الأشخاص الذين يُنفقون المال على تجارب الحياة فعلُ أشياء تبدو عليهم سعادة مستديمة أكثر ممن يُنفقون المال على شراء أغراض مادية امتلاك أشياء. إنفاق المال على سيارة أو ساعة أو حذاء باهظ الثمن فعلى النقيض؛ إذ ليس له سوى أثرٍ عابر على مستوى السعادة. من المؤسف أن تقديرات الناس...

لماذا لا يُؤدِّي المزيد من المال إلى مزيدٍ من السعادة، لكن الخبر السعيد هو أن بإمكاننا إنفاق المال بطُرق تعود علينا بالسعادة. من طُرق إنفاق المال التي تزيدنا سعادة إنفاقُ المال على ناس آخرين، منهم الأصدقاء وأفراد الأسرة وحتى الغرباء.

ما أنواع الإنفاق الأخرى المُفيدة لرفاهنا النفسي؟

الأشخاص الذين يُنفقون المال على تجارب الحياة -فعلُ أشياء- تبدو عليهم سعادة مستديمة أكثر ممن يُنفقون المال على شراء أغراض مادية - امتلاك أشياء. بناءً على ذلك فإن إنفاق المال لشراء تذاكر مباراة هامة، أو عرض في مسرح برودواي، أو رحلة ممتعة لهو طريقة ممتازة لمضاعفة السعادة. أما إنفاق المال على سيارة أو ساعة أو حذاء باهظ الثمن فعلى النقيض؛ إذ ليس له سوى أثرٍ عابر على مستوى السعادة. وعلى حدِّ وصف مارتن سليجمان، مدير مركز علم النفس الإيجابي في جامعة بنسلفانيا؛ إذ يقول: «الأغراض المادية كلها مثل مثلجات الفانيلا الفرنسية. رائعة حين تتذوَّقها أول مرة، لكن في المرة السابعة تصير بمذاق الكرتون.» بعبارة أخرى: اختر أن تصنع ذكرياتٍ بدلًا من أن تُجدِّد حمَّامك.

من المؤسف أن تقديرات الناس لأنواع الإنفاق التي ستعود عليهم بسعادةٍ أكثر تكاد تكون دائمًا خاطئة. فالناس ينتظرون أن يجعلهم شراء السلع المادية في سعادةٍ أكبر؛ فإننا على كل حال نحتفظ بالأغراض المادية وبذلك نظلُّ نستخدمها مرارًا ونستمد منها المتعة. أما التجارب، فعلى النقيض، زائلة؛ ومن ثَم فليس بإمكانها سوى أن تُعطيَنا سعادة مؤقَّتة بطبيعة الحال.

طلب الباحثون في إحدى الدراسات من أشخاصٍ أن يتأملوا قدْر السعادة التي قد يشعرون بها من عملية شراء معينة. اعتقد غالبية الأشخاص أن شراء سلعة مادية سيَجلِب لهم سعادةً أكبر من شراء تجربة. لكن حين سأل الباحثون نفس الأشخاص بعد فترة أسبوعين لأربعة أسابيع عن مدى سعادتهم بما اشتروه، كان الناس أشد سعادة بالتجربة التي اشتروها.

لماذا إنفاق المال على التجارب أفضل من إنفاقها على الأغراض المادية؟ لأنه يتسنَّى لنا أن نترقبها، ونحكيها للآخرين، ونعيشها مرة أخرى.

متعة الترقب

هل سبق أن ذهبت في رحلةٍ ممتعة ظللت تفكِّر فيها وتخطِّط لها قبل السفر بأسابيع وشهور؟ تفكِّر أين ستذهب، وماذا سترى، وما إلى ذلك؟ إن كنت فعلت فأهنئك -فإن ذلك النوع من الترقُّب طريقة رائعة لاغتنام سعادةٍ أكبر من حدث واحد! هذا هو نوع الترقُّب الذي يشعر به الأطفال قبل صباح الكريسماس- إنهم يستمتعون بذلك اليوم لأنهم من ناحيةٍ ظلوا طيلةَ أيام وأسابيع يترقَّبون فرحة فتح الهدايا المذهلة. (حتى إن الألمان لديهم تعبير لذلك - Vorfreude ist die schönste Freude، ومعناه: «الترقُّب هو المتعة الأعظم».)

في سلسلة كتب «ويني الدبدوب» للكاتب إيه إيه ميلن، مقولة رائعة تشير إشارة دقيقة لبهجة الترقُّب:

قال الدبدوب: «حسنًا، أكثر ما أحبه»، ثم اضطُر إلى التوقف والتفكير. فرغم أن لعْق العسل كان طيبًا جدًّا، فإن اللحظة السابقة للعقِه كانت أفضل حتى من الوقت الذي يلعقه فيه فعليًّا، لكنه لم يكن يعلم ما اسم تلك اللحظة.

وكانت الكلمة بالطبع هي الترقُّب.

لكنَّك لست في حاجةٍ للاكتفاء بتصديق زعمي فحسب. فالأبحاث العلمية أثبتت أن الأشخاص الذين يترقَّبون الشيء يشعرون بمتعة أكثرَ ممن لا يترقَّبونه. فعلى سبيل المثال، طلب الباحثون في إحدى الدراسات من طلبةٍ جامعيين أن يُشاركوا في دراسةٍ تهدف إلى «تقييم شوكولاتة». طُلِب من نصف الطلاب أن يتناولوا في الحال إما شوكولاتة «كيسيز» أو «هاجز» اللتين تنتجهما شركة «هيرشي»، ثم يحدِّدوا درجةَ استمتاعهم بهذه الشوكولاتة. كذلك طُلِب من الطلاب الآخرين تناول الشوكولاتة ثم تقييمها لكن فقط بعد أن ظلوا مُنتظِرين ٣٠ دقيقة. هل تستطيع توقُّع النتائج؟ أعرب الطلاب الذين اضطروا للانتظار ٣٠ دقيقة عن استحسانهم للشوكولاتة أكثرَ بكثير مقارنةً بمن تسنَّى لهم تناولها في الحال.

إذن فإن من الأسباب التي تجعلنا أكثرَ سعادة من إنفاق المال على التجارب أن ترقُّب التجربة أمتع من ترقُّب سِلعة مادية جديدة. تأمَّل البهجة التي قد تشعر بها من ترقُّب رحلة إلى أوروبا لطالما انتظرتها - الأشياء التي سوف تراها، والطعام الذي ستأكله. والآن تأمَّل البهجة التي قد تؤاتيك من ترقُّب الوصول الوشيك لغرضٍ مادي، مثل سيارة، أو تلفزيون بشاشة كبيرة، أو كمبيوتر جديد. عند أغلب الناس، يثير ترقُّب وصول غرض مادي (على غرار «لا أطيق الانتظار للحصول على حقيبتي الجديدة!») سعادة أقل من ترقُّب الرحلة (من قبيل «لا أطيق الانتظار لرؤية ماتشو بيتشو!»).

من ثَم حين تشتري شيئًا من أجل شخصٍ عزيز، جرِّب أن تستبعد شراء سِلعة مادية أخرى واشترِ بدلًا من ذلك تجربة - يومًا في منتجع، أو تذاكر لحفل، أو كوبون هدية لمطعم مفضَّل.

قوة التجارب المشتركة

من التفسيرات الأخرى لمزايا شراء تجارب أن الناس يُشاركون على الأرجح تجاربهم مع آخرين، في حين أنهم يشترون على الأرجح الأغراض المادية لاستخدامها وحدهم. فقد يكون من الأرجح على كل حال حين تذهب في رحلةٍ أو إلى المسرح أن تَصطحِب صديقًا بدلًا من الذهاب بمُفرَدك، لكنك حين تشتري حقيبةً أو ساعةً أو كمبيوترًا محمولًا جديدًا سيكون غالبًا لاستخدامك الشخصي، وليس لتتشاركه. وقد يكون هذا الميل لتشارُك التجاربِ مع مَن يهمُّنا أمرهم هو التفسير لأثرها الهائل على شعورنا بالسعادة. وكما قال الجوَّال والرحَّالة كريس ماكندليس: «لا تكون السعادة حقيقية إلا عند مشاركتها.»

تناول الباحثون في إحدى الدراسات هذه المسألة مباشرةً بالمقارنة بين الفوائد النسبية التي تتحقَّق على مستوى السعادة عند إنفاق المال على تجارب في مقابل إنفاقها على أشياء، وكذلك إنفاق المال في أغراض فردية في مقابل أغراض اجتماعية. ما الذي كشف عنه هذا البحث بخصوص الطريقة المثلى لإنفاق المال؟

أولًا: أدَّى إنفاق المال في أغراضٍ جماعية لقَدرٍ أكبر من السعادة عن إنفاقه في أغراض فردية، أي إننا نجد سعادة أكبر لشراء شاشة تلفزيونية كبيرة تستطيع الأسرة كلها الاستمتاع بها مقارنةً بحقيبة أو ساعة نهدف لاستخدامها وحدنا. تَنطبِق هذه النتائج على شراء كلٍّ من الأشياء المادية والتجارب؛ الذين يُنفقون المال على تجارب مشتركة اجتماعيًّا -الذهاب إلى حفل مع صديق أو السفر في رحلة مع زوج- أظهروا مستوياتٍ أعلى من الرضا مقارنةً بمن يُنفقون المال على تجارب فردية - حضور حدث رياضي بمُفردهم أو الذهاب في رحلة فردية.

لكن كان الباعث الأفضل على السعادة هو إنفاق المال على تجارب مشتركة اجتماعيًّا - مثل التخطيط لرحلةٍ مع زوج أو اصطحاب الأسرة كلها لمسرحية في برودواي. فللتجارب المشتركة اجتماعيًّا في الواقع، أثرٌ أكبر على السعادة مقارنةً بإنفاق المال على تجارب فردية أو أشياء مادية (فردية أو مشتركة). تشير هذه النتائج إلى الفوائد البالغة التي تتحقَّق على مستوى السعادة من إنفاق المال على التجارب، لا سيما إن كانت تلك التجارب من الممكن مشاركتها مع أشخاصٍ يُهمنا أمرهم.

قوة عيش التجربة مجدَّدًا

تخيَّل أنك ذهبتَ في رحلة رائعة - أسبوع من الاسترخاء في مُنتجَع كاريبي شامل كل الخدمات، أو أسبوع من الإثارة طائفًا بالمتاحف والمواقع الأثرية في روما، أو رحلة تجوال في منتزه يوسيميتي الوطني. والآن تخيَّل أنك أنفقت للتو مبلغًا من المال على مقتنيات - سيارة فارهة جديدة، أو ساعة ثمينة، أو معطف فرو. أي من تلك المشتريات يُرجَّح أن تخبر به الآخرين؟ كما قد تتوقع، الأرجح أننا نحكي عن تجاربنا للآخرين أكثر من أن نحكيَ لهم عن أغراضنا المادية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحديث عن تجاربنا يزيد من استمتاعنا بالحدث الأصلي. فإننا نحب أن نصف رحلاتنا للآخرين من ناحية لأنَّنا بالحكي نعيش التجربة مرة أخرى في أذهاننا. هذه القدرة على العودة بالذاكرة إلى التجارب من الأشياء التي تجعل هذه الأحداث عزيزة.

وإننا نجد متعةً أقل كثيرًا في التحدث عن مقتنيات مادية بتكلفة باهظة مُماثلة مع الناس. فقد نذكر مبدئيًّا أننا اشترينا سيارة جديدة، لكنه من المستبعد نوعًا ما أن نسترسِل في وصف شرائها أو تجربة قيادتها للآخرين.

وكما يقول أميت كومار، مؤلِّف هذه الدراسات: «تعيش التجربة في ذاكرتنا وفي القصص التي نحكيها، أما السِّلَع المادية «فتختفي» بمجرد أن نعتاد عليها بطبيعة الحال. فجهاز الووكمان الذي كنا نعتزُّ به من قبل بطُل استعماله، في حين كما قال همفري بوجارت لإنجريد برجمان في فيلم «كازابلانكا»: «سنظلُّ دائمًا مُحتفِظين بذكريات باريس.»»

معضلة تذاكر مباراة كابز في بطولة العالم

ظل شقيقي مات لزمنٍ طويل يحصل على تذكرة مخفَّضة لحضور المباريات الموسمية لفريق شيكاجو كابز للبيسبول. وفي أكتوبر ٢٠١٦ واجه مُعضِلة غير مألوفة بالمرة: ما الذي سيفعله بأربع تذاكر لمباراة بطولة العالم. كان لديه خيار أن يصطحب زوجته وطفليه للمباراة - فمن الواضح أنها فرصة رائعة بحق. الخيار الآخر كان أن يبيع التذاكر ويكسب ١٠ آلاف دولار.

بعد قراءة هذا الفصل، ربما تستطيع أن تتخيَّل نصيحتي لمات. بالاستناد إلى أبحاث في علم السعادة توجد إجابتان مثاليتان. إحداهما هي بالطبع اصطحاب أسرته للمباراة واغتنام التجارب التي سيتشاركونها (وأن يستمتعوا بتلك الذكريات ويتذكَّروها لفترة طويلة). الخيار الصائب الآخر أن يبيع التذاكر ثم يأخذ العائد ليذهب في رحلة عائلية رائعة - إلى ديزني لاند أو جراند كانيون أو هاواي. يفترض أن يؤدي أيٌّ من هذين الخيارين إلى بهجةٍ تفوق تلك البهجة الناتجة عن شراء سيارة جديدة أو أثاث لحجرة المعيشة. وقد ذهبوا إلى المباراة وكانت المعجزة أن شهدوا الفوز الوحيد لفريق كابز في بطولة العالم على ملعب ريجلي.

كان إنفاق المال في الذهاب للمباراة بالنِّسبة إلى شقيقي وأسرته خيارًا أفضل بكثير من ربح ١٠ آلاف دولار سريعًا. فقد كانوا يترقبون الذهاب للمباراة، وحضروها معًا بروح الأسرة، وما زالوا يعيشون هذه الليلة مجددًا حين يحكون لآخرين قصةَ هذه التجربة الفريدة. ذلك هو نوع السعادة الذي يستطيع المال شراءه بحق!

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

اضف تعليق