِ الذي يعتمِدُ على البصيرةِ التي تعتمِدُ على العلمِ والإِيمانِ معاً (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
- في المتغيِّراتِ التي تعصِف من حولِنا كُلَّ يومٍ وكُلَّ ليلةٍ بل في كُلِّ لحظةٍ في هذا الزَّمن الذي يمرُّ بتحوُّلاتٍ سرعتَها تفوقُ سُرعة الصَّوت.
على العكسِ تماماً فإِنَّما يلزمكَ أَن تستغرب إِذا التقيتَ بصديقِكَ بعدَ [١٠] سنوات من الفراقِ ووجدتَهُ يُفكِّر بنفسِ عقليَّتهِ القديمةِ وبنفسِ وعيهِ للأُمورِ وبذاتِ طريقةِ تفكيرهِ ورُؤيتهِ للأُمورِ.
هذا النُّموذج الشَّاذ هو الذي يجب أَن تتوقفَ عندهُ مليّاً وتستغرب من حالهِ، خاصَّةً إِذا يحمِلُ معهُ ما يُشيرُ إِلى طلبهِ للعلمِ أَو أَنَّهُ عالِمٌ بالفعلِ!.
أَمَّا الذي يمرُّ بأَطوارٍ عقليَّةٍ ووعيٍ مُتميِّزٍ بشَكلٍ مُستمرٍّ فهو النُّموذج السَّليم والطَّبيعي وغيرهُ الشُّذوذ في هذا العالَم المُتغيِّر.
إِنَّ للعُمرِ حقٌّ في الدَّفعِ باتِّجاهِ أَطوار التعقُّلِ والفَهمِ والوعي والإِدراك.
كذلكَ فإِنَّ للقراءةِ والتفكُّرِ والتدبُّرِ والإِطِّلاعِ على تجاربِ الآخرين وقَصصِ الأُممِ الأُخرى، إِنَّ لكُلِّ ذلكَ حقٌّ على المرءِ في أَن يشعُرَ بأَطوارهِ على مُستوى الفكرِ والثَّقافةِ والسُّلوكيَّاتِ والأَخلاقِ وفي وعيهِ وإِدراكهِ وفهمهِ.
إِنَّ آيةً في القرآن الكريمِ قد يمرُّ عليها الإِنسانُ بتركيزٍ وانتباهٍ لم يكن، فيما مضى، قد استوعبَها قد تغيِّر حياتهِ وتقلِب فهمهِ رأساً على عقِبٍ.
وهكذا فقد يقلِبُ حياتكَ كتابٌ تقرأَهُ أَو قصَّةُ نجاحٍ تطَّلعَ عليها أَو حديثُ عالمٍ فقيهٍ تُصغِ إِليهِ لم تكُن من قبلُ تنتبهَ لهُ أَو فيلماً وثائقيّاً تُتابعهُ، وهكذا.
فكيفَ تُريدني أَن يتكلَّسَ عقلي ويتجمَّدَ فِهمي ويقفُل عقلي ولا يتطوَّر وعي، خاصَّةً في المُتغِّيراتِ، بعدَ كُلِّ هذا العُمُرِ والتَّجاربِ التي مرَّت عليَّ خلالهِ؟! وإِذا ما حصلَ ذلكَ تبادِرُني مُستنكِراً؛ لقد تغيَّرتَ!.
لماذا لا تقلِب إِستغرابكَ فتقُولُ عن نفسِكَ؛ لقد تحجَّرتَ؟!.
نعم فالمرءُ يفتخِر إِذا قيلُ لهُ لقد تغيَّرتَ وعليهِ أَن يحزن إِذا قيلَ لهُ بأَنَّكَ لم تتغيَّر منذُ [٢٠] عاماً فهذا يعني أَنَّهُ لم يستفِد شيئاً من عمرهِ ولم يتعلَّم شيئاً جديداً بالقراءةِ والكتابةِ والمُتابعةِ والإِطِّلاعِ والإِصغاءِ.
سمِعتُ ذاتَ مرَّةٍ خطيبٌ يقولُ على المنبرِ مُفتخِراً؛ منذُ [٤٠] عاماً وأَنا أَعتلي المِنبر وأَخطبُ في النَّاسِ من دونِ أَن أَقرأَ كتاباً واحداً! وقد فسَّرَ الظَّاهرة بالمُعجِزة!.
لو كانَ الثَّباتُ في المعرفةِ والفهمِ وعدم التَّغيير في الوعي هو الشَّيء الصَّحيح لما كانَ عندنا عالِمٌ وأَعلمٌ والأَعلمُ! فما الذي يفرِّق بينَ هؤُلاء سوى حَجم التَّغيير الذي يحصَل عندَ كُلَّ واحدٍ منهُم بمرورِ الوقتِ في مُستوى الوعي والإِستنتاجِ والإِدراكِ؟!.
إِنَّ قَولَ الله تعالى (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) شرعَ الأَبوابَ على مِصراعَيها ليكتسِبَ الإِنسانُ ما لا يُحدُّ من العلمِ وفي مُختلفِ المجالاتِ، وهذا ما نعيشُ بعضَ صُورهِ الآن.
لقد قرأنا عن عُلماءَ وفُقهاءَ غيَّرُوا رأيهم في أَعقدِ المسائلِ الشرعيَّةِ والفلسفيَّةِ والعلميَّةِ بسببِ خبرٍ أَو روايةٍ أَو رأيٍ أَو نصٍّ لم يكُونُوا ينتبهُونَ لهُ من قبلُ.
ولولا كُلَّ ذلكَ لما كانَ عندنا شيءٌ إِسمهُ [إِجتهادٌ] والذي يعني بذلَ أَقصى الطَّاقة الفكريَّة لاستيعابِ المُتغيِّرات.
نظريَّةٌ أُخرى في غايةِ الأَهميَّة يُشيرُ إِليها قولُ الله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) والتي تتحدَّث عن [الأَطوار المعنويَّة] في حياةِ الإِنسانِ والتي يُمكِنُ أَن تكُونَ هي نفسَها الأَطوار التي تمرُّ بها الأُمم والدُّوَل والحضارات.
الذي يُمكِنُ أَن نستفيدَهُ من الآية الكريمةِ هو ما نطلُقَ عليهِ نظريَّة [تكامُل الأَجيال] على عكسِ ما يذهب اليهِ البعضُ بتسميَةِ نظريَّة [الإِزاحة الجيليَّة] التي ليسَ لها أَي مبنى قُرآني أَو حتَّى منطقي أَو عقلي.
فالآيةُ رسمَت خطّاً بيانيّاً في غايةِ الدِّقَّةِ وهو كالتَّالي؛ الضَّعف ثُمَّ القُوَّة ثم الضَّعف و [الشَّيبة] التي تنتهي إِلى أَرذلِ العُمُرِ ثُمَّ المَوت، وهيَ المراحل التي يمرُّ بها كُلَّ جيلٍ مع مرُورِ الوقتِ وتصرُّمِ العُمُرِ، وكذلكَ كُلَّ أُمَّةٍ وحضارةٍ كما يصِفُ ذلكَ عُلماء الإِجتماع.
فإِذا طابقنا الأَجيال على بعضِها زائِداً مرحلة أَو ناقِصاً مرحلةً فسنجِد أَنَّ هناكَ مرحلةٌ عُمريَّةٌ يشتركُ فيها جيلُ [الضَّعف] معَ جيل [القوَّة] وهيَ المرحلةُ التي تتكامَل فيها الأَجيال ولا تتقاطَع، وفيها تنتقِلُ الخِبرة والتَّجربة من جيلٍ لآخر وهوَ الذي يُسمَّى بـ [تراكُم الخِبرة] والذي نفتقِدهُ بشَكلٍ مُخيفٍ للأَسفِ الشَّديد، ولذلكَ قالَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلَامِ) ورُوِيَ (مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِ).
ويبقى أَمرُ تحديدِ مدَّةِ الأَجيالِ بيدِ الله تعالى وبالأَسبابِ التي تحدَّث عنها القُرآن الكريم مرَّاتٌ وكرَّاتٌ.
يقولُ تعالى (وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وهو المعنى الذي ينطبِقُ على الأُممِ والحَضاراتِ كذلكَ.
اضف تعليق