ينبغي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لأتمتة مهام معينة أن تخلق مهام أخرى يستطيع المهنيون الشباب من خلالها الاستمرار في التدرب وارتكاب الأخطاء والتعلم. التقدم لا يعتمد على الكفاءة بقدر ما يعتمد على المشاركة الفعلية. والهدف ليس حماية الوظائف الحالية بأي ثمن، بل خلق مهن تعمل على تمكين الانتقال...
بقلم: برتراند بادري، و فلوريان إنجن-هاوس

باريس ــ يُـعَـد الحفل الذي أقامه عازف البيانو كيث جاريت في مدينة كولونيا من أعظم مقطوعات الارتجال في تاريخ موسيقى الجاز ــ ساعة من المجد الجامح الذي لا يعرف حدودا، والتي جرى تقديمها دون نوتة أو خطة. لكن إنجاز جاريت لا يدين بشيء للصدفة. بل كان نتاج آلاف الساعات من التكرار الممل ــ موازين لا نهاية لها صقلت أفعال العازف المنعكسة وذاكرته العضلية. الواقع أن عباقرة الارتجال يعتمدون على الإتقان الذي يأتي من الممارسة. فهم لا يرتجلون فحسب.

هذه مفارقة مركزية في التعلم البشري: فمن غير الممكن تجاوز أنماط العمل إلا بعد استيعابها بعمق. والإبداع يبدأ دائما بالقيود. في ما أسماه عالم نفس الأطفال الروسي ليف فيجوتسكي "منطقة التطور الأدنى"، يعمل التكرار على تحويل القيد إلى مهارة. على نحو مماثل، رأى عالم النفس السويسري جان بياجيه أن الذكاء يُبنى من خلال العمل، من خلال ممارسة المعرفة على نحو متكرر إلى أن تصبح غريزية. فالتعلم هو إتقان إطار عمل بالقدر الكافي من البراعة للتمكن من تجاوزه والتفوق عليه.

تنطبق ذات الديناميكية أيضا على العمل الفكري الأكثر بساطة وطبيعية. إذ يجب أن يلتزم المحترفون في قطاعات الخدمات أو التكنولوجيا أولا بقواعد مُـثـبَـتة مسجلة قبل أن يتعلموا كسر القوالب. أدرك عالم النفس دانيال كانيمان الحائز على جائزة نوبل هذا الانتقال من خلال تمييزه بين شكلين من أشكال الإدراك: "النظام 1" سريع، وبدهي، وتلقائي، أما "النظام 2" فهو بطيء، وتحليلي، وعمدي.

مع ازدياد العاملين في مجال المعرفة تمرسا وخبرة، يكتسبون الجرأة غالبا على محاكاة الفاتح الإسباني هيرنان كورتيس و"إحراق سفن" الطلاقة التقنية حتى يتسنى لهم التركيز على تطوير الجديد. والفكرة هي الاستغناء عن فِـكر النظام 2 الذي نقلنا عبر المحيط الأطلسي، والثقة الكاملة في غرائزك (النظام 1).

بيد أن الذكاء الاصطناعي يهدد الآن بالقضاء على مرحلة عبور المحيط في مسيرة العاملين في مجال المعرفة. بحثت دراسة حديثة أجراها إريك برينجولفسون، وبهارات تشاندار، ورويو تشين في ملايين من سجلات الرواتب في الولايات المتحدة، ووجدت أن تشغيل العمالة بين من تتراوح أعمارهم بين 22 و25 عاما انخفض منذ أواخر عام 2022 بنسبة 13% في أكثر المهن تعرضا للذكاء الاصطناعي ــ خدمة العملاء، والاتصالات، وبشكل خاص تطوير البرمجيات ــ في حين لم يتأثر إلى حد كبير العمال الأكبر سنا في المجالات ذاتها.

توصلت أبحاث أخرى إلى نتائج مماثلة. في أكتوبر/تشرين الأول 2025، على سبيل المثال، سلط سيد مهدي حسيني وجاي ليشتنجر الضوء على انخفاض أكثر حدة في الشركات التي تبنت الذكاء الاصطناعي في وقت مبكر. تُظهر هذه الدراسات أن الوظائف الأكثر تأثرا هي تلك التي يُستخدم فيها الذكاء الاصطناعي لأتمتة المهام (تشغيلها آليا)، في حين تظل الوظائف التي يعزز فيها الذكاء الاصطناعي القدرات البشرية مستقرة. هذا التمييز أمر بالغ الأهمية لأن المهام الأكثر عُـرضة لخطر الأتمتة هي بالتحديد تلك التي عملت كبوتقة للنمو المهني.

يتمثل المعنى الضمني هنا في حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي من الممكن أن يدمر الأسس التي يستند إليها كبار الموظفين في الحدس والحكم. فلن يصبح المصرفي مفاوضا حاذقا إلا بعد قضاء ليالٍ طويلة وعطلات نهاية الأسبوع في تعديل النماذج المالية. ولن يستوعب المهندس منطق النظام إلا بعد تصحيح مئات الأخطاء البسيطة. مثل هذا العمل المتكرر والممل والـمُـثبَـت هو المادة الخام التي تتألف منها المعرفة الضمنية ــ ذلك النوع الذي لا قِـبَـل لأي كتاب مدرسي بتعليمه. مع الذكاء الاصطناعي، نحن نحرق سفن الأجيال الأكثر شبابا دون أن نعلمهم أولا كيف يمضون قدما اعتمادا على أنفسهم.

يلوم الشباب اليوم بالفعل من هم أكبر منهم سنا لأنهم تركوهم لمشكلات متصاعدة مثل تغير المناخ، والآن يرثون دَينا آخر. تذكرنا العلوم الإدراكية المعرفية بأن التعلم ليس مجرد تراكم للمعلومات. إنه عملية مجسدة. وكما يشرح عالم الأعصاب ستانيسلاس ديهيني، فإن التعلم يعتمد على "إعادة تدوير الخلايا العصبية"، حيث يعيد الدماغ استخدام الدوائر الموجودة من خلال الممارسة المتكررة. وتتطلب عملية إعادة التدوير هذه العمل الشخصي وليس التفويض.

من غير الممكن أن يصبح العمال الشباب خبراء بمجرد التحقق من صحة مخرجات الآلة؛ ولا يمكنهم تطوير الحدس من خلال الإشراف على خوارزمية ما. إذا نقلنا جميع المعارف الـمُـثـبَـتـة إلى الآلات، سيصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى التعلم بالممارسة، وتحقيق الإتقان، وبالتالي التطلع إلى الحرية الإبداعية.

كيف يمكننا تجنب هذا الفخ المعرفي؟ نحن نرى ثلاثة مبادئ يجب أن توجه الشركات والمجتمع في عموم الأمر.

أولا، إعادة الكرامة والقيمة للعمل المتكرر. لا ينبغي لنا النظر إلى التكرار دوما على أنه عمل شاق، بل هو في كثير من الأحيان استثمار معرفي. ينبغي للشركات أن تدرك القوة التكوينية الكامنة في مثل هذا العمل. فلن يصبح أي موسيقي فنانا مبدعا دون موازين؛ ولن ينجح أي محلل مالي أو محامٍ في تطوير الأحكام في مهنته دون أن يؤدي في سنواته الأولى كل المهام الشاقة التي قد نستسلم لإغراء ائتمان آلة على أدائها.

ثانيا، نحتاج إلى إعادة النظر في سير العمل. الواقع أن الرئيس التنفيذي لشركة وول مارت دوج ماكميلون ربما كان محقا عندما قال إن "الذكاء الاصطناعي سيغير كل وظيفة حرفيا". ولكن في هذه الحالة، ينبغي للشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لأتمتة مهام معينة أن تخلق مهام أخرى يستطيع المهنيون الشباب من خلالها الاستمرار في التدرب وارتكاب الأخطاء والتعلم. التقدم لا يعتمد على الكفاءة بقدر ما يعتمد على المشاركة الفعلية. والهدف ليس حماية الوظائف الحالية بأي ثمن، بل خلق مهن تعمل على تمكين الانتقال من فِـكر النظام 2 إلى فِـكر النظام 1.

أخيرا، يتعين علينا أن نُـدخِـل معيار المساءلة بين الأجيال. يجب تقييم كل عمل من أعمال الأتمتة ليس فقط من حيث مكاسبه الإنتاجية هنا والآن، بل أيضا من حيث التكاليف المترتبة عليه في المستقبل. فما الذي قد يحدث للجيل التالي عندما نزيل مرحلة التعلم؟ ينبغي لنا أن نعمل على دمج مبدأ "اللياقة المعرفية" في مواثيق أخلاقيات الشركات إلى جانب تلك التي تُـلزِمنا بالاستدامة البيئية.

لقد تألق جاريت في تلك الليلة في كولونيا على وجه التحديد لأنه أمضى سنوات من عمره في اتباع كتاب القواعد. على نحو مماثل، نحن كمجتمع لن نحتفظ بحريتنا الإبداعية إلا إذا حرصنا على صيانة الوقت الذي يستغرقه التعلم. ويجب أن نفعل ذلك في حين نتبنى التغيير في الوقت ذاته. وكما أوضح فيليب أغيون، أحد الحائزين على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد لهذا العام، فإن التدمير الخلاق هو محرك التقدم.

ولكن لا يجوز لنا أيضا أن نغض الطرف عن وجهات نظر أخرى للعالَم. قد تنظر الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، التي تقفز مباشرة إلى تبني الذكاء الاصطناعي المحلي الواسع الانتشار، إلى الأمور بشكل مختلف. الـدَّيْـن المعرفي الذي نتركه للشباب في الاقتصادات المتقدمة قد يكون فرصتهم. وسوف يكون من واجبنا الانتباه. ولكن في الوقت الراهن، يشكل الاعتراف بوجود هذا الدَّيْن، وتناميه في المستقبل، خطوة أولى نحو التعامل معه.

* برتراند بادري، المدير الإداري السابق للبنك الدولي، هو رئيس المجلس الاستشاري لمشروع "بروجيكت سينديكيت"، والرئيس التنفيذي ومؤسس "رأس مال مستدام أزرق كالبرتقالي"، ومؤلف كتاب "هل يستطيع التمويل إنقاذ العالم؟"

فلوريان إنجن-هاوس، شريك في "ألترميند"، وهي شركة استشارات استراتيجية مقرها باريس.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق