رافق التغيير الشامل الذي عصف بالعراق متغيرات عدة، أولها البعد الديمقراطي والذي بالضرورة يمكن ان يُخلف مسوّغ التحرر العلمي من الجمود والتوظيف السياسي للعلم والجامعة، وكانت لنا كعراقيين بعد سقوط النظام البائد فرصة عظمى كي نبني مراكز وقنوات علمية بغاية الرصانة والإنتاجية لو كان التفات السياسيين...
رافق التغيير الشامل الذي عصف بالعراق متغيرات عدة، أولها البعد الديمقراطي والذي بالضرورة يمكن ان يُخلف مسوّغ التحرر العلمي من الجمود والتوظيف السياسي للعلم والجامعة، وكانت لنا كعراقيين بعد سقوط النظام البائد فرصة عظمى كي نبني مراكز وقنوات علمية بغاية الرصانة والإنتاجية لو كان التفات السياسيين وقادة التغيير لذلك، والسؤال الذي يطرح نفسه، ماذا عملت الجامعات العراقية وماذا كيفّت لها من دواعي وآليات، كي تصبح من طلائع المؤثرين على مسارات مستقبل العراق ؟ وماذا تغير من مجهودها الحركي كمصدر نمذجة مؤسسية ( وليس البنائي ) كي تضع بصمتها المضيئة في مسارات بناء العراق وتقليل أخطاءه ومزالقه، تخطت بشكل حقيقي من حالة الضمور في العهد السابق الى حالة البراق والتأثير التراكمي في بناء مشاريع قيادة تنموية ومؤسسية وخدمية ؟ أين موارد العراق العلمية ؟ وأين مراكز الأبحاث والجامعات وأين مهاراتها في رصد ما يمكن رصده من أخطاء ومراوحة في مسارات السياسة والتعليم والبناء ؟اذا كنا نعني بشكل تام ماتحتويه من كوادر في كل المجالات، ولو أحصينا تلك القدرات لملئنا التعجب من رأسمالنا العلمي القابع خلف جدران الجامعات ومراكز أبحاثها ؟
توصيف أولي لبنية الجامعية العراقية:
على الرغم من البيانات المؤكدة حول فضاءات التعليم العالي في العراق يشوبها عدم الوضوح وربما الانحسار، إلا أن المؤشرات الأولية تميل الى أن نستوقف على جهادها في الاستمرار ومحاولة إملاء الدور( حقيقياً كان ام افتراضياً ) هذا الدور الذي اشرنا له في بداية الورقة ضمن ساحة من المعكرات السياسية والأمنية والإدارية .لذا نستطيع ان نضع خطوات وزارة التعليم العالي في إملائها لذا الدور بجملة من النقاط منها :
1- التوسع في فتح الجامعات الإقليمية ( المحافظات ) والتخصصية، والكليات والأقسام المختلفة وبحسب المؤهلات المعمول بها ضمن التعليم العالي، بالشكل الذي يسهل عملية انسياب الدوام بشكل طبيعي، ويستوعب زيادات القبول السنوية .
2- زيادة التخصصات المالية للجامعات لاستيعاب التوسعات المشار لها في( فقرة 1) وبذلك نلاحظ هناك وفرة في الجانب المالي بمتعلقات تمت إضافتها في بنية الكليات والأقسام من أثاث ومعدات ولوازم مختبريه وجمالية .
3- الارتفاع بالمستوى ألمعاشي للتدريسيين مما يساعد بالشكل الذي يمكن ان يلعبوا فدورهم الحقيقي ( كقادة رأي اجتماعيين ) .
4- العمل بأسلوب الزمالات الدراسية والعلاقات الثقافية مع الجامعات للدول الصديقة، مما يمكن ان ينتج تلاقحاً في المدارس العلمية المشهورة على الصعيد الأكاديمي ويثري التخصصات النادرة .
5- من خلال سلسلة من القرارات والتعليمات استطاعت ان تستوعب الصعوبات الأمنية التي كانت تعترض انسيابية الدوام للأساتذة والطلبة ( كالاستضافة والإعارة وغيرها ).وإجراءات القبول والتنقل .
6- محاولة تطوير قاعدة بيانات أساسية حول تشكيلات الوزارة والجامعات المرتبطة بها العلمية والإدارية .
7- تسهيل وتشجيع فتح القنوات الجامعية الأهلية المتخصصة والتي تستوفي الضوابط والشروط المعدة من قبل الوزارة، بالشكل الذي يمكن ان ينتج لنا جامعات أهلية مرموقة، وأداة جذب مؤسسي للقطاع العام والخاص .
8- دخول بعض الجامعات كأداة منفذة او استشارية في بعض المشروعات العلمية والخدمية، ولإجراء الدراسات والبحوث لجهات مستفيدة .
ربما هنالك أنشطة أخرى تصب في الميادين الثقافية والإعلامية ورعاية المؤتمرات وغيرها، ولكن هل هذا بمستوى هو المطلوب ؟ وهل تلك المؤشرات أغنت وجسدت الدور الحقيقي لوزارة التعليم العالي والتي أوصفناها بالشريان الابهر للمجتمع ؟ وهل جامعاتنا تنتج الآن متخرجاً او باحثاً يمكن له ان يُرمم بعض مشكلات المجتمع ؟ وهل الوزارة تعد القناة الأمينة في التفاعل مع معطيات العلم ونظرياته الحديثة والتواصل مع العالم الآخر بقفزاته المتسارعة ؟ وهل يمكن لنا الاتكاء عليها باعتبارها مصنع التغيير ومعجزة الحل السحري لنهضة العراق ؟ فإذا ما كان بيت العلم هو المنقذ فمن إذن؟
تلك الأسئلة وغيرها كثير تضع على أعباء التعليم العالي نسج خارطة جديدة لمجمل توجهاتها، وسياساتها والتي سنضعها بنقاط كمقترحات .وإذا كانت الوزارة تقوم بمهام توحي لنا بالحراك والأداء اليومي للتدريس ومنح الشهادات العليا ومشروعات البحوث ؟ فهل من تقويم او مقاس، وهل من مقارنة نستدل بها عناوين القوة والضعف في مفاصل هذا القطاع ؟
ليس لدينا بيانات شافية تمكننا من إجراء مقاييس أو محكات مع أنظمة التعليم العالي مع الدول المتقدمة او المتأخرة لأننا اصلاً لانريد ان نعرف أين نحن من بنية التعليم العالي الحديث ؟ وماهي أهدافنا المحسوبة لآلاف الخريجين والباحثين سنوياً ؟
فمن خلال الاستطلاع والمتابعة الأولية حول الموضوع نفترض التقويم الآتي لبعض مفاصل بنية التعليم العالي في العراق وعلى نمط من الاختزال والانتقاء :
اولاً: الدراسات العليا:
تشكل المعرفة العلمية أرقى مستويات المعرفة وأكثرها اختزالاًوفائدة للبشرية،وترتبط المعرفة العلمية بشدة بالتنظيم الفكريIntellectual Organization) ) إذ عن طريقها يمكن للإنسان ان يخضع الظاهرات والحوادث والمشكلات لدراسة موضوعية منظمة وحيادية،تعتمد بشكل أساس على متغيراتها وعناصرها الحقيقية،وليست الافتراضية وبشكل منظم( متسلسل )، والمعرفة العلمية عمودها النشاط العقلي( التفكير المنظم ) الذي يشكل قاعدتها الأساسية ومنطلقها الجوهري نحو التبلور والظهور والاستمرار،وبذلك فأنها تعدُّ مساهمة فاعلة ومتجددة تستند الى مبدأ التراكم( Accumulation) فهي نشاط اجتماعي عام لا يستند إلى شروط شخصية،إنما يستند إلى أخلاقيات العلم وأهدافه،وهذه تستند الى وجود حاجة ملحة * يبتغيها المجتمع و علاقاته و تنظيماته المادية و الروحية، سعياً لتذليل العقبات الإنسانية واكتشاف النظريات التي تقدم تفسيرات و حلول، تعمل على تعزيز أو تصويب أو تغير طبيعة النشاط الإنساني اجتماعياً كان ام علمياً بحتا،ً نحو خدمة الإنسان وتذليل عقباته، و هذا بطبيعة الحال مرتبط إلى حد كبير بتحديد المشكلات و فرض الحلول و التحقق منها، بأسلوب علمي منظم يرتقي إلى أعلى درجات التفكير، وأعتى درجات السعي من خلال إجراء التجارب المعملية أو الميدانية أو إخضاع المجتمعات إلى المسوحات و الملاحظات، بإطار منظم يستهدف رصد الحاجة البشرية بشكل دقيق و فاحص و بالتالي اصطياد المشكلات و الظواهر علمية صرفة كانت ام اجتماعية ام تربوية … الخ .
ذلك ان الظواهر مرتبطة ببعضها و متلاصقة إلى الحد الذي لا يمكن إخضاع بعضها إلى التفرد الفاحص الدقيق، فالمعرفة العلمية بشكل عام تستند على اتساق الجانب النظري والتطبيقي كلٌ يكمّل الآخر و يستند اليه و يثريه، باتجاه توفير رصيد مناسب لتقليل مشكلات الإنسان ودفعه إلى النمو والتطور و الحرية .
ولما كانت وزارة التعليم العالي ومن ثم الجامعات هي بالأساس من يتولى مهمة تنظيم أجندة البحث العلمي واستيعاب ومنح إجازات الشهادات العليا على أساس إنها القطب الرئيس المنظم والمانح والمخطط لكل متعلقات الدراسات العليا في التخصصات المختلفة،فمن خلال المتابعة، وميدان العمل في التدريس والإشراف والمناقشة، والتساؤل العلمي، أمكن استجماع المؤشرات في أدناه تبين حالة القصور في هذا المنحي منها:
1- اشرنا سابقاً الى العلاقة التامة والمطلقة التي تربط البحث العلمي بالجدوى النفعية والوظيفية للمجتمع ومن هذا المنحى فان مشروعات البحوث سواء أكانت المقدمة من قبل طلبة الدراسات العليا وبحوث الترقيات والمؤتمرات وغيرها من الجهود ( لابد وان تصب في منفعة الواقع بأي شكل من الأشكال وان تضيف للمجتمع إضافة مفيدة تحل لديه مشكلة او قضية، ومن هذا المبدأ لابد للوزارة وبالتعاون مع قطاعات ومؤسسات المجتمع من تحديد الأوليات البحثية ومشروعات البحوث الملحة، فلا وجود للتخطيط ولاوجود لمعايير معينة يخضع بموجبها المشروع العلمي للجدوى وهذه العشوائية قد ولدت لنا الآتي :
• تراكم موضوعات وظواهر معينة على حساب أخرى .
• صحيح ان البحث العلمي يستلزم ميل او رغبة من قبل الباحث، ولكن لايجوز ترك الباب مفتوحاً للباحث ( الطالب ) او المشرف في ان ينتقي ما يشاء من الموضوعات بحجة ان مرحلة كتابة البحث هي مرحلة تدريبية وهي تصب في مشروع صناعة باحث، في الوقت الذي يمكن لنا ومن أجندة مخلصة ومخططة للدراسات العليا ان نحل كل مشاكلنا العالقة
• التركيز على محاور في التخصص الواحد على حساب محاور أخرى، ونحن نتلمس من خلال التجربة استمرار الندرة في تخصصات معينة وزيادة التراكم في أخرى، وهذا بطبيعة الحال سببه الكيفية وعدم وجود خارطة وطنية لوفرة وندرة التخصصات على مستوى العراق .
2- القطيعة التامة بين موضوعات البحوث الجامعية ومشابهتها ( والدوائر المعنية بها )، فلو أحصينا الرسائل الجامعية التي نوقشت، او قرأت بحضور المعنيين في موضوعها، لكانت النسبة لا تتجاوز الـ( 5%) وكأن الطرفان لا يجمعهما شيء.واعتقد ان الموضوع بحاجة الى حملة تثقيف للجهد العلمي، وعلى المؤسسات ( كل المؤسسات ) ان تنشط ثقافتها البحثية وان يتولى المسؤولين رئس القائمة ويخضعوا لسلطة الحقيقة والعلم التي تتقاطع مع الأهواء .
3-إعادة تأهيل مناهج وطرق وسلوك البحث العمل العلمي فالبحث العلمي كغيره من الميادين قد اوجد له فضاءات جديدة ومناحي اغلبها التصقت بالتقنية والرياضيات والحاسوب، وبالتالي على الوزارة والقائمين على شؤون البحث العلمي من ان يجدوا صيغ وأساليب وضوابط جديدة تتسق مع ثورة المعرفة التي نشهدها، فلم يعد التراكم والتنظير من المراجع كما كان سائداً في العقود الماضية الميدان المهم، بل أصبحت لغة الرياضيات والإحصاء والتصنيف التقني إحدى الأدوات الأساسية الى جانب الأخريات .
4- الفقر الواضح لاتجاهات البحوث الميدانية مع نظيرتها النظرية او الأساسية، في بحوث العلوم الإنسانية، فلا تزال خريطة الأولويات لبحوث الوصف والتوثيق على حساب التجريب والمسح الميداني .
5-لم تلق الدراسات العليا ( احتضاناً متميزاً من قبل المسؤولين في الوزارة او الجامعات او العمادات باعتبارهم صناع حلول او باحثين ) بل يتم التعامل معهم على إنهم طالبي شهادات، وهذه النظرة قد عززت السلوك اليومي لهم باعتبارهم مشاريع صغيرة، في حين ان الدراسات العليا تشكل باعتقادي وظيفة أساسية وطليعية من واجبات الوزارة، وهذا التهميش بالطبع يسري على مستوى الإعلام الجامعي والنشر والتعضيد والتكريم ...الخ .
6- ضمور المؤتمرات العلمية في القطاعات البحثية، بحيث غدت ميداناً لمنح الشهادات، وتحول الكثير منها إلى دوائر تلقين وتعليم ليس إلا، في حين ان دورها يمتد الى تدريب مهارة البحث والاستنتاج العلمي .
7- ضمور النشر العلمي، وضعف الإتاحة والتداول للبحوث والدراسات المنجزة للباحثين، وقطاعات المجتمع الأخرى المعنية، واتخذ من الاختزال لأغراض إدارية، دون النظر إلى جدواه الحقيقية ( ترقيات، مكافآت، مؤتمرات خارجية،أخرى ).
8- لازلنا نتعامل مع البحث العلمي تعاملاً وظيفياً، او بؤرياً ( وكأنه يخص طائفة او طبقة دون أخرى ) علماً ان المجتمع عليه ان يمارس دوره في هذا الجانب سواء أكان منتجاً علمياً ام مستهلكاً ( أي نشر الثقافة والوعي بالبحث العلمي وطرائقه في المجتمع ) .
9- جهل او عدم أيمان الكثير من المسؤولين، وأصحاب المناصب الهامة، بأهمية دور البحوث العلمية، فالأخطاء تبقى والقرارات الشخصية تسير على هوى قلة من أصحاب القرار.
10- تهميش أساليب الثقافة البحثية في المدارس والجامعات، والذي جعل من التدريس الجامعي ( تلقيني ) وليس استقرائي، بعدما كان تدريب طرق البحث والاستكشاف الذاتي في فترة الأربعينيات والخمسينيات، يبدأ منذ المرحلة الابتدائية ( كما تثبت المطبوعات والنشرات المدرسية للفترة المذكورة ).
11- عدم الاهتمام بالدورات التأهيلية والتطويرية لتدريب المنتسبين، فنحن كما ميدان العمل بحاجة إلى تطوير وإضافات تجعلنا نواكب ما يدور في مجتمعات العالم من تجدد ونمو.
اضف تعليق