العلمانية لمن قرأ سياق نشوئها في العالم الغربي سيعرف أنها ردة فعل تجاه التسلط التعسفي للمؤسسة الدينية على حياة الناس، وشرعنتها لسلوك السلطة السياسية الديكتاتوري الجائر والاستئثاري، فجاءت العلمانية كثورة على الفهم الديني الكنسي للحياة، ومن ثم أسست رؤيتها على فصل الدين عن إدارة الحياة، بل عن الحياة ككل، وقصره على الطقوس العبادية بين العبد وربه.

ولكون السياسة هو العنوان الأكثر بروزا وتماسا بحياة الناس، عرّف الإمام الشيرازي العلمانية بأجلى تمظهراتها بقوله "العلمانية: عدم تقيد الدولة بالدين أو فصل الدين عن السياسة"(1)، حيث إن العلمانية تعتمد في رؤيتها ومنهجها العمل على فصل الدين وإقصائه عن الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها من شؤون الناس العامة، وتبعا لذلك إقصاء المؤسسة الدينية عن كل ذلك.

وقد تجلت حقيقة موقف العلمانية من الدين في مواقف رواد العلمانية في عالمنا الإسلامي ومواقف الأنظمة والأحزاب التي اتخذت من العلمانية منهجا في الحياة وفي مقدمتها نظام أتاتورك التركي، وكيف أن تلك العلمانية عملت على إقصاء الدين بحرب تدميرية طالت كل مؤسساته.

ويرى الإمام الشيرازي في ظاهرة تفشي العلمانية في البلاد والمجتمعات الإسلامية أنها ناشئة من عاملين:

العامل الأول: حالة الضعف والانهزامية والاستلاب أمام الغرب.

فقد "استطاع الاستعمار عبر وسائله الخبيثة أن يبث في المسلمين روح الانهزام والإحباط، ويُفهم المسلمين بأنهم غير قادرين على التقدم في الحياة بمفردهم، بل لابد من الاستعانة بالمستعمرين والسير خلف الغرب، وحاول الغرب أن ينشر أفكاره العلمانية" (2).

وبالفعل وفي ظروف حالة الاستلاب والانهزام تلك قام الاستعمار بنشر العلمانية والترويج لها فكريا وثقافيا وإعلاميا، بكل ما أوتي من قوة إلى حد يصفه الإمام الشيرازي بـ "الهجوم الفكري"، مما أدى ذلك الهجوم في ظروف الانهزام تلك إلى التأثير على مجاميع واسعة ومؤثرة في العالم الإسلامي خاصة المثقفين منهم، حيث بدأت تلك المجاميع تتخذ من العلمانية منهجا لها في الحياة بحسب قراءة الإمام الشيرازي لذلك الواقع قائلا "انقسم المسلمون أمام هذا الهجوم الفكري (الغربي) إلى ثلاث جماعات:

الجماعة الأولى: فرقة اتجهت بكليتها إلى حضارة الغرب ومناهج حياته وأساليبه، فقد انحازوا إلى الغرب كليا في المناهج والأنظمة والتطبيقات وسائر الخصوصيات، وبذلك خسروا دنياهم آخرتهم، ودنيا غيرهم وآخرتهم، والعديد من المثقفين عندنا هكذا صنعوا، ولهذا تفشت الحركات العلمانية في المسلمين" (3).

العامل الثاني: الأطماع الاستعمارية ومحاربة الإسلام.

الدولة الإسلامية إلى زمن الدولة العثمانية تمثل إمبراطورية كبرى تستعصي على الانكسار والهزيمة، وكان الإسلام دينها الذي يمثل سر وحدتها وتماسكها رغم تعدد أعراقها وجغرافياتها، مما جعل من قوى الغرب الاستعمارية تتحين الفرص للإطاحة بتلك الإمبراطورية لتبلغ منها مطامعها ولتتفرد بخيرات شعوبها وأقطارها، ومن هنا (تظهر لنا مؤثرات ناجمة عن اتجاه الغرب الاستعماري إلى التوسع على حساب مجتمعات الدول الإسلامية القائمة حالياً، وكذلك على حساب امتداد الدعوة والتبشير الإسلامي الذي يلقى مقاومة منظمة مبرمجة من قبل القوى العلمانية واللادينية الإلحادية وبحماية من القوى الماسونية) (4).

فالعلمانية تمثل حصان طروادة للأطماع الاستعمارية في عالمنا الإسلامي تمكن الاستعمار من خلالها إضافة إلى محاربة الإسلام الاستحواذ على خيرات الشعوب الإسلامية حتى (تحولت تركيا بسبب العلمانية إلى مستعمرة خاضعة للولايات المتحدة بعد أن كانت سيدة الكرة الأرضية)(5)، ليتضح لنا من كل ذلك أن العلمانية تمثل المعول الذي استعمله الاستعمار لتحطيم القوه الإسلامية والأداة التي اتخذها لمحاربة الإسلام والالتزام الديني في العالم الإسلامي، حتى وجدنا كيف أن الاستعمار واليهود عمدوا إلى (تأسيس عصابات ذيلية ترتبط بهم مطلية بصبغة الأحزاب السياسية العلمانية)(6).

الترويج للعلمانية وتسويقها في عالمنا الإسلامي لم يكن إلا أداة لمحاربة الإسلام ووسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية وتحقيق أطماعهم فيها حتى باتت الأمة الإسلامية (ترزح تحت كابوس حكام نزوا على الحكم بلا كفاءات ولا معتقدات إسلامية، وفرضوا على الأمة المسلمة أنظمة مخترعة من مثل القومية أو البعثية أو الشيوعية أو الديمقراطية المزيفة أو العلمانية)(7)، بل (في حقيقتها أسوء من الأنظمة العلمانية، لأنها جمعت بين سيئات القومية وسيئات العلمانية، مضافة عليها الجشع الغريب والجهل الفظيع)(8).

العلمانية بلمعة دينية

يبدو أن العلمانية لم تكد تنتهي دورة حياتها في عالمنا الإسلامي حتى طفقت إلينا راجعة بطور جديد أجريت عليها تحسينات تواكب اتجاه الرأي العام الإسلامي الذي بدأ يلفظ منظومة الاستعمار المستوردة من أحزاب وأنظمة سياسية وقيم وأفكار منحرفة وانحلالية وأبدى تمسكا قويا بدينه وقيمه الإلهية الإسلامية الأصيلة، وبعد أن استنفذ الاستعمار أغراضه من تلك الأنظمة والأحزاب العلمانية في عالمنا الإسلامي وشاهد كيف أن الشعوب الإسلامية عبرت عن سخطها وتذمرها من تلك الأنظمة وأطلقت ثورتها عليها، بعد كل هذا إذا بنا أمام طراز جديد من العلمانية ولكن هذه المرة بلمعة دينية، يقودها متأسلمون قد سبقت لهم موقعية في تيار الحركة الإسلامية، ويحاول هذا التيار الجديد (العلماديني) أن يقدم العلمادينية بطريقتين من طرق العرض والتسويق لعل ثمة من يقع في شراكها:

الأولى: يقدم العلمانية بمقاربة وتأويلات دينية إسلامية لينتهي في القول بأن الإسلام علماني النزعة وان العلمانية ليست ببعيدة عن الرؤية الإسلامية، وقد عالج الإمام الشيرازي الموقف تجاه هذا النحو من السلوك في تسويق العلمانية باسم الإسلام في جوابه على سؤال يقول: هناك من يتحدث عن علمانية الإسلام، فهل يمكن أن نسمح بمقاربة إسلامية علمانية؟

الجواب: الإسلام يختلف عن العلمانية، فالإسلام جاء بحرية الإنسان، واحترام حقوقه بالشكل المطابق لفطرة الإنسان وعقله، لأن ما جاء به الإسلام مستوحى من السماء ومن خالق الإنسان الذي هو اعرف بما يصلح الإنسان مما يفسده، بينما العلمانية وان جاءت بشيء فإنما أتت به من حياكة وصناعة بشر لا يستوعبون تماما ما يصلح الإنسان مما يفسده" (9)، فالعلمانية مهما تقاربت مع الإسلام في بعض الأبعاد إلا أن الجذور والمبادئ الفكرية تختلف تماما مما يفضي بطبيعة الحال إلى نتائج متباينة.

الثانية: يقدم العلمانية باعتبارها مَرْكب الحداثة والعولمة ويسوقها كنظام إنساني يحوي جملة من الحلول السياسية لواقعنا مدعيا اقتصار الاقتباس على النظام دون الأفكار العلمانية، مستغفلا بذلك الناس والبسطاء عن كون المبادئ الفكرية العلمانية لها محورية في بناء هذا النظام وصياغته بما يجعله يؤول لا محالة للاصطدام مع التشريعات والمبادئ الإلهية الإسلامية، ناهيك عن أن الترويج للنظام العلماني في حقيقته إنما يدخل في مساعي عولمة النظام الغربي والأمريكي، وقد تنبه الإمام الشيرازي إلى هذه الحقيقة مبكرا حين قال "يحكم هذا النظام الجديد أو عولمة النظام الأمريكي أيضا العلمانية التي لا تخضع للشرائع الإلهية ولا تلتزم بأحكام دينية"(10).

هذا الطرح الجديد -العلمادينية – في واقعه ناشئ ومنبثق من عدم إيمان رواده بامتلاك الإسلام نظاما لإدارة شؤون الأمة العامة سياسيا واقتصاديا وما شابه بل يرون كل ما صدر من المعصوم أبان حكمه هو مجرد قرارات وإجراءات وقتية زمكانية لا تحمل الديمومة وغير قابلة لاستنباط كليات قانونية ودستورية منها بما فيها أقوال المعصوم وتشريعاته المتعلقة بالشؤون العامة، بيد أن الإمام الشيرازي يعارض هذه المقولة الواهمة قائلا "لاشك أن الإسلام له نظام خاص للحكم وإدارة شؤون المجتمع"(11).

ولكن يبقى السؤال

هل سينجح الغرب والاستعمار في تسويق العلمادينية في المجتمعات الإسلامية أم لا؟

إجابة هذا السؤال رهن بكفاءة الحركة الإسلامية النهضوية في رد هذا الهجوم الفكري الجديد.

.........................................................
المصادر:
1- أجوبة المسائل العلوية – الإمام الشيرازي
2- تحليل الأحداث ضرورة حياتية – الإمام الشيرازي
3- الفقه السلم والسلام – الإمام الشيرازي
4- تسعون مليار نسمة - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
5- الفقه الرأي العام والإعلام - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
6- الصلح مع اليهود استسلام لا سلام - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
7- الحسين مصباح الهدى - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
8- الفقه القانون - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
9- ألف مسألة في بلاد الغرب - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
10- فقه العولمة - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي
12- المسائل الإسلامية (الرسالة العملية) - آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي.
20/ ربيع الأول/ 1436

اضف تعليق