لقد وضعت الحرب على الارهاب العبادي على قمة المجد، لكن حروبه الاخرى قد تنزله منها
عندما كانت بلاد الرافدين في ايامها القديمة تمر بحالة من اليأس والقنوط، كان الاله تموز وحده القادر على احياء الامل، وبث الحياة والزرع والخصب والخير، لكنه سرعان ما يرحل ويبقى العراقيون يراقبون السماء علها تبعث لهم تموز اخر.
لا تختلف ولاية السيد حيدر العبادي الاولى عن ولاية سلفه السيد نوري المالكي الاولى. فكلاهما جاء بعد سنوات عجاف من اليأس والهم والقنوط، المالكي تبوء رئاسة الوزراء عام 2006، وكان العراق على شفا الانهيار التام، القتل على الهوية، بل على الاسماء، والمناطق معزولة. ولكل دولة وكيان في العالم يد خفية ملطخة بدم العراقيين تمارس عملها المخابراتي غير الشريف. فضلا عن ضياع ثروات البلاد، وتحطم البنى التحتية، وفوق كل ذلك ليس للبلاد سيادة على اراضيها بفعل وجود الاحتلال الامريكي.
المالكي كان امام اختبار صعب، التحديات كبيرة والخيارات قليلة جدا، لكنه تمكن في النهاية من تحجيم دورها، حارب الارهاب، والجماعات الخارجة عن القانون، ونظم العلاقة مع الولايات المتحدة عبر معاهدة ادت الى الانسحاب من العراق.
وبات المشهد العراقي عام 2010 وكأن البلاد قد تنفست الصعداء، وانطلقت الاصوات المؤيدة للمالكي ونهجه، وصار اعلان الثورة التنموية قاب قوسين او اقل. لكن هذا المشهد لم يكتب له الاستمرار، فبسبب متغيرات اقليمية ودولية، صار العراق جزء من برنامج دولي لقلب الاوضاع فيه واعادتها الى نقطة الصفر التي انطلق منها المالكي. ربما اننا نختلف في مدى مسئوليته عن سقوط محافظات كاملة بيد الارهاب، لكننا لن نختلف بأنه في النهاية قد نزل من القمة.
العبادي هو الآخر، جاء كمخلص للعراق من الاحتلال الداعشي، جاء كي يعيد المياه الى مجاريها بين ابناء الوطن، وليعيد للعراق علاقاته الاقليمية والدولية. ولا أحد يستطيع ان ينكر بأن ولايته الاولى قد حققت اهدافها، وان حال العبادي اليوم مثل حال المالكي في عام 2010، خرج منتصرا من المعركة، لكنه لم يثبتها بعد، وان تمكن من الفوز بولاية ثانية، فستكون امامه مهمة صعبة لا تختلف عن ولاية المالكي الثانية. فهل سينجح في المحافظة على موقعه في اعلى القمة، ام ان النزول منها قد كتب على زعماء العراق بعد عام 2003؟
ان اجابتنا عن هذا السؤال ليس بالضروري ان تتحقق لكن من الضروري الاهتمام بها. وهي ان العبادي إذا ما اراد ان يهرب من المشهد الذي وقع فيه سلفه المالكي في الولاية الثانية، فينبغي عليه ان يفكر بالآتي:
1 – من الممكن ان يبتعد عن الواجهة، اي ان يرفض الترشيح لمنصب رئاسة الوزراء مرة اخرى. وهنا سيحافظ على نصره، ويبقي صورته كبطل حرر العراق من داعش مطبوعة في الذاكرة العراقية.
2 – للنصر ألف أب. هذه الحكمة الانكليزية تعني ان هزيمة داعش اشتركت فيها المرجعية، والسنة والكورد، فضلا عن الدول الاقليمية والبعيدة. إذا فشل في ان يرضي كل هذه الاطراف فلن يقفوا معه في الحرب على الفساد وفي وضع البلاد على طريق التنمية. لذلك لابد له من الابقاء على علاقته معهم.
3 – أخطأ عبد الكريم قاسم عندما ضرب الاقطاع، لأنه تجاهل الخطط العلمية البريطانية، التي ارادت خلق طبقة وسطى منتجة تدير الدولة مستقبلا. وربما ان العبادي إذا ضرب الفساد مثل قاسم، قد يشل حركة البلاد التي يشكل الفساد فيها شبكة تتغلغل في كل مفاصل الدولة وتسري في دمها.
4 – المصداقية، الشعب العراقي معروف عنه الحكم السريع على الاشخاص والتجارب وعدم الانتظار. الحرب على الفساد تحتاج الى وقت كي تظهر ثمارها ومردوداتها على المواطن. الناس تحتاج الى دفعات سريعة من الانجازات: امتصاص البطالة، تفعيل الزراعة والصناعة. والا فان الحرب على الفساد ستكون مجرد وهم مثل حركة الاصلاح التي أطلقها قبل سنوات وانتهت الى لا شيء.
5 – الشيء الاخر المهم الذي على العبادي اخذه بالحسبان، هو ان وقوف الجميع معه في حربه على الارهاب، ليس بالضروري ان يكون حبا به او بالعراق، بل ان اغلبهم فعل ذلك حفاظا على مصالحه التي ضربها داعش. وعلى هذا الاساس فلن يكون مستغربا ان ينقلب البعض ضده في المستقبل، لأن الحرب على الفساد والتنمية قد لا يكون للجميع مصلحة فيها، إذا ما قلنا انها قد تضر البعض منهم. وهنا ايضا ينبغي على العبادي ان يوفر للبعض منهم مصالح او على الاقل ان لا يمس مصالحهم.
اذن، ان حفاظ العبادي على موقعه فوق القمة هو أصعب من وصوله اليها. العبادي قد يكون مصير ولايته الثانية مثل سلفه المالكي، الا إذا اتقن قواعد اللعبة وحافظ على الجهات التي ساندته في الحرب على داعش، واغراها للبقاء الى جنبه في حروبه القادمة على الفساد واعادة الاعمار والتنمية.
اضف تعليق