من يتابع حركة العراقيين في الأعياد، سوف يلاحظ ظواهر عديدة متناقضة مع بعضها، فهناك من يبدو حريصا على الذوق العام، ويحترم حدود الآخرين، ويستخدم الممتلكات العامة (الشوارع، الحدائق العامة، المنشآت الحكومية.... إلخ) بطريقة متحضرة، وبعضهم لا يعنيه ذلك، أي أنه لا يهتم للنظام ولا تعنيه قضية احترام حدود الناس، أما الصنف الثالث فهو أكثر إيغالا بالأذى حيث يذهب مجموعة من البشر الى إلحاق الأذى بالآخرين عن تعمّد مسبق.
وكان من المؤمّل أن تتطور ذائقة الفرد والجماعة مع تطور وسائل الإعلام وخدمة شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن في جولة بهذا العيد رصدنا السلوك الملتزم والحيادي وكذلك رأينا سلوك مؤذي للآخر، وربما تكرر هذه الظواهر نفسها حتى لو اختلف الزمان وتباينت وسائل العيش، بالأمس لا يوجد جهاز النقال ولا مواقع التواصل الالكتروني ولا جهاز الـ (آيباد)، ولكن كانت الناس على تواصل مستمر، أما عندما يأتي العيد فإن التزاور بين العائلات والأقارب والأصدقاء، يتضاعف ليصل الى أرقام مذهلة، فترى الناس تتحرك في العيد مثل خلايا النمل، لا تهدأ، لا تتعب ولا تكلّ، ولا تكف عن الحركة والزيارات المتبادلة، هذا هو ديدن العائلات في العيد فالكل يعد نفسه للزيارات المتبادلة، فهذه فرصة لا تأتي إلا مرة واحدة كل سنة، حيث تهدأ النفوس ويغمر القلوب إيمان وسعادة، فيكون العيد مناسبة للصلح وعودة المياه الى مجاريها بين المتخاصمين مهما كانت أسباب الخصام..
الغلاء وتحديث ألعاب الأطفال
في مثل هذه المناسبات تكتظ الحدائق بالصغار والكبار، لاحظنا أن هناك عائلات تترك فضلات الطعام متناثرة في أماكن جلوسها، فيما يحرص البعض الآخر على جمعها ورمها في أقرب حاوية للنفايات، الأمر مختلف بين عائلات وأخرى حسب الذوق والالتزام بالنظافة والتقاليد السليمة، ومع اختلاف أجواء العيد عن الأيام العادية، فهناك ملامح الزينة البسيطة، والنشرات الضوئية، وبعضهم من يشعل الشموع، وهناك وسائل كثيرة للفرح، للصغار والكبار، فالأطفال لديهم وسائل فرح مختلفة في الماضي، منها الأراجيح التي يصنعها الناس بأنفسهم من جذوع النخيل والحبال، وهي عادة تكون صغيرة لكنها تدخل الفرح على قلوب الأطفال، كذلك هناك دولاب الهوى الخشبي المصنوع يدويا، يحمل خمسة الى أربعة أطفال ويحركه رجل مسؤول عنه مقابل (خمسة فلوس)، أما اليوم فدولاب الهواء كبير وعالي جدا وفيه عشرات المقاعد، ويتم تشغيله كهربائيا، وأجرته عالية قد تصل الى (خمسة آلاف دينار) أو أكثر احيان، وهناك ألعاب حديثة سريعة جدا، وبعضها مخيفة وتبدو خطرة، لكن المغامرين يركبونها بلا تردد أو خوف.
في قديم الزمان، أي في العهود الماضية قبل نصف قرن مثلا، كانت هناك عربات تسحبها الخيول او الحمير، يصعد بها الأطفال مقابل خمسة فلوس أو (عانة) كما كان يسميها الناس، وكان الفرح يملأ قلوبهم وهم يطلقون الأهازيج الشعبية المعروفة في العيد، أما الآن فهناك عربة الموت السريعة، وألعاب فيها مغامرة وحركة مخيفة أحيانا، وهناك فرق واضح بين الزمنين، الماضي والحاضر، هناك كانت البساطة والطبيعة، وهنا دخل التعقيد والصناعة، واختلفت النفوس أيضا، وتحولت من العفوية الى التخطيط، الذي قد يفسد متعة العيد أحيانا، وعلى العموم هناك من يلتزم بالذوق العام ويحترم التقاليد ويسعى لتطبيق بنود النظافة بشكل طوعي، وهناك من يهمل هذه الفقرة، ويعجز عن جمع فضلاته وإلقائها في الحاوية القريبة من محل جلوسه في الحديقة العامة أو المتنزه.
(كليجة) أيام زمان مفقودة
حاولنا رصد المختلف والمخالف فتجولت شبكة النبأ المعلوماتية، في أماكن تكتظ بها الناس، وحاولنا المقارنة بين مظاهر العيد في الأمس واليوم، لاحظنا أطفالا وشبابا ومن كبار السن أيضا، كانت الشوارع جميلة ونظيفة، وهناك مساحات خضراء مزروعة بالحشيش الأخضر وأشجار الزينة والورود، وهناك ألعاب بسيطة كثيرة فردية وجماعية، سألنا بعضهم ومن أعمار متباينة عن الفارق في العيد سابقا والآن:
فقال رجل متوسط العمر تبدو عليه علامات الوقار والصحة: " إن الفرق كبير بين عيدنا وعيدكم، وهو يقصد الأطفال والشباب اليوم"، وأضاف الحاج "أصبح العيد أكثر تعقيدا، والمظاهر غلبت على طبيعة الناس والأماكن أيضا، بالأمس كنا نحس أن العيد مختلف عن الأيام الأخرى، نستعد له قبل أيام، نشتري (دشداشة) جديدة، وأم البيت تصنع بيدها (الكليجة) التي باتت مفقودة في الحاضر، وأفراد العائلة يغسلون أجسادهم جميعا، وفي الصباح نبدأ بالصلاة ونسلم على بعضنا ونتمنى لبعضنا الفرح والأمنيات السعيدة، ثم نخرج فنشاهد يوما مختلفا بالفعل، أناس كلها مستبشرة، وحركة كثيفة في الشوارع، اليوم نشعر العيد مختلف حتى بالألعاب، هناك تعقيد، كذلك لا يوجد فرح مثل الأمس، بعضهم يأتي الى المتنزه حاملا أحزانه معه، نحن كنا نعيش البساطة بالسلوك والعفوية، اليوم الناس مهمومة حتى بالعيد!". كذلك لا نجد التزاما جيدا لضوابط الحركة في الأماكن العامة.
علاء فتى قارب عمره العقد والنصف، كان يمشي مع عائلته في المتنزّه، وفي يده نقال حديث، لا ينظر الى طريقه وهو يسير، كاد يصطدم بي، بادرته بالقول: (كل عام وأنت بخير، أيامك سعيدة)، تبسم واعتذر وقال: كنت أتحدث مع أمي وأتمنى لها عيدا سعيدا، إنها لا تزال في (الحج). سألته عن أجواء العيد وهل هناك فارق بين عيد الآن والعيد عندما كانت طفلا؟.
قال علاء: اشعر بفارق لا حدود له، كل شيء تغيّر، المتنزهات أصبحت أوسع واكبر وفيه ألعاب كثيرة وكبيرة وصغيرة، لكنها لا تُدخل الفرح على النفس، الناس كذلك تغيرت، باختصار عيد الأمس أفضل من عيد اليوم بكثير، أشعر أن الناس كانوا أكثر التزاما، الآن يتركون أوساخهم في أماكنهم وهذا عيب يجب أن نعالجه.
أسعار بطاقات الدخول عالية
شكا كثير من رواد أماكن الترفيه من ارتفاع أسعار الألعاب، وحتى أسعار بطاقات الدخول عالية، أحد العمال في متنزه آخر، اسمه احمد (31 سنة)، سألناه عن ساعات عمله، فأجاب تصل الى 12 ساعة هذه الأيام، يقصد أيام العيد، وعندما سألناه عن طبيعة عمله، فقال أهم شيء في عملي المحافظة على سلامة الأطفال، فقلنا له لماذا أسعاركم عالية، قال هذا يتبع صاحب المتنزه أو الجهة المشرفة عليه، وعملنا في المناسبات فقط، فيحاول صاحب المتنزه الاستفادة من الأعداد الكبيرة، وعندما سألناه عن درجة الأمان في الألعاب، قال لم يتعرض طفل او شاب الى أذى، نحاول أن نؤمن سلامة الجميع، وعن الفارق في العيد بين الأمس واليوم، قال احمد: الأمس أفضل طبعا، اليوم لا نشعر بالعيد، لأننا لا نعيشه كما يجب، فهناك نواقص كثيرة، منها عدم الشعور بالأمان، كما أن الناس لم يحرصوا على النظافة كما في السابق، هناك عدم اهتمام بمشاعر الآخرين وهذه مشكلة عامة يعاني منها العراقيون، الكل يعرف ما هو النقص وما هي المشكلة، لكن لا أحد يبادر الى وضع الحلول، المطلوب الحفاظ على تقاليد العيد الجيدة وعلى النظافة وأن يشترك المواطن والموظف الحكومي في إنجاز هذه المهمة.
اضف تعليق