بات واضحاً أن الشرق الأوسط الجديد لا يتشكل في ميادين القتال فقط، بل في منصات النقاش، وشاشات الإعلام، وقاعات الجامعات، ومعارض الكتاب، والمشاريع الإنسانية والتعليمية. الدول التي تدرك هذه الحقيقة، وتستثمر فيها بذكاء وهدوء، هي التي ستملك مفاتيح التأثير في العقود المقبلة...
في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم نحو التغيرات الجيوسياسية والعسكرية المتسارعة، يشهد الشرق الأوسط تحولاً ملحوظاً في أدوات التأثير والنفوذ. لم تعد السياسة الخارجية تعتمد فقط على "القوة الصلبة" تلك التي تستخدم العسكر، الاقتصاد، والتهديد المباشر، بل بات هناك وعي متزايد بأهمية "القوة الناعمة" كوسيلة لصناعة النفوذ، والتأثير على المجتمعات والدول، وتحقيق أهداف سياسية دون اللجوء إلى الصراع أو الإكراه.
والقوة الناعمة، كما عرّفها جوزيف ناي، تعني القدرة على التأثير في الآخرين من خلال الجاذبية والإقناع، وليس بالضغط أو الإكراه.
وتتمثل أدواتها في الثقافة، التعليم، الإعلام، القيم، السياسة العامة، والدبلوماسية الثقافية والإنسانية. ومن هنا، أصبحت القوة الناعمة أداة استراتيجية رئيسية في السياسة الخارجية الحديثة، خاصة في منطقة شديدة السيولة مثل الشرق الأوسط، حيث تتقاطع الطموحات الوطنية مع التحالفات المتغيرة، والتوازنات الدولية الهشة.
خلال عام 2025، برزت مؤشرات جديدة على تصاعد استخدام هذه الأداة في الإقليم، في ظل سعي عدد من الدول الإقليمية لإعادة تشكيل صورتها، وبناء نفوذ إقليمي جديد، بعيدًا عن الأدوات التقليدية التي استُهلكت خلال العقود الماضية. فقد بدا واضحاً أن من يريد أن يكون مؤثرًا في "الشرق الأوسط الجديد" لا يكفي أن يمتلك جيشًا قوياً أو اقتصاداً متماسكاً، بل يحتاج إلى سردية، وصورة، ورسالة تصل إلى الشعوب قبل الحكومات.
المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، قدّمت في السنوات الأخيرة نموذجاً متقدماً في استخدام القوة الناعمة ضمن سياق رؤيتها الوطنية "2030" ، التي لم تُعد مجرد مشروع اقتصادي وتنموي، بل تحوّلت إلى مشروع سياسي وثقافي له أبعاد إقليمية ودولية. عبر الانفتاح الثقافي، والاستثمار في السياحة، والرياضة، والتعليم، ومراكز الفكر، سعت السعودية إلى تصدير صورة جديدة عن نفسها: دولة حديثة، منفتحة، ومعتدلة ، تنتمي إلى المستقبل لا الماضي. هذا المسار لم يكن فقط لتحسين صورتها في الغرب، بل لبناء تأثير ناعم داخل المنطقة، يعيد تموضعها كقوة إقليمية قيادية قادرة على إحداث التغيير، لا فقط إدارة التوازن.
في الجهة الأخرى، استمرت تركيا في توظيف أدوات القوة الناعمة بشكل حيوي، من خلال الدراما التلفزيونية التي حققت انتشارًا واسعًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى الوكالات الإنسانية، والتعليم، والتبادل الثقافي. سعت تركيا إلى تعزيز علاقاتها الثقافية والتاريخية، لا سيما في مناطق كانت جزءً من الإرث العثماني، وأعادت تشكيل علاقاتها مع جمهوريات آسيا الوسطى وأفريقيا والبلقان من خلال خطاب ناعم يتحدث عن التعاون والتنمية والروابط المشتركة، بدلًا من النفوذ الصلب المباشر. وقد عززت هذه السياسة من حضور تركيا في النقاشات الإقليمية والدولية، حتى وإن كانت لا تخلو من تباين أو توتر.
إيران، وإن كانت تعتمد على "القوة الصلبة" عبر أذرع مسلحة في الإقليم ، فإنها لم تتخلَّ عن محاولات التأثير الناعم، استخدمت طهران الخطاب الديني، والتعليم الديني، والمساعدات الطبية، والمنح الدراسية، كوسائل لبناء نفوذ اجتماعي طويل الأمد. إلا أن هذا النموذج بدا أقل فعالية في 2025، نتيجة التآكل الداخلي الذي تعاني منه إيران على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن تراجع صدقيتها الإقليمية في عدد من الدول نتيجة تدخلاتها المباشرة.
من جانب آخر، دخلت دول الخليج الصغرى مثل الإمارات وقطر في سباق القوة الناعمة، عبر أدوات مبتكرة. الإمارات ركزت على تصدير نموذجها القائم على التسامح، التكنولوجيا، والحداثة العمرانية، وأصبحت مركزاً للأحداث الدولية الكبرى، من المعارض إلى المؤتمرات والمنتديات العالمية. أما قطر، فقد واصلت توظيف الإعلام والتعليم والدبلوماسية الرياضية لبناء حضورها الناعم، ونجحت في تموضع متقدّم بفضل قدرتها على لعب دور الوسيط في النزاعات، وتقديم نفسها كفاعل سياسي مرن ومستقل. هذا التنافس الخليجي في المجال الناعم لم يكن صراعاً صفرياً بقدر ما كان ساحة لتكريس أنماط جديدة من التأثير.
كل هذه المؤشرات تجعل من القوة الناعمة مكوّناً رئيسياً في خريطة النفوذ الإقليمي في 2025. ولم يعد من الممكن فهم الصراع أو التنافس بين الدول دون النظر إلى كيف تبني هذه الدول صورتها، وتؤثر في الرأي العام ، وتزرع الأفكار والقيم التي تخدم إ استراتيجياتها بعيدة المدى.
في هذا السياق، يبرز سؤال جوهري: أين العراق من كل هذا التحول؟ رغم ما يملكه العراق من عمق تاريخي، وثقافي، وحضاري، وديني، فإنه لا يزال غائباً إلى حد كبير عن ساحة القوة الناعمة. يعاني العراق من ضعف أدوات التأثير الخارجي، وقلة الإستثمار في أدوات الإعلام والتعليم الثقافي والدبلوماسية الشعبية.
غالباً ما ينشغل الخطاب الرسمي بردود الأفعال على الأزمات السياسية والأمنية، دون بلورة إستراتيجية طويلة المدى تهدف إلى بناء حضور عراقي ناعم في الإقليم.
هذا الغياب لا يعني إنعدام الإمكانات، بل يشير إلى ضعف الرؤية والتخطيط. فالعراق يمكنه أن يبني نفوذاً ناعماً مؤثراً إذا ما استثمر في مجالات مثل التعليم العالي، الثقافة، الفنون، الإعلام الموجه للخارج، إستعادة دوره في التبادل الثقافي العربي، وتنشيط العلاقات الأكاديمية والفكرية مع المحيطين العربي والدولي. يمكنه أن يقدم نفسه كبلد حضاري، متنوّ، يسعى للاستقرار، ويملك نموذجًا قائمًا على التنوع الثقافي والديني الذي يمكن أن يتحول إلى نقطة قوة بدل أن يكون مصدر انقسام.
تفعيل أدوات القوة الناعمة لا يحتاج إلى ميزانيات هائلة بقدر ما يحتاج إلى رؤية إستراتيجية متماسكة، وإرادة سياسية تؤمن بأن التأثير لا يُصنع فقط بالبندقية أو العقوبات، بل بالفكرة، والصورة، والرمز، والسردية. كما أن خلق شراكات مع مراكز فكر إقليمية ودولية، وتنشيط الحضور العراقي في الإعلام العالمي، وتنظيم فعاليات فكرية وثقافية كبرى، يمكن أن يساهم في تحسين صورة العراق، وتعزيز موقعه السياسي والدبلوماسي.
في النهاية، بات واضحاً أن الشرق الأوسط الجديد لا يتشكل في ميادين القتال فقط، بل في منصات النقاش، وشاشات الإعلام، وقاعات الجامعات، ومعارض الكتاب، والمشاريع الإنسانية والتعليمية. الدول التي تدرك هذه الحقيقة، وتستثمر فيها بذكاء وهدوء، هي التي ستملك مفاتيح التأثير في العقود المقبلة. أما الدول التي تستمر في اعتبار القوة الناعمة ترفًا أو هامشًا، فإنها ستبقى أسيرة ردود الأفعال، ومواقع الدفاع، والغياب عن مراكز القرار.
في عالم سريع التحول، لا يُقاس النفوذ فقط بالثروات أو الجيوش، بل بالقدرة على إقناع الآخر، لا إخافته؛ وعلى كسب العقول قبل الأقاليم؛ وعلى زرع الحضور بدل فرضه. وهذه هي حقيقة القوة الناعمة في عالم اليوم.
اضف تعليق