لَم تَعُد المراقَبة حكرًا على الأجهزة الحكومية، إذ طالتها موجات الخصخصة، واللامركزية، وباتت، في كثير من الأحيان شأنًا ذاتيًّا؛ فالهواتف المحمولة تتبع الأماكن التي نذهب إليها، ومَن نتصل بهم. وكما تقيس الساعات الذكية معدل ضربات القلب، سوف تحصي علينا قريبًا إحساسنا بالسعادة، وبالغضب كذلك...
بقلم: كريستوف بوك
لَم تَعُد المراقَبة حكرًا على الأجهزة الحكومية، إذ طالتها موجات الخصخصة، واللامركزية، وباتت، في كثير من الأحيان شأنًا ذاتيًّا؛ فالهواتف المحمولة تتبع الأماكن التي نذهب إليها، ومَن نتصل بهم. وكما تقيس الساعات الذكية معدل ضربات القلب، سوف تحصي علينا قريبًا إحساسنا بالسعادة، وبالغضب كذلك. وتتدفق البيانات الناتجة عن هذه المراقَبة إلى خوادم تجارية، عبر شبكات يمكن اختراقها بسهولة، وقد تُستغل من قِبَل شركات الدعاية، أو يتم نشرها عبر الشبكات الاجتماعية.
وقوانين حماية المعلومات ـ المعمول بها حاليًّا ـ ليست مهيأة لمواجهة هذا الواقع الجديد؛ إذ تم إصدارها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في مجتمعات تنظر إلى قواعد البيانات الحكومية باعتبارها الأكثر احتياجًا إلى التأمين ضد انتهاك الخصوصية. ومن ثم، فإن تركيز هذه القوانين على المركزية، والتحفظ، والسرية يتعارض مع ما يشهده العالَم اليوم من إتاحة البيانات الشخصية على مواقع كثيرة، ونشرها بصورة متعمَّدة، ومُمَنْهَجَة، وتسريبها على نحو شبه دائم.
نبادر دائمًا إلى توجيه اللوم إلى المستخدِمين البسطاء، ومطوري البرامج المهمِلِين، فور وقوع أي عملية اختراق للبيانات الشخصية، إلا أن السلوكيات الفردية الواعية والحصيفة لا توفر الحماية الكافية من المراقبة الشبكية؛ فحتى لو توقفتُ عن استخدام هاتفي المحمول في التنقل عبر أرجاء العالم الرقمي والمادي، سأظل متاحًا في سجلات الأفراد مِن حولي.
وتتسبب وسائل التقنية الحديثة في تفاقم هذه المشكلة؛ فالكاميرات المحمولة على طائرات بدون طيار تراقبنا من أعلى، كما تسمح ألعاب الواقع المعزّز ـ مثل لعبة "بوكيمون جو" ـ لمصمِّميها ـ أو الجهات الراعية لهم ـ بالتحكم في الأماكن التي نذهب إليها في العالم الحقيقي. كما أن أجهزة رصد تسلسل الحمض النووي المحمولة لن تسمح فقط بالمراقبة الفورية للمُمْرِضات التي تنتقل عبر الهواء، ومشروعات "علم الجميع" المثيرة، وإنما ستتعدّاها إلى الكشف عن بياناتنا الجينية لأي شخص يستطيع الحصول على الحمض النووي الخاص بنا.
وتساعدنا مجموعات البيانات الضخمة ـ باعتبارها ركائز لخوارزميات الحاسوب، وتقنيات التعلم الآلي ـ على ممارسة حياتنا اليومية؛ بما تقدمه من مقترحات بشأن أماكن تناول الطعام، والكتب التي نقرأها، وطرق المحافظة على الصحة، لكنْ مِن الممكن أيضًا أن تُستخدَم هذه البيانات ضدنا، وذلك عن طريق ـ على سبيل المثال ـ التنبؤ بالمخاطر الائتمانية، واحتمال ارتكاب الجرائم. يمكن أن تكون هذه التنبؤات بالغة الدقة، لكنها تقاوم سلوكيات غير معتادة، وغالبًا ما تمارس التمييز ضد الأقليّات. ويصعب تجنب هذا التمييز الناشئ؛ لأنه قلّما يُثبَت في الخوارزميات، وإنما ينشأ من بيانات التدريب المتحيزة. وقد يشرع الناس في "التصرف على نحو يوافق التيار السائد"؛ من أجل تأمين أنفسهم فقط، وهو سلوك غير مقبول في المجتمعات التعددية.
كيف نستطيع إذَن أن نحدّ من آثار مخاطر "البيانات الضخمة" على الحرية الشخصية، في الوقت الذي تتاح فيه البيانات الشخصية عن طريق مليارات الأجهزة المتصلة، وتغدو إحاطة البيانات بالسرية ضربًا من الوهم؟
يجب أن نتذكر أن حماية البيانات وسيلة نحو غاية، وليست غاية في حد ذاتها؛ إذ إننا لا نحمي البيانات بدافع دَفْع ضرر قد يلحق بها، وإنما من أجل حماية حقوق ومصالح أفراد، ربما يتسبب استخدام بياناتهم ـ على نحو معين ـ في إلحاق الضرر بهم. ربما تقدِّم هذه الملاحظة منطلقات الحل لمعضلة حماية الحرية الشخصية في عالَم تتلاشى فيه الخصوصية. ومن ثم، فإن التوصل إلى حلول؛ للحدّ من الاستخدامات المؤذية للبيانات الشخصية، من شأنه أن يحدّ في المستقبل من خطورة تسريب هذه البيانات، ونشرها بطرق غير آمنة. ويمكننا التمييز بين المخاطر المالية الأساسية، التي تُعرًف بأنها الأضرار التي يمكن التعويض عنها بشكل كامل، من خلال صرف تعويضات مالية (قد تكون كبيرة)، والمخاطر الاجتماعية، التي تؤثر في العلاقات بين الأفراد، على نحو لا يمكن تعويضه بمال.
"إنّ السلوكيات الفردية الواعية والحصيفة لا توفِّر الحماية الكافية من المراقبة الشبكية".
تتضمن المخاطر المالية ارتفاع أقساط التأمين الصحي، من جرّاء زيادة عوامل الخطر الجينية، أو الانتظار لفترات طويلة على خدمة الخط الساخن، لأن العنوان يشير ـ أو إحدى خوارزميات التنبؤ ـ إلى عميل منخفض القيمة. ويمكن الحدّ من هذه المخاطر من خلال إصدار تشريعات صارمة لمكافحة التمييز وحماية المستهلك، لا سيما إذا اقترنت هذه التشريعات بتوفير الحماية اللازمة لمقدِّمي البلاغات، الذين يكشفون عن الانتهاكات، وتفعيل صناديق للحالات الحرجة؛ تقوم بالسداد عن المخالِفين الذين لا يستطيعون سداد التعويضات.
أما المخاطر الاجتماعية، فتتضمن عمليات التشهير، التي يُقْدِم عليها الأصدقاء والأقارب، عبر اختراق اللقطات المصورة، أو شن حملات ضد الآراء الشخصية، التي أصبحت متاحة للجميع. وتَصْعُب معالجة هذا النوع من المخاطر بإصدار تشريعات؛ إذ لا يُقْدِم الأفراد عادةً على مقاضاة أقاربهم؛ من أجل الحصول على معاملة منصفة وعادلة. ورغم ذلك.. يمكن أن تحدّ تشريعات مكافحة التمييز من المخاطر الاجتماعية، وذلك عبر إرسال رسائل رسمية تعبِّر عن استهجان أشكال تمييز معينة، وتسهم في خلق تأثير عميق في شتى أوجه حياتنا اليومية، التي لا يمكن السيطرة عليها بالقوانين والتشريعات.
وبهذه الطريقة.. تبرز قوانين مكافحة التمييز كحجر الزاوية في حماية الحريات الشخصية عند فشل حماية البيانات، وبالتالي انتهاك السرية من خلال النشر المفتوح للبيانات. ويؤكد ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي إمكانية توفير هذه الحماية، على المستويين القانوني، والسياسي، وحظر التمييز على أساس "الجنس، أو العِرْق، أو اللون، أو الأصل العرقي أو الاجتماعي، أو السمات الجينية، أو اللغة، أو الدين، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو أيّ رأي آخر، أو الانتساب إلى أقليّة قومية، أو بسبب الممتلكات، أو الميلاد، أو الإعاقة، أو العمر، أو التوجه الجنسي". كما يوفر القانون الكندي لحقوق الإنسان مظلة حماية أكبر نسبيًّا، لكنَّ واقع الأمر يعاني من حالة من التشظي والانقسام في الولايات المتحدة، وحالة من القصور في الصين، واليابان، وعدد كبير من الدول النامية.
ويمكن أن يسهم العلماء في التأكيد على أن انتهاك الخصوصية باستخدام التقنية لا يؤدي بالضرورة إلى المساس بالحرية الشخصية، وذلك عن طريق ما يلي: أولًا، تقديم تقييم موضوعي لمخاطر انتهاك الخصوصية الحالية والمستقبلية، التي تسبِّبها التقنية الحديثة، والتأكيد على الحاجة إلى تجاوز التصور غير العملي بشأن حماية البيانات عن طريق السرية. ثانيًا، الدعوة إلى توفير حماية قانونية فعالة ضد التمييز في شتى أنحاء العالم. ثالثًا، التثقيف، والنصح، والإرشاد؛ للتأكد من هيمنة الحقائق ـ وليس المخاوف ـ على الجدل السياسي.
اضف تعليق