q

نزع الأتراك في كل عصورهم التي غزوا فيها البلاد الإسلامية على اتخاذ موقف معادي للشيعة وانتهاج سياسة همجية وقاسية تجاههم فأمتلأ تاريخ دولهم بصفحات سوداء وعمليات إبادة بحق الشيعة في كل زمان ومكان وتشير المصادر إلى أنهم ـ أي الأتراك ـ كانوا يحاولون بشتى الطرق إلى إبادة هذه الطائفة واستئصالها عن بكرة أبيها .

فما إن وطأت أقدام الأتراك الغزاة أرض الهند عام (392هـ/1001م) حتى سعى قائدهم محمود بن سبكتكين الغزنوي إلى حرب الشيعة واضطهادهم ومحاربة معتقداتهم وقتل علمائهم وسلبهم ونهبهم , وقد استمر في غزواته لفتح تلك البلاد حتى عام (416هـ/1025م) وقد سفك في تلك السنوات مما لا يحصى من الدماء من الشيعة وغيرهم حتى وصفه المؤرخون بأنه : (متعطش للدماء مغرم بالتدبير) .

وكان الشيعة قد قدموا إلى تلك البلاد فرارا من بطش الأمويين عن طريق البر والبحر جماعات ووحدانا في القرن الأول والثاني الهجري فنقلوا إليها الإسلام السلمي الخالص فأحبهم الناس واعتنقوا عقائدهم , ولم تقتصر جرائم الغزنويين على شيعة الهند بل طالت تلك الجرائم الشيعة في كل البلاد التي دخلوها من القتل والسجن والتهجير والتضييق والتنكيل وهتك المقدسات ومن جرائمهم الشنيعة هدم قبر الإمام الرضا (عليه السلام) عام (400هـ) كما ذكر ذلك علي الأعظمي في كتابه (تاريخ الدولة الفارسية في العراق ص54) .

ولم يكن العهد السلجوقي بأحسن حالا مع الشيعة بل ازدادت سطوة السلجوقيين على الشيعة بعد أن قوّضوا الدولة البويهية الشيعية التي كانت حاضرة من أعظم الحواضر في العالم الإسلامي وعاشت بغداد والبلاد الإسلامية في عهدها أرقى فتراتها العلمية والفكرية والنهضوية فقتل السلاجقة العلماء الشيعة وأحرقوا كتبهم وهدموا مكتباتهم ومعاهدهم العلمية والفكرية وحاربوهم أشد المحاربة .

ويستمر ذلك العداء الغير مبرر للشيعة من قبل الأتراك ويبلغ أوجه في عهد الدولة العثمانية التي ارتكبت من المجازر والجرائم بحق الشيعة ما يندى له جبين الإنسانية وعاش الشيعة في ذلك العهد أقسى فتراتهم , حيث أعلن سليم الأول الحرب الطائفية على الشيعة في العراق بعد أن استصدر فتوى بكفرهم وجواز قتلهم فقتل منهم أكثر من أربعين ألفا سوى من أودعهم في غياهب السجون, وسار على تلك السياسة من جاء بعده من الولاة العثمانيين وخاصة والي بغداد عمر باشا الذي سلبهم قوتهم وضايقهم في معيشتهم, كما كانت لهم يد في الهجوم البربري الوحشي للوهابيين على مدينة كربلاء عام (1882م) والتي وصفت بأنها (تقشعر منها الأبدان وتشمئز منها النفوس) لهمجيتها وبشاعتها حيث دلت الحقائق على تسهيل دخول الوهابيين إلى المدينة ـ والذي جرى في عهدهم ـ وإعطائهم الضوء الأخضر بقتل من فيها وهدم القبر الشريف وحرقه .

ومن أبشع جرائم العثمانيين التي ارتكبوها ضد الشيعة هي حادثة نجيب باشا في كربلاء عام (1258هـ/1842م) حينما انتفضت هذه المدينة على السياسة العثمانية الجائرة المستبدة فحاصرها نجيب باشا الذي عرف بحبه لسفك الدماء لإخضاعها فقصفها بالمدافع وقطع النخيل وأغار المياه حتى استطاع دخولها بجيشه فاستباحها قتلاً ونهباً وتدميراً حتى اصطبغت أرضها بالدماء .

حاولت المصادر العثمانية والغربية بكل جهدها تشويه هذه الحادثة, ونشر الأكاذيب والشائعات حولها بما يتفق مع مصالحها, فوصفت الذين ثاروا على السياسة العثمانية الجائرة من أهالي كربلاء بالعصاة والأوباش والأراذل والهاربين من وجه العدالة, ووصمهم بكل شائنة, فأطلقوا عليهم كلمة (اليارامز), وهي كلمة تركية تطلق على الأشرار, كما عبر عنها الرحالة (جيمس فريزر) في رحلته ص(174) والذي بدوره زاد في افترائه على هؤلاء الثوار فنعتهم باللصوصية وقاطعي الطرق.

ولكن فريزر هذا وغيره ممن وصفوا تلك الثورة بالعصيان والتمرد قد تجاهلوا سياسة العثمانيين المستبدة تجاه أهالي كربلاء, ولم يعبأوا للمعاملة السيئة التي كان يعامل بها العثمانيون الأهالي ولا للضرائب الباهظة التي كانت تُجبى من الناس لصالح الحكومة العثمانية والتي قدرت بـ (35,000) قران ايراني في كل سنة.

كان ذلك في عهد داود باشا الذي كان آخر المماليك في العراق, والذي حكم من (1232ــــ1247ه/1816ــــ1831م), وبعد انتهاء حكم المماليك عينت الحكومة العثمانية علي رضا باشا ــــ اللازـــــ والياً على بغداد فحكم من (1247ـــــ1258ه/1831ــــ1842م), وقد ضاعف هذا الوالي الضرائب التي كانت تُجبى من أهالي كربلاء إلى ضعفين, كما يذكر المرحوم الأستاذ عباس العزاوي في كتابه (تاريخ العراق بين احتلالين) ص65 فيقول:

(وفي أيام علي باشا ــــاللازـــــ حاصرها ـــ أي كربلاء ــــ وخرج إليه سادات البلد وزعماؤها وتكفلوا له بزيادة الإيراد, فارتحل عنهم وكان ذلك الوالي لا يبالي بعصيانهم ومرامه الدراهم وقد أدوا له سبعين ألف قران ـــ المثل اثنين ــــ عما كانوا يؤدونه الى داود باشا فرضي وتركهم).

ولم يترك علي باشا المدينة دون أن يمتهن أهلها ويطبق عليهم سياسة الإستبداد فيذكر المؤرخ عبد الرزاق الحسني أن علي باشا (أبقى فيها حامية من الجماعة المناوئة لعقائد أهلها من بني سالم والكبيسات).

ولا يخفى ما لهذه السياسة من أثر سلبي في نفوس أهالي كربلاء حيث لعبت العصبية المذهبية دورها في تلك السياسة, فكان أعضاء الحامية يعاملون الأهالي بقسوة مما كوّن غضب شعبي ضد الحكومة أدى إلى اندلاع الثورة تقول (ديلك قايا) في كتابها (كربلاء في الإرشيف العثماني) (دراسة وثائقية 1840ــــ1876م) ص191:

(إن السياسات الخاطئة التي استخدمت في عهد ولاية علي رضا باشا كانت عاملاً مؤثراً في ظهور حادثة كربلاء).

فقد كان هذا الوالي يضم إلى جانبه قطاع الطرق واللصوص الذين كانوا ينهبون قوافل التجار وزوار المراقد المقدسة في نواحي الحلة والنجف وكربلاء, ويوفر لهم الحماية وهو يعلم بانحرافهم ليستعين بهم في حملاته, وتستطرد (ديلك قايا) في بيان أسباب الثورة فتقول في نفس الكتاب ص192:

(لقد جعلت أحداث السرقة وقطع الطريق التي تمت في بغداد بشكل عام في بدايات القرن التاسع عشر أهالي كربلاء في اضطراب دائم, وهو ما جعلهم يرفضون تبعيتهم للدولة العثمانية, وهناك أمر آخر أغضب أهالي كربلاء وهو التأخر في مجال الزراعة, فبينما كانت كربلاء تنتج عشرة آلاف كيلة من الحبوب في عهد داود باشا آخر ولاة المماليك, لم تتمكن من إنتاج نفس النسبة في (13ــــ14) سنة الأخيرة, وبعدما كان أهالي كربلاء يقتربون من إيران بسبب المذهب فقط, أصبحوا يفكرون في التخلي عن الحكم العثماني كلية بسبب سوء الحالة الاقتصادية).

وهناك سبب آخر دعا لعدم استقرار الأمور في كربلاء, وهو الأصول المتبعة التي طبقها علي رضا باشا في جمع الأعشار من الأهالي, فبجانب الضرائب الباهظة التي كانت تجمع من الأهالي كان الملتزمون ــــ أي جامعي الضرائب ــــ يتعاملون بقسوة مع الأهالي أثناء جمع تلك الضرائب إذا لم يحققوا شيئاً زائداً للوالي, وعلى هذا كانت تلك الضرائب سبباً في نفور الأهالي من الإدارة).

ولم تقتصر هذه الممارسات والسياسات الجائرة على كربلاء وحدها, بل شملت باقي مدن العراق مما سبب في تكوين رأي سلبي, وغضب ثوري ضد الحكومة العثمانية, كما لم تسلم هذه الممارسات الظالمة من ردود أفعال ثورية قوية من قبل أهالي كربلاء, فقد جرت حوادث خطيرة سبقت حادثة المناخور في عهدي داود باشا, وعلي رضا باشا قبل تولي نجيب باشا الذي جرت في عهده الحادثة.

وقد لخص المؤرخ الكبير عبد الرزاق الحسني تلك الحوادث عن مخطوطة مجهولة المؤلف في مكتبته سمّاها بـ (نزهة الإخوان في وقعة بلد القتيل العطشان) وأرخ بدايتها في 15/رمضان/1241ه وهذه الحوادث هي:

1ـــ حادثة القنطرة : وكان يحمل لواء الجند فيها رجل يدعى (درويش) وقد قتل في هذه الوقعة ثمانية عشر جندياً مع أربعة أفراس لهم وقتل من جانب أهالي كربلاء أربعة رجال.

2ــــ حادثة المشمش : وسميت بهذا الاسم لأن الجنود العثمانيين دخلوا بساتين المدينة وشرعوا في نهب المشمش منها في وقت خرج الأهالي لجمعه فاقتتل الطرفان في أرض الجويبة وتغلب الكربلائيون على خصومهم أيضاً.

3ــــ حادثة الهيابي: وهي أشد هذه الحوادث واستمر القتال لساعات طويلة ووقعت فيها خسائر جسيمة من الطرفين فقد جُوبهت الحملة العثمانية على المدينة بصمود وبسالة مما أدى إلى جرح قائدها وهذا ما جعل داود باشا يرسل إلى أمير إسطبله سليمان ماخور لقهر الكربلائيين, وكان هذا القائد خبيراً بفنون القتال وقاد معارك كثيرة بنجاح, فقاد قوة كبيرة مزودة بالمدافع والقنابل قدرت بألف وخمسمائة جندي فلما وصلت هذه القوة إلى أطراف كربلاء عسكرت في الحر على مسافة خمسة كيلو مترات, فقطعت الماء عن المدينة, ولما شرعت في مهاجمتها تصدى لها الكربلائيون وقاتلوها قتالاً عنيفاً وسقط الكثير من القتلى من الطرفين ويقال أن جثث القتلى غطت أرض الحر والهيابي والوادي.

4ــــ حادثة الأطواب أو حادثة (باخية): وهي امرأة كانت تشد من عزم الثوار, وتراوح عدد القنابر التي قذفتها مدفعية الجيش العثماني بين الأربعين والستين قنبرة ولكنها لم تؤد الى نتيجة.

5ــــ حادثة الخيمـﮕاه: وقد سميت بذلك لأن قائد الجيش اتخذ من موضع المخيم مقراً لخيله ومعظم جنده, ووزع بقية أفراد قوته على مختلف المواضع, ولما قامت قواته بهجماتها على الأهلين, قاتلها هؤلاء بشجاعة وفقد منهم أربعة قتلى بعد أن كبدوا القوات العثمانية خسائر فادحة.

6ـــ حادثة البردية : وفيها هاجم الأهالي الحامية العثمانية واستولوا على عدد من خيول الجند وبنادقه ومدافعه.

7ــ حادثة الأمان: وسميت بذلك لأن قائد الجند لما ضاق ذرعاً بالكربلائيين وحروبهم لجأ إلى الحيلة, فأعلن الأمان باسم الوالي داود باشا, وعفا الله عما سلف فاطمأن الناس لهذه النتيجة ولكنه فاجأ المدينة في الليل بوابل من القنابر, فعاد الأهالي إلى التجمع والدفاع عن المدينة وتمكنوا من دحر الجيش رغم تفوقه عدة وعدداً.

ومما زاد في اتساع هذه الحركات وكثرتها هو إن الحكومة العثمانية لم تغير من سياستها الجائرة تجاه الأهالي, بل زادت من تعسفها وطغيانها, ففرضت على المدينة تموين الحامية العسكرية الحكومية في المسيب القريبة منها بالأرزاق التي كان الأهالي في كربلاء بأمس الحاجة إليها, وذلك عام (1258ه ـــــ 1842م) وهي السنة التي حل محمد نجيب باشا محل علي رضا باشا على حكم العراق والذي جرت في عهده حادثة المناخور, فرفض الأهالي تموين الحامية لتعلن المدينة رفضها للسياسة العثمانية وخروجها من حكومتها.

كان نجيب باشا من المقربين إلى السلطان, وكان شديد القسوة في إجراءاته, ولما علم أن كل الحملات التي ساقها من سبقه لم تخضع المدينة للسياسية العثمانية الجائرة, قرر في السنة الثانية من حكمه أي في عام (1843م) إخضاع المدينة بالقوة.

وقد لعب تعصبه المذهبي دوراً كبيراً في حنقه عليها, وتصميمه على إبادتها, وهناك سبب آخر جعل الحكومة العثمانية تقول كلمة الفصل في كربلاء حيث وضعت نصب عينيها مسألة تقوية السلطة المركزية للدولة في الولاية لتحقيق مركزية الإدارة, لكي لا تعيش مشكلة أخرى مثل مشكلة مصر التي كانت تدار من قبل الولايات العثمانية, وكان ولاتها على طاعة أمراء المماليك حتى عام (1841م) عندما قضى محمد علي باشا على المماليك, وجعل إدارة مصر شبه مستقلة, وانتقلت إدارتها إلى أسرته.

وكانت هذه المشكلة تشغل أذهان العثمانيين, فعملوا جاهدين على عدم تكرارها, وعهدوا مهمة إخضاع كربلاء إلى نجيب باشا الذي عرف بسياسته القاسية, ودهائه السياسي, وجعلوا نصب عينيه هذه المهمة, وقد أعد نجيب باشا عدته للهجوم على المدينة, وإخضاعها للسلطة العثمانية منذ أن تولى الحكم.

فأرسل تقريراً إلى الحكومة طلب منها إرسال العمال الذين لديهم خبرة في عمل البارود, واستخدام المدافع وغيرها من الآلات الحربية, وعمل قواعد للمدافع اللازمة للتحصينات من أجل حملته على كربلاء.

كان أول تحرك عسكري لإخماد الثورة بقيادة سعد الله باشا في (21/11/1842م), لكن هذا الهجوم لم يسفر عن شئ مما جعل نجيب باشا يقود الهجوم بنفسه حتى يقضي على حالة اليأس التي بدأت تحل بالجنود لصعوبة اقتحام المدينة التي حُصنت جيداً, وكان يقود الثوار في المدينة السيد إبراهيم الزعفراني ــــ ولا يزال هناك طاق في أحد أزقة كربلاء يسمى طاق الزعفراني ــــ.

وكان يدور في ذلك الوقت نزاع فكري مذهبي بين الأصولية والإخبارية, واتسع هذا النزاع من أصول الفقه والإحكام إلى المعتقدات, وتسرب إلى التقليد والاجتهاد, فاستغل نجيب باشا هذا النزاع فكتب إلى السيد كاظم الرشتي الذي يعد من أبرز طلاب الشيخ أحمد الإحسائي زعيم الإخبارية, والذي انفرد بعده بطريقته الكشفية أن يتدخل ليوقف الثورة ويجنب المدينة كارثة مؤكدة.

ولما كان الرشتي يعلم أن لا قبل للأهالي على مقاومة هذه القوة الكبيرة المنظمة التي جاء بها نجيب باشا وهي تفوقهم عدة وعدداً, فقد طلب من الثوار تسليم أسلحتهم وإنهاء الثورة, فعزموا على فتح أبواب المدينة في اليوم الثاني, لكن بعض خصوم الرشتي حرضوا الثوار على عدم الإذعان.

وفي اليوم الثاني هاجمت القوات العثمانية المدينة وهدموا الأسوار يقول (محمد زرندي في كتابه مطالع الأنوار (ص27ـــ28) وأصله بالفارسية ترجمه شوقي رباني إلى الإنكليزية والقاضي عبد الجليل سعد إلى العربية ط القاهرة 1940):

(واستبيحت المدينة قتلاً ونهباً وهرب الناس إلى قبري الأمام الحسين وأخيه العباس, وهرب آخرون إلى منزل الرشتي الذي جعله نجيب باشا مأمناً لمن لاذ به والتجأ اليه, وازداد عدد اللاجئين إليه فاضطر الرشتي إلى إضافة المنازل المجاورة لمنزله ليضم عدداً أكبر من اللاجئين, وازدادت الجموع التي هرعت إلى منزله حتى انه بعد هدوء الحالة وجدوا عشرين شخصاً توفوا من شدة الزحام).

وينقل الأستاذ جعفر الخياط في كتابه (صور من تاريخ العراق ص307) بعض تفاصيل هذه الحادثة فيقول:

(كان الوالي نجيب باشا قد توجه الى المسيب لقمع بعض العشائر الثائرة في وجه الدولة, ولما استتم له الأمر اتخذ من هذه القرية مقراً لقيادته ومركزاً لما كان ينوي القيام به ضد الكربلائيين .. وهيأ قوة كبيرة لتسخير هذه المدينة واستئصال شأفة الثوار فيها, وكان قوام هذه القوات ثلاث كتائب من المشاة, وكتيبة واحدة من جنود السباه الحكومية يعززها عشرون مدفعاً, وفرقة من المقاتلين الأكراد الذين استدعاهم لهذا الغرض بقيادة أحمد باشا بابان, إضافة إلى زمر من القبائل العاملة في القوات الحكومية, وقد عقد لواء الحملة للفريق مصطفى باشا ووجهها إلى كربلاء).

ضربت هذه القوة حصاراً واسعاً على المدينة المزدحمة بالزوار, وأحاطت بسورها المحكم, وضيقت على السكان حتى اضطروا لشرب مياه الآبار المجة, واللجوء إلى التقتير والتقنن في توزيع الأرزاق.

واستمر الحصار ثلاثاً وعشرين يوماً ولما شعر الناس بوطأة الحصار اجتمع الرؤساء والزعماء وتداولوا الوضع رغم الانقسامات العقائدية فيما بينهم, واستقر الرأي على عرض طاعة المدينة واستسلام الثوار, لكن قائد الحملة رفض قبول الاستسلام إلّا بشروط يعرف أنها مستحيلة على أهل كربلاء, وهم يفضلون الموت على النزول على هذه الشروط.

فكان من هذه الشروط تسليم عوائل بعض الزعماء إلى قيادة الجيش لتكون بمثابة رهائن لتنفيذ شروط المهادنة ولكن أهالي كربلاء رفضوا هذه الشروط بكل إباء على الرغم من أنهم يعلمون باستحالة مقاومة قوات الحكومة التي تفوقهم بكثير عدة وعدداً, فعقدوا اجتماعاً في الروضة الحسينية المقدسة ضم رؤساء المدينة وكبارها ومجتهديها, وأصحاب الكلمة النافذة فقرروا إجلاء العوائل عن المدينة من أبوابها الجانبية الى مضارب العشائر المجاورة وهي (آل فتلة, وبني حسن, واليسار, وآل زغبة وغيرها), لتكون في حمايتها.

كما تقرر الاستنجاد برؤساء هذه العشائر الذين لبوا النداء فأرسلوا ما تمكنوا من إرساله من المقاتلين والفرسان الذين قدر عددهم بألفي مقاتل, ولكن هذه الإمدادات لم تكن بما يكفي للوقوف أمام الجيوش العثمانية الكبيرة والمعززة بأحدث أنواع البنادق والمجهزة بالمدافع.

ولكن رغم ذلك فقد قاتل أهالي كربلاء ببسالة نادرة فكانوا يرمون الجنود من فوق السور, فأوعز قائد الحملة إلى قائد المدفعية بهدم السور فاستطاع إحداث ثغرة واسعة من ناحية باب النجف, وتسلل فريق من الجند عبر هذه الثغرة, وتسلق فريق آخر السور, وكان الفريقان يطلقان النار على كل من يلقيانه.

واتقدت جذوة المقاومة في نفوس الكربلائيين واتحدوا في قتال العثمانيين على الرغم من الخلافات المزمنة بينهم, وكانت في كربلاء حامية إيرانية من الجنود (البرطاسية) محدودة العدد كان الشاه محمد القاجاري قد اتفق مع حكومة بغداد على إبقائها في هذه المدينة المقدسة لحراسة القنصلية الإيرانية ورعاية الجالية الإيرانية الكبيرة القاطنة فيها.

فلما رأت هذه الحامية القتل الذي أحاق بالأهالي, وكثرة الجنود العثمانيين انضمت إلى القتال مع الكربلائيين, والتحمت إلى جانب القوات الشعبية في معركة ضارية, واستبسلت المدينة بالقتال, لكن القوات العثمانية سيطرت على الوضع فتراجع الثوار, واحتمى عدد كبير منهم بصحني الإمام الحسين وأخيه العباس, فشرعت القوات الحكومية بالنهب والسلب والتخريب واستباح الجند كربلاء مدة تتراوح بين ثلاث وخمس ساعات أهدرت فيها الكثير من دماء الأبرياء من الشيوخ والأطفال ولم ينج من القتل سوى من احتمى بصحن الإمام الحسين ودار السيد كاظم الرشتي والدور التي ضمها لتكون مأمناً.

وقد قتل كل من كان في صحن أبي الفضل العباس, فعندما حاصر قائد الحملة باب الصحن الحسيني الشريف خرج إليه الحاج مهدي كمونة وطلب منه الأمان فأمر بالكف عن جميع من بالصحن الشريف.

وفي الوقت نفسه كان بقية الجنود قد اتجهوا نحو صحن العباس الذي ازدحم بالناس وأغلقوا عليهم أبواب الصحن فتبعهم قائد الحملة, وأمر بقلع أحد الأبواب ودخل منه الجنود وشرعوا بقتل كل من فيه ولم يسلم من القتل حتى الأطفال والنساء, ولما حل المساء كانت المدينة في عداد الأموات, وتولى الحاج مهدي كمونة وصحبه حماية الصحن الحسيني, ورفع جثث القتلى من صحن العباس.

ودخل نجيب باشا المدينة من باب بغداد وفي اليوم الثاني عاد الوالي مرة ثانية وأمر مناديه بالأمان, وسأل عن السيد وهاب الكليدار فأخبروه أنه هرب فعزله ونصب مكانه الحاج مهدي كمونة, ثم استخرج ورقة من جيبه فيها أسماء المطلوبين للحكومة العثمانية وطلب البحث عنهم وتسليمهم.

فقبض على السيد إبراهيم الزعفراني فكبّل بالأصفاد, وأرسل إلى بغداد حيث أودع السجن, فلم يلبث سوى أيام حتى مات بالدرن الرئوي, كما قبض على السيد صالح الداماد وعدد من الثوار وطُورد بعض الثوار أمثال علي كشمش وطعمة العيد وبعض السادة من آل نصر الله والنقيب.

وأمر نجيب باشا بإبقاء ستمائة جندي كحامية للمدينة ثم غادرها إلى النجف وقد أرخت هذه الواقعة بكلمتي (غدير دم) ويقابل ذلك بحساب الجمل السنة (1258ه/1843م) وصادف ذلك اليوم اليوم الثاني لعيد الأضحى.

وقد اختلفت الروايات في عدد القتلى من أهالي كربلاء, وما فقد من أموال ومجوهرات أثناء استباحة المدينة, فقال السيد حسين البراقي في الدر المنثور:

انهم (24 ألف قتيل ما بين رجل وامرأة وطفل ومنهم سحقا بالأرجل).

وقال الشيخ حسن بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء في (العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية):

(كان عدد القتلى زيادة على عشرين ألف رجل وإمرأة وصبي وكان يوضع في القبر الأربعة والخمسة إلى العشرة ويهال عليهم التراب بلا غسل ولا كفن).

ونقل السيد عبد الحسين الكليدار في كتابه (بغية النبلاء في تاريخ كربلاء) ص45 عن زنبيل فرهاد ميرزا معتمد الدولة قوله:

(ومن المحقق أن تسعة آلاف شخص قد أبيدوا عن آخرهم في تلك المدينة المقدسة فضلا عما نهب من الأموال والأحجار النفيسة وأثاث البيوت والكتب).

وقال الأستاذ جعفر الخليلي في (موسوعة العتبات المقدسة ـــ قسم كربلاء ص279) :(إن عدد القتلى بلغ أربعة آلاف نسمة).

وجاء في تقرير (فارنت) المندوب البريطاني عن حكومته إلى كربلاء المؤرخ في (15/5/1843):

(أن عدد القتلى لم يزد على الخمسة آلاف نسمة).

وقد أثارت هذه الحادثة الرأي العام الدولي فطلبت إيران وروسيا وانجلترا عقد مباحثات مع الدولة العثمانية للوقوف بشكل صحيح عن أسباب الحادثة, وكان نجيب باشا هو أول من أعطى معلومات عن هذه الحادثة لروسيا وانجلترا لكن هاتين الدولتين تأكدتا من أن المعلومات التي أدلى بها نجيب باشا غير صحيحة بناء على المعلومات التي وصلت اليهم, فكلفت الحكومة العثمانية نامق باشا لبحث الحادثة كما استدعت سعد الله باشا لأخذ أقواله كونه يعد المسؤول الثاني عن الحادثة بعد نجيب باشا.

وجرت مباحثات طويلة بين العثمانيين والروس والإنكليز والإيرانيين عن هذه الحادثة وما سببتها من أزمة سياسية بين الدولتين العثمانية والإيرانية استمرت أربع سنوات انتهت بمعاهدة أرضروم.

اضف تعليق


التعليقات

أبو حيدر
احسنت2016-05-19