q

هناك خلاف بين علماء الحقوق والقانون وغيرهم، في أن الأصل الفرد أو المجتمع؟

القول الأول وأدلته

فالأولون استدلوا بأن الإنسان ولد حراً ويبقى حراً ولا يمكن أن يسلب شيئاً من حريته أحد إلاّ الدين الإلهي الذي يسلب حريته في مصلحته أيضاً في دنياه أو آخرته. والدولة وغيرها إنما يلزم عليهم أن يحموا هذه الحرية.

وهو وحده له الحق في أن يتنازل عن حريته تلقائياً إطلاقاً، أو بعقد كأن يلقي متاعه في الشارع إعراضاً، أو يهب شيئاً من أمواله إلى الآخرين، أو يبدله بمال آخر في عقد مع آخرين بأي نوع من أنواع التبديل في ما إذا لم يكن منع شرعي.

بالإضافة إلى أن حريته محدودة بحرية الآخرين، فلا يحق لأحد أن يضر الآخرين أو يسلب حرياتهم، وكذلك العكس.

ومن هذا المنطلق يكون الاقتصاد والسياسة والاجتماع والدولة والعقود والثقافة وغيرها كلها تابعة للإنسان، فإن الكل يدور مدار الإنسان:

ففي حقل الاقتصاد المعيار (دعه يعمل.. دعه يسير).

وفي حقل السياسة هو حر في انتخاباته إلى أبعد حد.

وفي حقل الدولة، الدولة خادمة له، يقبلها الإنسان متى شاء ويردها متى شاء، حالها حال خادم البيت.

وفي حقل الاجتماع له أن يجتمع مع من شاء، ويراجع الطبيب والمهندس وغيره كما يشاء، ويتزوج ممن يشاء.

وفي حقل العقود له أن يبيع أو يرهن أو يؤجر أو يستأجر كما يشاء.

وفي حقل الثقافة له أن ينخرط في أي ثقافة شاء.

إلى غير ذلك مما يحفظ كرامته وحريته وملكه الفردي وغير ذلك، وعلى هذا فوظيفة الحقوق جعل القوانين لحفظ التنسيق بين الأفراد الذين يتكون منهم الاجتماع، وعليه فالعدالة ليست إلاّ حفظ الحريات والتنسيق بين الأفراد في الإطار الشرعي فيما إذا كان متشرعاً، وفي إطار العرف والعادة ونحوهما في غيره.

والحاصل إن إرادة الفرد هي روح الاقتصاد والدولة والحقوق وغير ذلك، ومن ذلك ينشأ حق التجارة الحرة والعقود المعاملية والنكاح والطلاق وغير ذلك من شؤون الفرد.

القول الثاني وأدلته

أما القول الثاني، فقد استدل بأن الاجتماع هو الأصل، لأنه هو الذي يؤمّن مصالح الأفراد، ومنه يقوم الأفراد الكبار والمخترعون العظام، فلو لم يكن الاجتماع هل كان بالإمكان وجود علماء بارزين أو مخترعين فائقين أو زعماء كبار أو ما إلى ذلك.

والفرد له الحق بقدر أن يعيش في هذا الاجتماع موفور الجانب، محترم المال والعرض والدم، فحرية الفرد سواء في حقل السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غيرها محدودة بحدود مصلحة الاجتماع.

وعليه فاللازم أن يتكئ كل شيء من السياسة والاقتصاد والحقوق وغيرها على إرادة الاجتماع والتي تمثلها الدولة، وعليه فاللازم أن يدور كل شيء مدار الدولة الممثلة للاجتماع.

نعم في هذا المدار يجب أن تشكل المدرسة الحقوقية المرتبطة بالأفراد، والمراد بالمؤسسة الحقوقية أن الفرد له حق الكسب والاتجار والسفر والعمارة والزراعة والنكاح والطلاق والمعاملة وغيرها.

وعليه فالعدالة عبارة عن إعطاء الفرد حقه في إطار الجماعة، فكلما كان ضاراً بالجماعة لم يكن حقاً للفرد، وإن كان الفرد إذا عاش وحده كان له ذلك الحق، مثلاً إذا عاش الفرد في غابة كان له أن يستفيد من كل الثمار أكلاً وتجفيفاً ونحوها، وإذا عاش على البحر كان له أن يستفيد من كل الأسماك، وإذا عاش في الصحراء كان له أن يسوق سيارته كيف ما شاء وهكذا، أما إذا عاش في الاجتماع فإن القانون يجعل الثمار والأسماك للكل، وإنما له بقدر حصته في ضمن الكل، كما أن له بقدر ما يقرره القانون من السير يميناً أو يساراً، سريعاً أو بطيئاً، ومن الوقوف أو الجري بما فيه مصلحة الاجتماع.

وعلى هذا الرأي فخصوصيات الأفراد وتكاليفهم وآراؤهم وحقوقهم تعني بواسطة الاجتماع، وتستفاد من العرف والعادة وغير ذلك. فالأفراد مجبورون أن يعيشوا في هذا الإطار في كل شؤونهم الفردية والاجتماعية.

بخلاف الرأي الأول، حيث يرى أن كل شيء يوضع حسب حرية الفرد وبرأيه، لكن في أطار حرية الآخرين وآرائهم، وقد تقدم انتهاء حرية الفرد ورأيه حيث يبتدئ حرية الآخرين.

وعلى هذا فالدولة تتدخل في كل شؤون الأفراد بما تراه صلاحاً، سواء شؤونهم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الحقوقية أو غيرها، لأن الدولة بما أنها ممثلة للاجتماع هي الأصل الذي يجب أن يكون الفرد فرعاً له، لا أنها هي الفرع الذي يكون الفرد أصلاً لها.

ولذا فالعدالة في نظرية الاجتماع تقتضي توزيع الثروة، بمعنى أن الدولة تقسم الثروة حسب ما تراه تقسيماً عادلاً بين الأفراد، وذلك بمعنى أنه يؤخذ من الكل ليعطى للكل، ولا حق للمأخوذ منه أن يعترض بأنه لماذا تأخذ مني المال الذي اكتسبه، بينما في نظرية الفرد العدالة معاوضية، بمعنى أن الفرد يعطي بقدر ما هو يرى في قبال أخذه من الطرف حسب المراضاة بينهما.

والحاصل: إن الفرد في نظر الاجتماعي محكوم، كما أن الاجتماع في نظر الفردي محكوم، ومن النظرة الفردية نشأت الدول الرأسمالية، ومن النظرة الاجتماعية نشأت الدول الشيوعية، ومن الجمع بينهما نشأت الدول الاشتراكية، ولا نقصد أن الشيوعية مبنية على الاجتماعية فحسب، أو الرأسمالية مبنية على الفردية فحسب، إذ كل من الدولتين تبنى على عدة أسس والتي من أهمها النظرة الفردية أو النظرة الاجتماعية، كما أن الاشتراكية لم تنشأ من الجمع بين النظريتين مطلقاً، بل أخذت بعضاً من هذا وبعضاً من هذا وإن كانت نسبة المأخوذ مختلفة أي لم تتساو النظريتان في تكوين الاشتراكية، بل بنسب مختلفة مثل أربعة أخماس من الفردية وخمس من الاجتماعية، بالإضافة إلى أن الاشتراكيات مختلفة حسب اختلاف آرائهم بقدر الأخذ من هذا الرأي أو من هذا الرأي.

أصالة الفرد وشروطها

هذا ولكن النظرية الفردية أقرب الى العقل والمنطق وإلى الفطرة والإسلام حسب الأدلة المتوفرة في المقام، ذلك بشروط وضعها الإسلام.

الأول: أن يكون لكل حقه

وهذا الشرط عبارة أخرى عن تحقق الموضوع، فلا يحق للإنسان استغلال إنسان آخر ولو بالإكراه الأجوائي، كما فصلناه في الكتب الاقتصادية، مثلاً الإنتاج حاصل من العمل والعمال ورأس المال والإدارة وصاحب المال، فاللازم أن يوزع الربح على هذه الخمسة حسب حقوقهم العادلة في نظر العرف، وبذلك لا تتحقق الرأسمالية بمعناها الغربي، بل الرأسمالية بمعناها الإسلامي حيث قال سبحانه: (لكم رؤوس أموالكم)(1)، ولذا قد يعبر عنه بالاشتراكية أيضاً كما في الرواية (شّرك).

الثاني: أن لا يكون ضرر على الآخرين

وهذا الشرط عبارة عن تحقق الموضوع، لما تقدم من أن حق الفرد محدود بحقوق الآخرين، كما أن حرية كل فرد محدودة بحريات الأفراد الآخرين.

الثالث: تقسيم حقه بين جانبيه الفردي والاجتماعي

فإن الإنسان فردي من ناحية واجتماعي من ناحية أخرى، ولذا فاللازم أن يقسم سعيه بين الجانبين، فإعطاء الاجتماع شيئاً من سعيه ليس بمعنى أن الاجتماع سلبه حقه، أو أن الدولة هي الحاكمة والأصل والفرد هو المحكوم والفرع، بل بمعنى إعطاء جانبه الاجتماعي حقه أيضاً.

وحق الاجتماع عبارة عن حفظ النظم وتقديم الاجتماع إلى الأمام، وهذان ما تقوم بهما الدولة نيابة عن الأفراد في انتخابات حرة، على ما ذكرنا تفصيله في كتبنا السياسية.

ومن الواضح أن حفظ النظم يعود بالخير إلى الفرد، فهو خروج عن الفرد إلى الفرد، كما أن تقديم الاجتماع يعود بالخير إلى الفرد أيضاً، فإن الفرد في الاجتماع المتأخر مهان وماله وعرضه ودمه معرض للزوال بواسطة اجتماع آخر متقدم، إذ من طبيعة الاجتماع المتقدم أن يطغى حسب قوله سبحانه: (إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى)(2)، بالإضافة إلى أن الاجتماع المتفكك معرض لأن يعتدى بعضهم على بعض مما يجعل الفرد في معرض الإهانة.

الرابع: التكافل الاجتماعي

مثل إعطاء المرضى والمعلولين وما أشبه، وهذا أحياناً يعود إلى نفس الفرد أيضاً حين عجزه وضعفه، وإحياناً لا يعود إلى نفسه إلاّ من جهة الضمير والوجدان، ومن جهة أن احترام المجتمع احترام لكل فرد من أفراده، حيث إن التكافل الاجتماعي نوع من احترام الاجتماع والإنسانية، وهذا الاحترام عائد إلى كل فرد فرد.

وهذا وإن أمكن عكسه، بأن يقال بأصالة الاجتماع ويخصص بأمثال هذه المخصصات الأربع، إلاّ أن الفرد أولي والاجتماع ثانوي، فمثالهما مثال القطرة والبحر، ومثال الرملة والصحراء، ولذا فاللازم أن يجعل الفرد أصلاً والاجتماع استثناءً لا العكس.

إشكال وجواب

وبذلك ظهر أن إشكال الاجتماعيين على الفرديين غير وارد، حيث إنهم أشكلوا على الفرديين بأنه:

إن أعطينا الحرية للأفراد سبب ذلك إضرار أنفسهم وغيرهم وجمود الاجتماع، إذ الفرد لا يتمكن من تقديم الاجتماع إلى الأمام، بل الاجتماع المتمثل بالدولة يتمكن من التقديم للاجتماع، وبذلك يتقدم كل فرد فرد، لا أن الاجتماع مكون من أفراد إن تقدم الاجتماع تقدموا، وإن تأخر الاجتماع تأخروا.

بالإضافة إلى أن ذلك يوجب استغلال الأفراد الأثرياء، وهم قلة دائماً، للأفراد الفقراء وهم الذين يشكلون الكثرة دائماً، كما نشاهده في العالم الرأسمالي حيث ملايين الجائعين في قبال ألوف الأثرياء الذين هم يستغلون العمل والعمال والمعمل وكل شيء لأجل مزيد المال وجلب الثروة إلى كيسهم.

ولا ينفع أن يقال: إن العمل يكون بالرضا، فإن العمال يعملون بالمعاقدات ملء رضاهم مع الرأسماليين، حيث إن هذا الرضا إكراهي أجوائي، فإنهم ماذا يعملون لأجل إمرار معاشهم إذا لم يعملوا لأجل الرأسمالي، وهم كالطير في القفص إنه يتحرك فيطير إلاّ أنه في نطاق القفص لا أنه حر يطير كسائر الطيور الخارجة عن القفص حيث تذهب في أجواء السماء وآفاق الأرض.

إذ قد عرفت أن الفردية محدودة بحدود تحل كل هذه المشاكل.

وليس معنى عدم الاجتماعية صحة الفردية الرأسمالية بالمفهوم الغربي، بل تصح الرأسمالية بالمفهوم الإسلامي، كما ذكرناه في (الفقه الاقتصاد) وغيره.

هذا بالإضافة إلى أن النظرية الاجتماعية تنتهي إلى الدكتاتورية حتى يصبح الفرد آلة بسيطة في المعمل، كما هو المشاهد في الدول الشيوعية، فالنظرة الاجتماعية أكثر بطلاناً من النظرية الفردية إذا دار الأمر بينهما، فإن الاجتماعية لا تعطي للعمال لا حرية العمل حتى بقدر إعطاء الفردية لهم، ولا حقهم في الاقتصاد، بل إن الدولة تسلب الناس أموالهم وحرياتهم في وقت واحد.

وحيث إنا ذكرنا تفصيل الكلام في الاقتصاد والسياسية في كتاب (الفقه الاقتصاد) و(فقه السياسة) فلا حاجة إلى التكرار في المقام.

* مقتطف من كتاب الفقه الحقوق للمرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

........................................
(1) سورة البقرة: 279.
(2) سورة العلق: 6ـ 7.

اضف تعليق