ان الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة محايدة تُستخدم لأغراض معينة، بل هو قوة سياسية جديدة تحمل أمكانيات هائلة لتحقيق الفائدة العامة، وفي الوقت نفسه تنطوي على مخاطر حقيقية يجب مواجهتها بحذر ومسؤولية، ولضمان مستقبل تتكامل فيه هذه التقنية بشكل إيجابي مع الأنظمة السياسية، ينبغي العمل على وضع ضوابط وتشريعات...
يشهد العالم تطوراً غير مسبوق في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واحدة من أعظم الابتكارات التي شهدها القرن الحادي والعشرين، حيث باتت الخوارزميات تتغلغل في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك المجال السياسي، وأصبحت أدوات فعّالة في صياغة السياسات العامة و تحليل البيانات الضخمة و التنبؤ بسلوك الأفراد و الجماعات وأتخاذ القرارات، ومع تسارع التطورات التكنولوجية، لم يعد السؤال هو ما أذا كان الذكاء الاصطناعي سيؤثر على السياسة، بل أصبح السؤال كيف سيحدث ذلك، و هل ستفقد البشرية سيطرتها على آليات أتخاذ القرار لصالح الخوارزميات، وما هي العواقب المحتملة على النظم الديمقراطية والحوكمة العالمية؟
اليوم، قد تَطور الذكاء الاصطناعي الى مرحلة أصبح فيها شريكاً في عملية صنع القرار، و تُستخدم الأنظمة الذكية في تحليل الرأي العام من خلال متابعة محتويات وسائل التواصل الاجتماعي، ورصد توجهات المستخدمين في الوقت الفعلي، وتعتمد هذه الأنظمة على تقنية التعلم الآلي التي تتيح لها استنتاج أنماط السلوك البشري وتوقّع ردود أفعاله تجاه قضايا معينة، مما يجعلها أداة قوية لدى الحكومات والأحزاب السياسية في صياغة حملاتها الانتخابية واستراتيجياتها الترويجية، فالحكومات تستخدمها لتحسين كفاءة الخدمات العامة واتخاذها قرارات أكثر دقة وفعالية في مواجهة التحديات المعقدة.
واستخدام الذكاء الاصطناعي في المجال السياسي يساعد في تحليل بيانات وسائل التواصل الاجتماعي والخطابات العامة لاستخلاص توجهات الناخبين وتوقّع سلوكهم، وتحديد استراتيجيات فعّالة لجذبهم، كذلك تستخدم الخوارزميات لتحليل ملايين المنشورات في ثوانٍ معدودة، مما يتيح قراءة دقيقة للاتجاهات الشعبية وتوقّع نتائج الانتخابات، وتحسين الكفاءة الإدارية ومكافحة الفساد من خلال رقمنة الخدمات الحكومية وتقديمها بشكل أسرع و أكثر شفافية، وتطوير أنظمة ذكية لإدارة الأزمات والكوارث الطبيعية من خلال توقّع المخاطر ووضع خطط استجابة سريعة.
ألا أن استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال السياسي لا يخلو من المخاطر، فمع أن هذه التكنولوجيا تقدم أدوات قوية لتحسين العمليات السياسية، ألا أنها تحمل في طياتها تحديات كبيرة تهدد مبادئ الديمقراطية وحقوق الأنسان ويجب التعامل معها بحذر، فاستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مراقبة شاملة يمكن أن يعزز من قوة الأنظمة الاستبدادية ويقلل من الحريات المدنية، وتزايد الاعتماد على الخوارزميات في أدارة الأمن الوطني وهذا يثير القلق يشأن الأمن السيبراني وخصوصية البيانات، فالخوارزميات تعتمد على البيانات المتاحة لها مما يعني أن أي انحياز في تلك البيانات سينعكس على القرارات، ويؤدي هذا التحيّز الى التمييز الاجتماعي والسياسي و الاقتصادي ضد فئات من السكان.
وأحدى القضايا المثيرة للقلق أيضاً هي الافتقار الى الشفافية اذ أن هذه الأنظمة لا تخضع لنفس مستويات المسائلة والشفافية التي تخضع لها المؤسسات السياسية التقليدية، وغالباً ما تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي معقدّة وغير مفهومة بشكل كامل حتى لمطوّريها مما يجعل من الصعوبة محاسبتها عند حدوث أخطاء، وقد يتم تطويرها من قبل شركات خاصة تهدف الى تحقيق أرباح مالية أو حتى من قبل حكومات ذات أجندات خفية، وهذا يضع صانعو القرار أمام تحديات كبيرة في فهم كيفية أتخاذ الخوارزميات قراراتها و من الصعب جداً مراقبة عملها أو تحديد مسؤولياتها بدقة، وهذا يعرّض العملية الديمقراطية لخطر، وكذلك خطر التدخل الأجنبي باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للتأثير على الانتخابات وتوجيه نقاشات داخل دول أخرى مما يهدد سيادة الدول واستقرارها.
ومن المتوقّع أن يتزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في رسم السياسات المستقبلية، مما يثير التساؤلات حول مدى تأثيره على الديمقراطية وصنع القرار.
اذ ينبغي على الحكومات لمواجهات هذه التحديات وتحقيق الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي في السياسة: أن تضع قوانين دولية تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي وتضمن عدم استغلاله بشكل يؤثر على حقوق الأنسان والحريات، وأنشاء هيئات رقابية مستقلة لمراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات السياسية وضمان الشفافية، وتطوير أدوات للكشف عن التحيزات وتصحيحها وتوفير بيانات شاملة تعكس تنوع المجتمعات، و ألزام الشركات والحكومات بنشر آليات عمل الخوارزميات المستخدمة في صنع القرارات وتقديم تفسير واضح لنتائجها، وتطوير برتوكولات حماية صارمة للأنظمة السياسية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لمنع الاختراقات والتلاعب، وبناء شراكات بين الدول لوضع معايير مشتركة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في السياسة ومنع استغلاله لأغراض غير مشروعة، وتنظيم مؤتمرات ومنتديات عالمية لمناقشة التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي وتبادل الخبرات فيما بينهم.
اذ أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة محايدة تُستخدم لأغراض معينة، بل هو قوة سياسية جديدة تحمل أمكانيات هائلة لتحقيق الفائدة العامة، وفي الوقت نفسه تنطوي على مخاطر حقيقية يجب مواجهتها بحذر ومسؤولية، ولضمان مستقبل تتكامل فيه هذه التقنية بشكل إيجابي مع الأنظمة السياسية، ينبغي العمل على وضع ضوابط وتشريعات تضمن استخداماً عادلاً ومسؤولاً للذكاء الاصطناعي، والموازنة بين الاستفادة من هذه التكنولوجيا وحماية المبادئ الديمقراطية.
اضف تعليق