في عالمٍ تتداخل فيه أصوات المعاناة مع إشراقات الأمل، تطلّ الشاعرة والأكاديمية العراقية إيمان عبد الستار بدير، مؤلفة ديوان "لا فجرَ في عيون الراحلين"، كصوتٍ شعريٍّ متميزٍ يجسد روح الوطن وجراحه، وينحت من كلمات اللغة العربية الفصيحة فضاءً للهوية والمقاومة...

في عالمٍ تتداخل فيه أصوات المعاناة مع إشراقات الأمل، تطلّ الشاعرة والأكاديمية العراقية إيمان عبد الستار بدير، مؤلفة ديوان "لا فجرَ في عيون الراحلين"، كصوتٍ شعريٍّ متميزٍ يجسد روح الوطن وجراحه، وينحت من كلمات اللغة العربية الفصيحة فضاءً للهوية والمقاومة. بوصفها موظفة في كلية الهندسة بجامعة بابل، تزاوج بدير بين العمق الأكاديمي وشفافية الإبداع، فتنقل تجربة المرأة العراقية بكلّ تعقيداتها، من رمزية الأسطورة إلى واقعية الألم، ومن سرديات الفقد إلى محاولات التشبث بالحياة. 

في ديوانها، تتحول القصيدة إلى مرآة تعكس قضايا الوطن الملتهبة، والوجع الإنساني الذي خلفته الحروب، وصورة المرأة التي تتأرجح بين القوة والهشاشة. عبر الشعر العمودي، تلتزم بدير بجذور التراث، لكنها تطعّمه برؤية معاصرة، فتجعل من الوزن والقافية جسرًا يربط الماضي بالحاضر، ووسيلةً لتجديد الخطاب حول الهوية والأيديولوجيا. 

هذا الحوار يغوص في عوالم نصوصها، مستكشفًا كيف تحوّل الأسى إلى طاقة إبداعية، والرمز الديني إلى مادةٍ للتأمل الإنساني، وكيف تتحاور قصائدها مع التاريخ دون أن تفقد حرارتها الشعرية. نتوقف عند ثنائيات الظلام والفجر في عنوان الديوان، ونناقش إيمانها بالقصيدة كـ"فعلٍ ثوري" قادر على هزّ الوعي وبناء المستقبل. 

 الوطن حاضر بقوة في نصوصكِ، فكيف تُعيدين تشكيل الهوية الوطنية من خلال الشعر العمودي؟

أرى في الشعر العمودي فضاءً رحبًا لإعادة تشكيل الهوية الوطنية ومساهمته في ذلك واضحة من خلال اعتزاز الشعوب بإرثهم الحضاري ويكون ذلك، عبر استدعاء رموز الوطن الثقافية والابداعية، وإعادة صياغة تجاربهم في نماذج شعرية أصيلة تخلق تواصلا وتلامس الوجدان. فالشعر العمودي قادر على إحياء روح الانتماء للوطن، وللامة وتجديد مفاهيم الهوية الوطنية بما يتناسب مع تحديات العصر.

 في قصائد مثل "حواء" و"أنثى أنا"، كيف تعكسين صورة المرأة العراقية بين الرمزية والمعاناة الواقعية؟

 في قصائدي "حواء" و"أنثى أنا"، أجسد صورة المرأة العراقية برمزيتها كامرأة صلبة قادرة على التجاوز الإيجابي في مواجهة التحديات، وهي تحمل في قلبها جراحًا عميقة. أستخدم الرمزية بكل صورها الإيجابية والسلبية للتعبير عن قوة المرأة وإرادتها التي لا تنكسر، وأستلهم من الواقع المرير الذي تعيشه داخل الأسرة والمجتمع صورًا لمعاناة المرأة العراقية، في واقعها الاشكالي بتضحياتها الجسام. ومعاناتها القاسية كلُ لحظة.

 الأسى والفقد يتكرران كأنهما شخصيتان في مجموعتكِ، كيف تعاملتِ مع الوجع بوصفه مادة شعرية دون أن يُثقل النص؟

 الأسى والفقد جدلية الواقع العراقي عبر الحروب العبثية التي خاضها شعبنًا وهو لا ناقة له فيها وجمل كل ذلك حاضر بقوة في مجموعتي الشعرية، كجزء لا يتجزأ وأساسي يعبر عن واقع عراقي قاس وصعب واشكالي. لكنني اتعامل مع هذا الواقع شعريا وجماليا بحذر شديد، بمحاولة عدم إثقال النص بمشاعر اليأس والإحباط. سعيت إلى تحويل الوجع إلى طاقة إبداعية، وإلى استلهام الأمل من رحم المعاناة.

 قصائدكِ تُظهر انخراطًا مباشرًا مع القضايا الوطنية والدينية، كيف توازنين بين التعبير الفني والموقف الأيديولوجي؟

أؤمن بأن الشاعر ليس مجرد فنان لاهٍ بما هو بعيد عن معاناة شعبه، بل هو أيضًا صاحب رسالة وموقف. لذلك، احاول ان لا اضع تعارضًا بين التعبير الفني والموقف الأيديولوجي. أسعى إلى تقديم قصائد تجمع بين جمالية الشعر واختراقاته الجمالية غير المألوفة وعمق الفكرة، الجديدة المقتنصة من الواقع وهي تلامس قضايا الوطن والإنسان.

 اختياركِ للشعر العمودي تحديدًا، هل هو تمسكِ بجذور الهوية الشعرية أم وسيلة لتطويع التراث لخدمة القضايا الحديثة؟

اختياري للشعر العمودي نابع من إيماني العميق بجذور الهوية الشعرية العربية، فلا أحد يستطيع إنكار دور الشعر العمودي في تشكيل ذائقة المتلقي والمتذوق. والمتابع ومن رغبتي في تطويع هذا الشكل الشعري الأصيل فأنني أسعى بجهود ذاتية لخدمة القضايا الحديثة. فالشعر العمودي بما يملكه من فخامة التعبير عن المشاعر والأفكار وأساليبه اللغوية في إيجاز والتأثير بتلوين الأساليب البلاغية واللغوية في السامعين، يظل وسيلة فاعلة لإدامة التواصل مع الجمهور، والتأثير فيه.

 في قصائد مثل "جيش العراق" و"الحشد الشعبي"، كيف تصفين العلاقة بين الشاعر والحدث التاريخي؟

في قصائد "جيش العراق" و"الحشد الشعبي"، تلتقي شخصية الشاعر الرائي بالهم الجمعي وتطلعاته إلى مستقبل مميز وجديد ومن هنا تجدني أصف العلاقة بين الشاعر والحدث التاريخي كعلاقة تفاعل وتأثير متبادل. فالشاعر ليس مجرد شاهد على الحدث، بل هو يعيشه كجزء من ذاته واحلامه وخيباته واحتداماته، وهو يتفاعل معه بمشاعره وأفكاره، ويعبر عنه بلغته الشعرية. وبذا يلتقي الشاعر روحيا وبدنيا مع الحدث السياسي فيكونا جسدا واحدا معبرا عن خلاص إيجابي لهما منطلقا من أهميته في إغناء الحاضر وبناء المستقبل بروح إيجابية خلاقة.

 الرموز الدينية حاضرة، كيف تخلقين مسافة بين القداسة والإنسان في تناولكِ لتلك الشخصيات؟

  الرموز الدينية حاضرة في شعري لأنني عشتها وجدانيا طفلةً وصبيةً وشابةً وامرأةً ناضجةً كان واقعها الحقيقي متواصلا بتلك الرموز وملاحم صبرها وتضحياته في سبيل المبادئ التي آمنوا بها لكنني أحرص على خلق مسافة بين القداسة اللدنية والإنسان الواقعي الذي يرى نفسه امتدادا للرموز الدينية المضيئة في سما دوات الروح في تناولي لتلك الشخصيات. أستخدمها كرموز إيجابية فاعلة في صناعة الحاضر والمستقبل وهي تحمل القيم الإنسانية النبيلة، سلوكا وتضحية وفداء، دون المساس بمكانة تلك الرموز. الروحية الدينية الخلاقة المولدة لحاضر مشرق. ومستقبل وضاء.

 العنوان "لا فجر في عيون الراحلين" يوحي بالخذلان أو الحداد، إلى أي مدى يعكس هذا العنوان جوهر المجموعة؟

 عنوان المجموعة "لا فجر في عيون الراحلين" يعكس جوهر نصوص المجموعة، لأن نصوص المجموعة كاملةً تعكس مشاعر الحزن والأسى على فقدان الأحبة، وعلى ضياع الأمل في مستقبل أفضل.

لكنها في الوقت نفسه تحمل روح الدعوة إلى التمسك بالأمل، وإلى العمل على بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة.. فإذا كان الاموات من أبناء شعبي وهم بعد موتهم ينتظرون ضوء الايمان في رمزياتهم نجد أن شطرا من مكونات شعبنا تجدد الموت لنا بأساليب إجرامية لا تتناسب ومكانة الإنسان الذي يوصف بأنه بناء الله الجميل فمن هدمه هدم كل شيء من هنا كان العنوان على ما فيها من معان ظاهرية إلا أنه يستبطن معاني مميزة توحي بأهمية تضحيات شهدائنا في بناء مستقبلنا.

كيف تتقاطع تجربتكِ الشخصية كامرأة عراقية مع النصوص؟ وهل ثمة سيرة ذاتية موزعة داخل القصائد؟

تجربتي الشخصية كامرأة عراقية واضحة في نصوص المجموعة وهي تتداخل بشكل وثيق مع نصوصي الشعرية. فالقصائد تحمل في طياتها اقباسا كثيرة من سيرتي الذاتية، وتعكس مشاعري وأفكاري تجاه الأحداث التي مررت بها، وتجاه قضايا وطني ومجتمعي.

 إذا كانت القصيدة ساحة مقاومة، فبماذا يقاوم شعركِ؟ وهل تؤمنين أن القصيدة يمكن أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا؟

أؤمن بأن القصيدة ليس كلمات مزجاة بل فعلا ابداعيا ثوريا قادرا على الكشف والبرهان وابتكار الاسئلة الموحية للبناء ويمكن أن يكون سلاحًا فعالًا في مقاومة، ومواجهة الظلم والاستبداد وبناء الحياة الجديدة المنشودة. للأجيال القادمة.

في نهاية هذا الحوار، تظلُّ كلمات الشاعرة إيمان عبد الستار بدير تُرافق القارئ كصدى لعراقٍ يحمل في جوفه نارَ الألم، وفي سمائه نجمةَ الأمل. لم تكن إجاباتها مجرد تأملاتٍ في الشعر وفنونه، بل شهاداتٌ حيّةٌ عن وطنٍ ينزفُ، وامرأةٍ تقاومُ بجسدِ الكلمة، وإنسانٍ يرفضُ أن يُدفنَ تحت ركام اليأس.  

ديوانها "لا فجرَ في عيون الراحلين" ليس مجرد عنوان، بل هو مُناخٌ شعريٌّ تلتقي فيه المأساةُ بالجمال، والوجعُ بالخلاص. فالقصيدةُ هنا، كما أرادتها بدير، ليست مرثيةً للذين رحلوا، بل شمعةٌ تُضيءُ لمن بقيَ، وصرخةٌ تُذكّرُ بأنَّ الفجرَ، وإن غابَ عن عيون الراحلين، قد يولدُ من بين أصابعِ من يكتبون الحياةَ من جديد.  

بهذا الحوار، نكتشفُ أنَّ الشعرَ العموديَّ ليس سجنَ أوزانٍ وقوافي، بل فضاءٌ تتجددُ فيه الهُويةُ، وتُختبرُ فيه حدودُ اللغةِ في حملِ همومِ الواقعِ وأسئلةِ المستقبل. تُعلّمنا بدير أنَّ الشاعرَ الحقيقيَّ ليس من يهربُ من العالم، بل من يغوصُ في أعماقه، ليُعيدَ تشكيله بجمالٍ يُقاومُ القبح، وإيمانٍ يرفضُ الاستسلام.  

شكرًا لكِ، أستاذة إيمان، على كلماتكِ التي تُشبهُ العراقَ: عميقةً كتاريخهِ، صادقةً كترابهِ، وصامدةً كالنخيلِ في وجه العواصف.  

اضف تعليق