ان هذا الدور والتأثير لم يكن واقعاً لولا الذراع الطولى للاستكشاف ودور إنتاج المعلومات وتمثيلها ونشرها والتي نعني بها مراكز الأبحاث والتطوير، ومراكز الأبحاث اذا كانت تعني للدول المتقدمة الشريان الابهر للقرار السياسي والاقتصادي والثقافي، فهي لدينا كدول جنوب أو دول نامية إحدى أدوات الهيمنة الوجاهية والتسمين الإداري...
في الوقت الذي انقلبت فيه موازين القوى الدولية والإقليمية في الألفية الثالثة، بمتغيرات عدة، منها ماهو جلياً والآخر يختلف بخطورته وسطوته لهذا التغيير .ولا يشك احداً من ان أعتاب التغييرات الممكنة او التي ستكون لم يتأبطها قدر أو مشيئة اعتباطية، بقدر ما كان للمعرفة والمعلومات من دور فاعل وأداة للتغيير فيها، ففي ظل الانفجار المعرفي والعلمي كانت المجتمعات ٌتدهش وتحاول اللحاق بما يجري وراء الاصطلاحات ومخرجاتها الجاهزة سواء أكانت مادية (تكنولوجية) ام ثقافية، وهكذا كان للمعرفة السوط الأجمل والابهى لان تتربع على حساب المظلة العسكرية التي كانت تعسكر بها الدول الكبرى مع نهاية عقد الثمانينيات .
وحقيقة الأمر ان هذا الدور والتأثير لم يكن واقعاً لولا الذراع الطولى للاستكشاف ودور إنتاج المعلومات وتمثيلها ونشرها والتي نعني بها مراكز الأبحاث والتطوير. ومراكز الأبحاث اذا كانت تعني للدول المتقدمة (الشريان الابهر) للقرار السياسي والاقتصادي والثقافي، فهي لدينا (كدول جنوب أو دول نامية) إحدى أدوات الهيمنة الوجاهية والتسمين الإداري، وقد تمخض عن هذا الافتراق عاملان أساسيان اولهما: التنافر بين الأنظمة الشمولية ومبدأ اتخاذ القرار .... اجتماعي، سياسي، ثقافي، ذلك ان النظام الدكتاتوري والشمولي أكان نظاماً سياسياً ام طريقة تفكير شخصية لصاحب القرار، يريد ان (يسرح ويمرح ويشيخ) على الرأي الأوحد، بحكمة شخصانية مطلقة، هو يرفض إمكانية الخطأ، وهو يرفض الرجوع الى المعطيات التي في ضوءها تصدّر القرارات، وبالتالي سارت القطيعة على حساب الطرف الثاني ( حاجة المجتمع الى الحل أو القرار المبني على القياس والتنبؤ العلمي) فالنظام أو صاحب القرار ( ثرّ ) ومراكز الأبحاث فقيرة ثانوية مهمشة دائماً، وهذا يسري في كل دول التخلف والاضطهاد والقهر الفكري والاجتماعي ومجتمعاتها دون تباين .
أما العنصر الأخر فهو ما يتعلق بالتربية المجتمعية البحثية، فالناس لاتعلم ان لها (مقود غير الحكام) وقادة الرأي المعروفين، ولا يعلموا ان هؤلاء (المجهولين) بامكانهم ان يقدموا لهم القرار أو السلوك أو التشخيص الصائب، وبالتالي نحن ننظر الى الآخر( العالم المتقدم ) باعتباره أعجوبة لهذا الخلق والابتكار والاكتشاف والنظام التكنلوجي و..و الخ . ولا نعلم ان هذا التميز جاء بجهد ودراسة وتربية، كانت مراكز الأبحاث جزء منه أو حاضنة له او مُهيئة لمناخه.
فتشير الإحصاءات والدراسات الى ان هناك كماً هائلاً من الأموال والعقول تنضوي تحت مراكز الأبحاث والتطوير، فكل شي يخضع إلى التجربة والكفاءة والتحسين والتجديد، املاً بالوصول إلى أعلى درجات العطاء الإنساني والآلي، وهذا لايتم بشكله الاعتباطي إنما على وفق آليات وكوادر علمية مؤهلة تقوم بإخضاع الظواهر إلى الدراسة الدورية وبشكل مستمر.
أما في بلدنا الجريح، فقد استبشرنا خيراً على ان تزول دكتاتورية الرأي، وحلمنا ان من سيأتي سيملىء البلد مراكزاً ومدارساً لإجراء البحوث والدراسات، لأننا أكثر مانحتاجه في هذا البلد المليء بالثروة (المفترضة) الى أناس وقادة مغيرين على أساس معطيات العلم وحقيقة الظواهر ومسبباتها، ومواجهتها بكل شجاعة.
والخطابات الرنانة والتلوين الكلامي، وكثرة الوعود لاتحل مشكلات البلد، أن البلد يحتاج إلى العلم والبحث العلمي أكثر مما يحتاج الى ملطفي أجواء، ومن يطبلون باسم المستقبل والأزمات الطارئة صورة الحل المرحلي، فالعلم في وادِ والبلد في وادِ . العلم تلك الثروة التي حباها الله لنا، وتكرم علينا بان نكثرها ونسلكها بأوجه بناء الخير للجميع.
ليس تشاؤمياً حينما استطلع الحقيقة، ولكن حينما نرى ونسمع ونشاهد العشرات من مراكز البحوث جامعية ام وزارية ام تابعة لمنظمات المجتمع المدني وبمختلف الاختصاصات، بعضها أليس من المفترض ان تضع بصماتها على الواقع الحالي؟ أليس على السياسيين، وذوى مراكز القرار أن يستندوا على أي مقترح أو نتيجة قُدمت من مركز بحثي؟ عشرات القرارات تتخذ من المسؤلين دون سند علمي أو قياس اجتماعي، علينا أن نومن من أن الشخص بحكم فرديته وأدوات استنتاجاته المبنية في الأغلب على التصور أو الخبرة، فإنها تكون عرضة للخطأ، والزلل، والقصور، إذا كان هذا الكم ..فأين الكيف، وما سطوتهُ الميدانية اذا كانت تنتج معرفة سواء أكانت تطبيقية أم أساسية، فما الداعي لهذا التنوع والانتشار الذي أصبح ( مودة الظرف ) لكل من يريد أن يفتح مركزاً مرموقاً أوان يفتح اداة للتعين والهيبة فماذا الذي قدمته وتقدمه مراكز البحوث؟ والى من؟ وما هي مدخلاتها المالية ومخرجاتها العلمية، أسئلة بحاجة الى إجابة، في الوقت الذي تمليء العالم المعرفة والمعطيات وحزم المعلومات المنظمة برخص منقطع النظير.
نعم نحن نحتاج إلى مراكز بحوث أكثر من اية دولة أو تكوين، لأننا نجهل الكثير من الظواهر التي تلف المجتمع، نحتاجها بإنتاجها المنظم والمثمر، نحتاجها لكل خطوة تربوية ام سياسية ام اقتصادية، ولكن على ان تكون لها جدوى ومغزى وهدف سام للارتقاء بالمجتمع والتقليل من معاناته الحقيقية، بالإضافة الى احترامها من قبل متخذي القرارات، وإلا ستبقى مشكلاتنا عرضة لأهواء ومزالق البعض.
مراكز بحوث ...لمسميات شتى، فهناك الإستراتيجي وهناك المستقبلي وهناك الاجتماعي والبيئي ...وعشرات المسميات الطارئة ....اين انتم من هذا ؟ وأين انتم مما يجري؟ ان وجود كم مبارك وقيمته ملحة ..ولو كنت صاحب قرار ..لوضعت أجندة الدوائر والمؤسسات تحت رحمة البحث العلمي، من الوزارات وحتى مدارس الأطفال ...لأننا فعلاً بحاجة الى احترام العلم .وإذا لم يكن لمراكز البحوث في هذا البلد ..كلمة ..او دور ..او ثقافة ..فليذهب ريعها الى المدارس التي هي احوج من كارتونات العلم ...وكفى محاكاة للمفترض ان يكون .... بل لنعمل على ما يجب ان يكون.
اضف تعليق