q
من حسن حظ العراقيين ان التيار العلماني يتصاعد في بلادهم، فهو مثل الحزب الشيوعي، لن يتولى السلطة، لكنه سيصهر السنة والشيعة في بوتقة واحدة

لم يكن الاسلام السياسي موجودا في العراق بشكل حقيقي في الفترة التي سبقت خمسينيات القرن الماضي، لكنه تبلور وظهر على الساحة لأسباب متعددة، لعل من أبرزها سعي المسلمين في العراق للوقوف بوجه المد الشيوعي الذي استفحل في البلاد فور وصول العسكر الى السلطة عام 1958، وتبوأ (عبد الكريم قاسم) رئاسة الوزراء، فالرجل وان لم يثبت انتماءه للتيار الشيوعي، لكن الذي ثبت هو علاقته الوطيدة معه، تلك العلاقة التي انعكست على كل مجالات الحياة في البلاد.

ما يهمنا في الامر ليس علاقة قاسم بالشيوعيين، بل ان ما يهمنا هو ان الاسلام السياسي الذي ظهر في تلك الفترة لم يكن يعير انتباه الى اي شيء، سوى تحجيم الشيوعية ومنع تمددها وانتشارها في العراق، ولم يسجل التاريخ ان حدثت خلافات مذهبية سنية–شيعية، لكن على العكس كان السنة والشيعة متحدون في خندق واحد لمواجهة خصمهم العنيد في تلك المرحلة.

بعد عام 2003، انعكست الآية، أصبح الشيوعيون خارج السلطة، وأصبح الاسلام السياسي يقود البلاد منذ عام 2003، لكن الاختلاف بين الاسلام السياسي في خمسينيات القرن الماضي وهذه المرحلة، ان الاسلام السياسي اليوم قد ينشطر الى نصفين: الاسلام السياسي الذي يمثل السنة، والاسلام السياسي الذي يمثل الشيعة، وهذه الفرقة قد اضرت كثيرا بالبلاد وانعكست سلبا على الهوية الوطنية العراقية، كون السلطة السياسية هي السلطة الام في البلاد، وعندما يكون فيها تصدع فسرعان ما تنتقل العدوى الى المجتمع.

ان عجز الحزب الشيوعي عن ان يعود الى سابق قوته بسبب المتغيرات الداخلية والخارجية، لا يعني بان الاجواء ستكون صحوة في المستقبل بالنسبة للإسلام السياسي، خاصة وان العراق اليوم يشهد ولادة تيار ثالث غير التيار السني والشيعي، هو التيار العلماني الذي يلف حوله ثلة من الشباب الناقمين على الاوضاع التي تعيشها البلاد، ويسعون ان يطرحوا أنفسهم بقوة كبديل عن التيار الاسلامي.

ان هذا التيار الثالث اذا ما قيض له ان يظهر بشكل كامل، فإن انعكاساته على مستقبل العراق ستكون ايجابية، والاسباب التي تؤيد هذا الرأي كثيرة، ولعل من بينها الآتي:

اولا – يوحد القوى السياسية السنية والشيعية: ربما ان القوى السياسية الشيعية والسنية، ستجد ان المصلحة العليا لكلاهما تقتضي بان ينصهران في جبهة واحدة، بغية مواجهة الخصم السياسي الجديد. وعندها سيصبح العراق أكثر استقرارا.

ثانيا – النقد المتبادل: من المتعارف عليه في الدول المتقدمة، وبالأخص بريطانيا التي هي مهد النظام البرلماني، ان النقد يعد من اهم وسائل الارتقاء بالأداء وتطويره، الى الدرجة التي تشكل فيها حكومتان مع كل دورة انتخابية، الاولى تمارس الحكم والاخرى تمارس النقد، وتسمى الاخيرة بحكومة الظل، التي تنتظر الوقت المناسب كي تستلم السلطة، وتمارس الثانية دور المعارضة.

ان وجود تيار علماني في البلاد سيكون مناسبا لنقد الاداء السياسي للتيار الاسلامي، والعكس صحيح ايضا، وقد تصل الامور الى حد التعاقب على ممارسة السلطة، بحيث يختار الشعب اي من التيارين أكثر كفاءة من غيره.

ثالثا – يقلل من التدخل الدولي: عندما يتوحد التيار الاسلامي، السني والشيعي، للتصدي للتيار العلماني، فلن يعود بإمكان البعض من الدول المجاورة ان تتدخل تحت ذريعة حماية هذا المذهب او ذاك، كما ان التيار العلماني هو الآخر ليس له أنصار كثيرون في المنطقة، بمعنى انه لن يحظى بدعم كبير من اي دولة، غير دعم الشعب العراقي، وبالتالي ستتوفر للبلاد فرصة جيدة للتخلص من التدخلات الاقليمية.

رابعا – يساعد على ولادة نخب سياسية جديدة: ان ظهور التيار العلماني، سيساهم في خلق نخب سياسية جديدة، قد تكون أكثر كفاءة من النخب السياسية الحاكمة، هذه النخب ستخرج من رحم ظروف العراق الحالية، وبالتالي ستكون برامجها أكثر تماسا بحياة المواطن ومعاناته.

فضلا عن ذلك فإن احتدام التنافس الاسلامي مع التيار العلماني، سيضطر التيار الاسلامي، الى ان يجدد هو الاخر نخبه السياسية كي تكون بحجم الخصم الجديد.

خامسا – كسب ثقة الدول المتقدمة: تشكك الكثير من الدول المتقدمة، بالعملية السياسية في العراق، وتعتبرها بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية، كونها لم تشهد صعود تيار علماني الى السلطة التي بقيت منذ عام 2003، تدار من قبل قوى سياسية معينة هي القوى الاسلامية، اما في حالة تفعيل دور التيار العلماني، وتمكنه من كسب مكانة مهمة في الحكومة القادمة، فإنه سيثبت للعالم بان العراق فيه انتخابات حقيقية تسمح لكل من يختاره الشعب في الانتخابات ان يقود البلاد او يشارك مشاركة فعلية في ذلك.

الا ان هذه الايجابيات، لن تتحقق مالم يلتزم التيار العلماني بجملة من الشروط، التي تجعله تيارا مقبولا وسط طبيعة المجتمع العراقي الاسلامية، ومن بين تلك الشروط الاتي:

اولا – احترام هوية العراق الاسلامية: اي ان لا يذهب التيار العلماني بعيدا في طروحاته، وان لا يمس الدين الاسلامي، او رموزه وشعائره، بأي خدش سواء بالكتابات او الكلام او اي وسيلة اخرى.

ثانيا - ان يُعرف نفسه جيدا: ان يكون له واجهة حقيقية على ارض الواقع، لها شخوصها ومكاتبها، التي ترتبط مع بقية القوى السياسية العراقية وبالأخص الاسلامية بروابط وطنية واضحة. وان يطرح برامجه بشكل علني وصريح، ويقبل النقد الموجه اليه، ويترك اي نقطة تمس عادات وقيم المجتمع العراقي بسوء.

اما فيما يخص الحكومة العراقية، فهي الاخرى مطالبة بعدة خطوات، ومنها الآتي:

اولا – كسب التيار العلماني لصالح العراق: قبل ان يذهب هذا التيار باتجاهات قد لا تصب في مصلحة العراق، لابد للحكومة العراقية من ان تحتضنه، وتحتويه، وتربطه بقوة مع بقية القوى السياسية في البلاد، وان تفوت الفرصة على اي جهة تحاول تسييره باتجاه معاكس لمصلحة البلاد.

ثانيا – الصداقة مع التيار الاسلامي: ان الاختلاف في التوجهات والاهداف السياسية، لا يعني القطيعة بين التيار العلماني والتيار الاسلامي، بل ينبغي ان تحاول الحكومة ان تقرب بين الاثنين، بحيث ان يكمل بعضهما الاخر ويستفاد كل منهما من وجهة نظر الآخر.

ثالثا – الثوابت الدستورية والوطنية: الديمقراطية لا تعني الانتقاص من العقيدة، بل ان للديمقراطية ثوابت حددها الدستور، لا تسمح للتيار العلماني بأن يتعرض للتيار الاسلامي، الا من حيث اداء الاشخاص، اما غير ذلك فإنه مخالف للدستور ومن الممكن ان تتعامل معه الدولة بقوة القانون كونه يؤدي الى الفتنة.

اذن، ان ظهور تيار علماني جديد في البلاد، من الممكن ان يصب في مصلحة العراق، شريطة ان يراعي الطبيعة الاسلامية للمجتمع العراقي، وان يكون واضحا في طروحاته وسلوكياته وشخوصه، وعاملا تحت خيمة الدولة وقوانينها ودستورها النافذ.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017

www.fcdrs.com

اضف تعليق


التعليقات

محمد مهدي سعيد
العراق
العلمانية تبقى في أدمغة اصحابها2017-06-12