أظهرت المتغيرات الكثيرة التي حصلت في أواخر القرن الماضي الحاجة للتسليم بحقيقة الترابط بين النقد والثقافة وبالتالي نصل إلى نقدٍ ثقافي يمتد لكل الأصعدة ذات التماس المباشر بالحياة اليومية ومنها فعل الكتابة الإبداعية.
ولأن النقد الثقافي معني بكشف الأنساق المضمرة للنص لايمكن -بطبيعة الحال- الفصل بين النص وسياقه وهو ما أحدث جدلاً كبيراً في الأوساط الثقافية والأدبية في الوطن العربي حيث انقسم الأدباء والمفكرون بين من يؤيد إبقاء النص في دائرة النقد الأدبي الباحث عن الجماليات والبلاغة والاستعارات’ بل وشددوا على أن أي ابتعاد عن هذه الدوائر يمثل تهميشاً للقيمة الحقيقية للنص، بينما ذهب مؤيدو الاتجاه الآخر إلى ـ النقد الثقافي ـ على انه متفاعلٌ مع المناهج النقدية الأخرى أو جميعها.
على المستوى العربي، برز اسم الدكتور عبد الله الغذامي كأول من تبنى منهجية الكشف عن المخبوء البعيد عن اهتمامات النقد الأدبي رغم أن ريادته غير متفق عليها ومحل إشكالية عند البعض، يرى الغذامي عدم اختصار النص بوصفه ثقافة وسياقاً على الجماليات، بل يذهب أبعد من ذلك في اتهام النقد الأدبي بالتعاطي مع النصوص التي تفوز برضا المؤسسات الرسمية التي تريد أن تلبس القيم الثقافية والمعرفية قميصاً على مقاساتها دون غيرها.
في عام 1949 رفض مثقفون وكتاب في نيويورك منح جائزة بولتن الأدبية للشاعر الأميركي (عزراباوند) لأنه كان من مناصري هتلر أبان الحرب العالمية الثانية’ هذه الحادثة تؤكد رؤية الدكتور عبد الله الغذامي لأن هؤلاء الرافضين لمنح الشاعر جائزته انطلقوا من مسلمات قريبة من مزاج سلطوي دون الإلتفات إلى مرتكزات الخطاب الذي يحمل مقاصد ينبغي الكشف عما ورائها.
وهناك حادثة شبيهة حدثت قبل سنتين ونصف تقريباً’ حيث طالب أدباء وكتاب عرب بسحب جائزة نجيب محفوظ من الشاعر العراقي المعروف (سعدي يوسف) بسبب قصيدة كتبها وأحدثت لغطاً كثيراً وعدت إساءة لشخصية تأريخية تعد (رمزاً) يجب عدم المساس به، القائمون على الجائزة رفضوا سحبها من الشاعر العراقي لكن منظمة مشهورة أصدرت بياناً أعلنت فيه حذف اسم الشاعر من قائمة أفضل مئة شاعر عربي وجاء في بيان المنظمة:
(تعلن المنظمة سحب اسم الشاعر العراقي سعدي يوسف من الفائزين بلقب أفضل مئة شاعر عربي ضمن مبادرة المنظمة وذلك لقيامه بنسج قصيدة رخيصة فنياً وأخلاقياً يسيء فيها لأم المؤمنين عائشة إساءات بالغة وهو ماتم استهجانه من أبناء الأمة ومثقفيها).
ولو قرأنا الموقفين المتباينين من قضية الشاعر سعدي يوسف لوجدنا أن القائمين على جائزة نجيب محفوظ غير معنيين بسياقات ومتبنيات المؤسسات على تنوعها واختلافها لأنها تعتبر سعدي يوسف ــ سواء اتفقت او اختلفت مع قصيدته مثار الجدل ــ اسماً لامعاً أضاف للأدب العربي الحديث الشيء الكثير بينما نجد الأطراف الأخرى تبني مواقفها على ردات فعل تقترب كثيراً من المتبنى المؤسساتي، نعم، لاحظ لقصيدة سعدي يوسف من النقد الأدبي لأنها جاءت بشكل تقريري مباشر لكن لنا أن نسأل: هل بإمكان النقد الثقافي الاقتراب منها وكشف المخبوء من أنساقها؟ ما الذي يجعل شاعراً ماركسياً ينحدر من أصول (سنية) يكتب مثل هذه القصيدة التي كان لها أن تطيح بمجده الأدبي في زمن يلتهب فيه عنف طائفي يحركه الخارج بشكل لايدعو للشك؟
بالعودة لموضوعة تطبيع النص وضروريته نعتقد أنه ــ النص ــ يجب أن يجيء منسجماً مع المتلقي قريباً من همومه وهواجسه وقضاياه، ويبرز أمامنا هنا الصراع الأزلي بين مناصري نظرية الفن للفن ومناصري نظرية الفن للمجتمع فقد ظهر مبدأ الفن للفن في ظروف الثورة الصناعية حيث تحول إلى تعبير عن الذات فقط بعد أن كان يمثل مرآة للمجتمع كما رآه سقراط الذي جمع بين الجمال والمنفعة فهو أول من ربط بين الفن والأخلاق ورأى أن الجميل هو الذي يحقق منفعة مباشرة فوظيفة الفن الرئيسية هي الوصول إلى عالم تتكامل فيه المثل.
وتحت يافطات الحداثة ومابعد الحداثة تشظت النصوص وابتعدت عن متلقيها، في كتابه (أبواب ومرايا/مقالات في حداثة الشعر) يقول الشاعر والناقد خيري منصور:
((الحداثة من أكثر المصطلحات تداولاً في كتاباتنا اليوم، وهي العنوان الأكثر إلفاتاً للنظر في المجلات العربية التي تعنى بالأدب المعاصر، وما كتب حتى الآن تأليفاً وترجمةً عن الحداثة يزن الكثير، فهل استطاع هذا الكثير إيضاح معنى الحداثة للقارئ العربي؟))1
يبدو التساؤل واضحاً في هذا المقطع من كلام الناقد خيري منصور وهو الذي يخلص إلى أن الحداثة لاتعني توشية النص بأسماء آلات ومنجزات تكنلوجية أو تفكيك العمود الخليلي وتبني توزيع التفعيلات، وبالفعل ظلت الحداثة كمفهوم تتسع وتضيق بحسب آليات فهمها وطريقة التعامل معها ن تلك الآليات هي التي جعلت الشاعر في دوامة كبيرة ليترفع عن تراثه وقيمه وبالتالي يتقهقر الشعر لصالح السرد في ظاهرة لافتة في العقود الأخيرة.
إن الخطأ الكبير الذي وقع فيه من تبنى الحداثة بشكل مربك هو عدم استيعاب حقيقة أن الموروث يمكن له أن يتعاطى مع الجديد الحداثي لما يمتلكه من ثراء لغوي ومعرفي يمكنه بالتالي من التماهي مع المتطلبات العصرية الجديدة، عدم الاستيعاب هذا جعل الكثيرين أسارى للشعر الفرنسي والانجليزي للتأثير الكبير لهاتين الدولتين في ثقافة البلدان التي استعمرتهما ليكون الشعر المنتج عبارة عن متاهات لابداية ولانهاية لها وباباً مشرعاً للهذيانات المجانية التي تكتب من أجل اللامعنى حتى صار الخوف أن تتحول إلى مشروع أو جنس أدبي يحتفى به على أنه ثورة تجديدية !
هذا التقليد يحيلنا إلى ظاهرة متكررة وهي (الإتباعية) التي يمارسها العرب وهم الذين يمثل الشعر لهم حالة غريزية فطرية عبر عنها الحديث (لاتدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين)، فما الذي يمنع من تبني حداثة مستندة على خصوصية وهوية تجعلنا لانضطر لسماع آراء نقدية متشددة كالتي طرحها الناقد ياسين النصير بقوله:
((الكثير من القراء في أوروبا استغنوا عن الشعر قراءة واقتناء عندما وجدوا أن مايقوله الشعراء عبر اللغة وجدوه في العمارة وتنظيم العلاقات بين أجزاء المدينة وفي الإعلان والصحافة والإنترنيت، لماذا يذهب المرء للقراءة مادام يحصل على الفكرة والرؤية عبر أدوات حسية ومباشرة))2
إن كلام الناقد ياسين النصير يجعلنا نبحث في أسباب هذا التشدد المستغرب تجاه الشعر، ولماذا يريد تعميم التجربة الأوروبية على غيرها، فهو يقيس جودة الشعر مثلاً على تكرار طباعة ديوان ما أو فوز شاعر بجائزة نوبل ومادام هذا لايحصل فلا جدوى من الشعر.
إن أقل مايقال عن هذه القياسات أنها سطحية تعتمد الظواهر التي قد تضيء فترة لكنها سرعان ماتنطفىء وكأنه يؤسس لنظرية استهلاكية لأن الرواية في أوروبا تحقق مبيعات أكثر من الشعر أو أن سعر تذكرة الدخول لأمسية شعرية ضئيل قياساً بأخرى غير شعرية فهل أن زيادة مبيعات السرد دليل على جودة مضمون القصة أو الرواية؟
ولو أخذنا قياسه على عدم فوز شاعر بجائزة نوبل للآداب منذ فترة طويلة، ألا يحيلنا هذا التصور إلى رؤية عبد الله الغذامي؟ أكيد أن جائزة نوبل جائزة مهمة ومشهورة وتمثل حلماً للكثير من الأدباء والكتاب لكن النصوص والنتاجات التي تفوز تخضع لتقييم لجان لها آلياتها وذائقتها ومتبنياتها فضلاً عن سياقات المؤسسة الراعية للجائزة.
إن الوقوف بالضد من تقليد المناهج الغربية نقداً وكتابة الشعر المستند على الترجمات لايعني بالضرورة مصادرة أي جهد أو مسعى تجديدي ينفتح معرفياً على الآخر شريطة أن لايكون انفتاحه على حساب هويته وخصوصيته، يقول (جورج ستينر):
من الممكن أن يصبح النقد إبداعاً’ لكن ذلك يحدث عادة في حالة واحدة، عندما يكون الكاتب ناقداً لعمله أو حادياً لنظريته الشعرية.
اضف تعليق