q

يلزم أن يتوفر في المدير صفات لها أهميتها في التمكن من إيصال سفينة الإدارة إلی المقصد بسلام، فإن الإدارة أمر ذو شعب، طرف منها المدير، وطرف منها العمال أو من إليهم، كمدير المدرسة حيث إن طرف التلاميذ والمعلّمين، وطرف منها الجوامد كالمصنع أو المدرسة أو ما أشبه ذلك.

فالمدير يلزم عليه مراعاة كل من الطرفين علی حدة، ومراعاة الارتباط بين هذا الطرف وذاك، مثلاً مدير العمل يراعي العمل حيث الرعاية لها شرائطها وخصوصياتها، ويراعي العمال، ويراعي الارتباط بين العمل والعمال، وإلا دخل في حديث رسول الله (صلی الله عليه وآله): (لعن الله من ضيّع من يعول)(1).

فإنه وإن كان بلحاظ لفظ (من) يشمل العنصر الإنساني فقط، إلاّ أن الملاك يوجب التعدي إلی العنصر غير الإنساني.

وفي حديث علي (عليه السلام): (إنكم مسؤولون حتی عن البقاع والبهائم)(2).

و: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(3).

فالحديث في الشمول بالنص للإنسان وبالملاك لما يرتبط به، وحتی إذا لم نقل بالملاك شمله العمومات والإطلاقات.

وعلی أي فاللازم في المدير أن يتصف بالصفات التالية، وكلما ضعفت هذه الصفات فيه كماً أو كيفاً ضعفت الإدارة، والعكس بالعكس، وهي:

قدرة التعبير والبيان

1: أن تكون له القدرة التامة على التعبير عن نفسه تكلماً أو كتابةً، حتى يفضي إلی الطرف بما يريد، فإن الإدارة بحاجة إلی بحر من الإقناع، وكلما كانت الإدارة ‌أهم كان الإقناع محتاجاً إليه أكثر، وبدون ذلك لا يتمكن المدير لا من إقناع رؤسائه، إذا كان له رؤساء، ولا من إقناع مرؤوسيه.

طلب الحق دائماً

2: أن تكون له رغبة في البحث عن الحقائق، واستعداد للعمل بجد وإخلاص وتفان في تأدية الواجب في مختلف أبعاد الإدارة، فإن من يركب رأسه ويتصور أنه علی صواب ينكشف لديه بعد زمان أن الطريق كان موصلاً إلی الفشل.

ومهما كان الإنسان يری صواب نفسه احتاج إلی البحث، أليس كل منا جرب مراراً أنه كان مخطئاً في جهل مركب، ثم بالبحث والفحص ظهر صواب آخر غير الصواب الذي زعمه، فاللازم أن يكون دائم البحث عن المسائل والمشاكل المتنوعة وإيجاد الحلول المناسبة لها.

الاهتمام بالوقت

3: أن يهتم بالوقت اهتماماً بالغاً، فإنه وإن قيل: (إن الوقت من الذهب)، لكن هذا مثال تقريبي، وإلا فالوقت ثالث الأثافي في تقديم الأمم وتأخيرها، فالإنسان والعمل والوقت إن استغلت استغلالاً حسناً أتت بالنتائج المرضية، وإلا كان الحصيل الخيبة والفشل، وقد قال علي (عليه السلام): (انتهزوا الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب)(4).

وفي حديث آخر: (الفرصة كثيرة الفوت، قليلة العود)، إلی غير ذلك.

مدارة الآخرين

4: أن يكون لطيفاً ودوداً محباً للآخرين مدارياً لهم، وفي الحديث عن النبي (صلی الله عليه وآله): (أمرني ربيّ بمداراة الناس كما أمرني بتبليغ الرسالة)(5).

فالرسالة كلها في كفة ومداراة الناس في كفة، نعم إن الرسالة لا تطبق بدون المداراة، فإذا لم يكن للمدير ميل لمدّ اليد إلی الآخرين، ولا يسعهم بأخلاقه، ولا يتمكن من إنشاء العلاقات وإبقائها، ولا يستعد لكسب ودّ الناس وثقتهم، لا بد وأن يعرف أنه يمشي في طريق الفشل، وحتی إذا كان رئيس الدولة أسقطه الناس بالطرق الديمقراطية، إن كان البلد ديمقراطياً (استشاراياً)، وإلا فبالسلاح.

إن الناس إذا لم يرضوا عن التاجر لم يتعاملوا معه، وإذا لم يرضوا عن إمام الجماعة‌ لم يحضروا صلاته، وإذا لم يرضوا عن مرجع التقليد غيّروا تقليدهم، وإذا لم يرضوا عن المدرّس استبدلوه بغيره، وإذا لم يرضوا عن الوزير أو السفير أو المدير سعوا لإسقاطه.

وأخيراً فإنه فرد‌، والناس جماعة، والجماعة تتغلب علی الفرد، وفي الحديث: (يكف عنهم يداً واحدة ويكفون عنه أيادي كثيرة).

والمدير الذي فوقه رئيس أشكل، حيث إن توقعات رؤسائه يناقض توقعات مرؤوسيه، فاللازم أن تكون له مهارة وبراعة في ترضية الطرفين وتقريب وجهات نظرهم، وإلا فالسخط من جانب يوجب سقوطه وإن رضي عنه الطرف الآخر.

الفكر المنظم والعقل البارع

5: أن يكون تفكيره منظماً وعقله بارعاً في تحليل الأشياء وتصنيفها، فإن النظم والتصنيف العقليين أهميتهما أكثر منهما في الأمور المادية، بل الأول في منزلة القائد والثاني في منزلة المقود، ولذا ورد: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)(6).

ثم إن كل ما نراه من آثار الجمال والظرافة في مختلف أبعاد الحياة التي عملها الإنسان، سواء في الحدائق أو الدور أو الشوارع أو المصانع أو الصنائع أو غيرها وغيرها، إنما هي من آثار جمال الفكر ونظام التحليلات الذهنية.

الدقة والعمق

6: أن يكون له ميل طبيعي للإستفسار عن كل ما يحيط به، والتعمق في الإجابات المطروحة في الساحة، فلا يكتفي بالإجابات السريعة التي يأتي بها بادئ الرأي، وذلك لا يكون إلاّ بأن يربي نفسه علی الدقة والعمق والتدبر في جوانب الأشياء، ليظهر له الأقرب فالأقرب إلی الصواب.

قوة التحليل والتطبيق

7: ثم بعد الاستطلاع والاستفسار يأتي دور أن يكون له قدرة علی الاستفادة ‌مما يجمعه من المعلومات، بأن يتمكن من تحليلها وغربلتها واستخراج الصالح منها، وربط بعضها ببعض، وملاحظة الملائمة بين النتائج والأبعاد الأخر.

بعد النظر

8: أن يكون بعيد النظر عند الدارسة، سواء علی الأشياء أو الأفراد، قادراً علی المقايسات الزمنية والعملية، وقد وصف أحد أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الإمام (صلوات الله عليه) بقوله: (كان والله بعيد المدی)(7).

فإذا تمكن من ذلك لا يترك النفع الكثير المستقبلي لنفع قليل حاضر.

قال سبحانه في وصف هكذا أناس: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً)(8).

العدل والإنصاف

9: أن يكون حكمه علی نفسه وعلى الآخرين حكماً متصفاً بالعدل والإنصاف.

قال تعالی: (ولا يجبرمنّكم شنآن قوم علی أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)(9)، فيتصف في أحكامه بالأمانة والنضج والموضوعية والتعقل، وأن يكون بعيداً ‌عن التحيّز والعنف والعاطفية والأحكام العشوائية.

الإيمان بالله

10: وأخيراً أن يكون مؤمناً ‌بالله واليوم الآخر، وإنما ذكرناه أخيراً مع أنه الأوّل، لأن الكلام في شروط الإدارة بصفة عامة، ومن الواضح أن كثيراً من المديرين يحسنون الإدارة بدون الإيمان، وإنما جعلناه شرط الإدارة، لأنا حسب ما نعتقد نرى أن الضمير لا يكمل بدون الإيمان مهما كان ضمير الإنسان نظيفاً نقيّاً محايداً، ‌فهو في نظرنا الشرط الأساسي في الأمر، بينما ليس بنظرهم شرطاً.

إن معرفة ‌الإنسان أن الله رقيب دائم عليه بحيث: (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره)(10)، وأنه يقول في يوم ما: (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً)(11)، توجب أن يعمل أحسن العمل ويتقن أفضل الإتقان، وذلك ما يحتاجه المدير في كل الأحوال.

وفي كلمة للإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) يقول:

(وأما حق الخليط إن لا تغرّه، ولا تغشّه، ولا تُكذّبه، ولا تغفله، ولا تخدعه، ولا تعمل في انتقاضه عمل العدو الذي لا يبقي علی صاحبه، وإن اطمأن إليك استقصيت له علی نفسك، وعلمت أن غبن المسترسل رباً، ولا قوة إلاّ بالله)(12).

والجملة الأخيرة من الكلمة المباركة مأخوذة من كلام رسول الله (صلی الله عليه وآله) في كلمة تروى عنه حيث قال: (غبن المسترسل سحت)(13).

فمن استرسل إلى الإنسان واعتمد عليه فغبنه الإنسان مما أخذ من ماله بسبب هذا الاسترسال كان ذلك المال من أشد أنواع الحرام الذي يسمى في اللغة الإسلامية بالسحت، فإنه وإن كان الغبن مطلقاً حراماً إلاّ أن غبن المسترسل أسوأ، لأنه وثق من الإنسان فبدل ثقته بالعدوان.

* مقتطف من كتاب الفقه الإدارة للمرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

...................................................
(1) انظر الكافي: ج4 ص12 وفيه: (ملعون ملعون من ضيع من يعول).
(2) نهج البلاغة: الخطب 167.
(3) غوالي اللئالي: ج1 ص129.
(4) انظر مستدرك الوسائل: ج12 ص142 ب90 وفيه: (انتهزوا فرص الخير...).
(5) مستدرك الوسائل: ج9 ص35 ب104 تتمة ح 10134.
(6) انظر مستدرك الوسائل: ج11 ص183 ب5 ح12689، وفيه (خير من عبادة سنة).
(7) بحار الأنوار: ج33 ص250 قاله ضرار.
(8) سورة الإنسان: 27.
(9) سورة المائدة: 8.
(10) سورة الزلزلة: 7 ـ 8..
(11) سورة الكهف: 49.
(12) مستدرك الوسائل: ج11 ص164 ب3.
(13) الكافي: ج5 ص153.

اضف تعليق