إن مأساة السودان ليست في تعدد البنادق، بل في غياب الدولة الجامعة التي تحتكر القرار والسيادة على أساس الشرعية القانونية لا القوة الميدانية. فالميليشيات حين تُشرعن وتُموّل وتُستدعى لتثبيت النظام، تبدأ كأداةٍ أمنية، لكنها سرعان ما تتحول إلى مركز قرارٍ موازٍ يبتلع النظام نفسه...
لم يعد اسم “الجنجويد” مجرّد مصطلحٍ محليٍّ في معجم العنف السوداني؛ بل أصبح رمزًا عالميًا لتجسّد الميليشيا داخل جسد الدولة، وانحرافها عن منطق القانون إلى منطق القوة. تلك الكلمة ذات الإيقاع الغامض والموسيقي تختصر في حروفها قصةَ دولةٍ ولدت فيها الميليشيا من رحم النظام، ثم التهمته.
نشأت “الجنجويد” في مطلع الألفية خلال نزاع دارفور، حين استعان النظام السابق بمجموعاتٍ قبليةٍ مسلّحةٍ لقمع التمرّد، خارج الأطر الدستورية والعسكرية. كانت تلك اللحظة بداية تفويضٍ غير مشروعٍ للعنف، خرج من يد الدولة إلى يد القبيلة، فتكسر أول أركان مفهوم “احتكار الدولة للعنف المشروع” الذي صاغه ماكس فيبر في تعريفه الكلاسيكي للدولة الحديثة.
وفي عام 2013، أُعيدت صياغة الجنجويد في ثوبٍ رسمي تحت اسم قوات الدعم السريع، لتُمنح غطاءً قانونيًا لا يغيّر من جوهرها شيئًا، بل يمنحها شرعية التمدد والتمويل. ومن هنا بدأت الميليشيا تتسلل من هامش الصحراء إلى قلب الخرطوم، تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) — الرجل الذي صعد من تجارة الإبل إلى قمة هرم القوة في السودان. كان هذا الصعود دراميًا بقدر ما هو دالٌّ على انهيار منظومة الدولة، إذ لم يكن نتاج كفاءة مؤسساتية، بل ثمرة تآكل البنية القانونية للدولة المركزية وخصخصة العنف باسم الأمن.
تحوّلت “الدعم السريع” تدريجيًا إلى جيشٍ موازٍ، له موارده وتحالفاته، متجاوزًا سلطة الجيش النظامي، ومحتكرًا لتجارة الذهب وموارد الحرب. ومع سقوط نظام البشير ودخول السودان مرحلة الانتقال، أصبحت الميليشيا طرفًا سياسيًا واقتصاديًا متكاملًا، ينازع الدولة في القرار والسيادة، بل ويختصر الشرعية في منطق القوة الميدانية.
وفي لحظةٍ فارقة، انفجر الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع عام 2023، لتتحول البلاد إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للعنف، تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية، وتنهار فيها الدولة بين جيوش متعددة، لا تجمعها راية القانون بل مصلحة السلاح.
من منظور القانون الدستوري، يُعدّ هذا التحوّل خرقًا صارخًا لمبدأ وحدة القيادة العسكرية، وانتهاكًا لقاعدة حصرية القوة في يد الدولة، وهو ما يمثل، في جوهره، تفككًا لبنية الشرعية القانونية. فحين يتعدد العنف، يضيع القانون؛ وحين يُشرعن العنف خارج مؤسسات الدولة، تُختزل الشرعية في “العنف النافع” لا “العنف المشروع”.
أما من منظور القانون الدولي الإنساني، فإن ما يجري من إعداماتٍ ميدانية وجرائم ضد المدنيين في الفاشر ودارفور يدخل في نطاق الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977، ويستوجب مساءلة القادة الميدانيين بموجب المادة (28) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تقرّ بمسؤولية القائد عن الجرائم التي تقع تحت سلطته وإشرافه.
إن مأساة السودان ليست في تعدد البنادق، بل في غياب الدولة الجامعة التي تحتكر القرار والسيادة على أساس الشرعية القانونية لا القوة الميدانية. فالميليشيات حين تُشرعن وتُموّل وتُستدعى لتثبيت النظام، تبدأ كأداةٍ أمنية، لكنها سرعان ما تتحول إلى مركز قرارٍ موازٍ يبتلع النظام نفسه.
وما لم تُعاد هيكلة المؤسسة العسكرية وفق معايير مهنية ودستورية صارمة، ويُفرض القانون على جميع القوى المسلحة دون استثناء، فسيبقى السودان مثالًا حيًّا لانهيار العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة.
إن تطور الميليشيات في السودان ليس مجرد ظاهرة أمنية، بل مؤشرٌ على انهيار الدولة القانونية حين تُختزل السلطة في القوة، وحين يُستبدل مفهوم “العنف المشروع” بـ“العنف النافع”. وحين يصبح السلاح وسيلة للوصول إلى السلطة لا وسيلة لحمايتها، يغدو الوطن رهينةً في يد من يملك الزناد، لا في يد من يحكم بالدستور.
وعليه، يجب على الشعب والساسة والقادة في المنطقة ألّا يتحزلقوا — لا سمح الله — بألعاب الأجانب، أو ينخدعوا بما يُسمّى الانتصار المفخخ، فالعبرة في التاريخ أن النار التي تُشعلها القوى الغريبة لا تُطفئها إلا دماءُ الأبرياء. فلنأخذ من تجربة السودان العظة والعبرة، ولْنَجعل من العراق — عراق السلام — منارةَ استقرارٍ وسؤددٍ، لا ساحةَ تجاربٍ لأجندات الآخرين.



اضف تعليق