نتوقف على ضفاف هذا البحر الزاخر بالمعرفة متلمسين سطح مياهه قبل الغوص في أعماقه، متأملين في حجم هذا العطاء العلمي وكمية هذا النتاج المعرفي قبل استكشاف أعماقه والكيف المعرفي لهذا البحر الخضم والعلم الشامخ وأول مفردة تستدعي التأمل والتوقف هو ذاك الحجم الهائل في نتاجه...
نحاول في انطلاقتنا هذه أن نتوقف على ضفاف هذا البحر الزاخر بالمعرفة متلمسين سطح مياهه قبل الغوص في أعماقه، متأملين في حجم هذا العطاء العلمي وكمية هذا النتاج المعرفي قبل استكشاف أعماقه والكيف المعرفي لهذا البحر الخضم والعلم الشامخ.
وأول مفردة تستدعي التأمل والتوقف هو ذاك الحجم الهائل في نتاجه المعرفي ومؤلفاته وتصانيفه الذي تجاوز الـ "1500" كتاب في نواحي مختلفة من العلوم والمعارف من الدين والسياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد واللغة العربية وآدابها وغيرها من المواضيع النهضوية والإرشادية، تضمنت أكثر من عشرين سلسلة وموسوعة وفي مقدمتها موسوعته الفقهية والتي تجاوزت ال "160" مجلدا.
لقد أبهر هذا العطاء المعرفي الزاخر كل من اطلع عليه من المنصفين حتى قال أحدهم وهو بروفيسور كبير وثقة المرجعية بالنجف الأشرف عندما تحدث عن الأمام الشيرازي في كتابه (قادة الفكر الديني والسياسي في النجف الأشرف) يصفه قائلا: ظاهرة فريدة في البحث والتأليف والنشر.
لذا حق لإمامنا الشيرازي قدس سره أن يتبوأ عرش "سلطان المؤلفين" وبجدارة.
بعيدا الآن عن التقييم المعرفي لهذا النتاج، فإن مجرد هذا الكم الهائل من التصانيف والمؤلفات لمؤلف واحد فقط، يحكي جملة من الدلالات التي ينبغي الالتفات لها، والتي منها:
1) أن هذا الكم يحكي عن شخصية منشغلة بالمجال المعرفي انشغالا بلغ حد الاستغراق والانهماك الذي استولى على جوانب وتفاصيل حياته، وهذه الميزة لا تجدها الا في الشخصيات العلمية حقا، بل في الشخصيات التي ذابت في المعرفة وعشقتها، ففي كتابه كفاحنا يؤكد لنا هذه الحقيقة وهو يتحدث عن نفسه قائلا: "لا أظن ان التفكير يفارقني ساعة، بل أحيانا أضع القلم والورق عند رأسي وقت النوم، فإذا وصلت إلى شعر أو فكرة أو ما أشبه أكتبه وأنا مستلق في حالة ظلمة الغرفة بملكة اليد"، بل ولشدة ولعه بالمعرفة كان يختصر وقت غدائه حتى أنه أحيانا وكما يصف: "آكل وأنا مشغول بالتأليف أو المطالعة "فكان النموذج الأوضح والأبرز للمقولة الشهيرة التي طالما ساقها وهو يحثنا على العلم والمعرفة "اعط العلم كلك يعطك بعضه".
2) يحكي هذا الكم الهائل من المؤلفات عن سعة اطلاع المؤلف ونمط قراءته وقوة استلهامه.
لا تجد كاتبا يشتغل بمعالجة موضوع ما ليتناول جوانبه بشكل صحيح الا ويكون قبلها قد انجز جملة خطوات، منها:
1- ان يكون قد طالع مجموعة من المصادر والكتب المتعلقة بالموضوع محل المعالجة لأنه وكما ذكروا "القراءة ضرورة تحقيقية انتاجية" إذ لا يتمكن ان يكتب من فراغ وبلا اطلاع' وهذا مايعرف بـ"القراءة المرجعية" وقد صنفوها بأنها "الأكثر فعالية والاكثر جهدا"
2- ان يكون قد تمكن من فهم واستيعاب الموضوع محل البحث والمعالجة واطلع على جوانبه واﻵراء فيه.
3- ان يكون قد تمكن من صياغة رؤية وموقف معرفي حول الموضوع محل البحث، وهذا بذاته يعد شكلا متقدما ورفيعا من أشكال التلقي وهو "التلقي النقدي".
وبعد أن يمر بهذه المقدمات حينها يمكنه أن يتناول الفكرة او الموضوع بالبحث والكتابة، ويدون فيها رأيه وموقفه المعرفي، وهذا مايطلق عليه اليوم بـ"الكتابة الإبداعية"، خاصة إذا ماعلمنا أن مؤلفات سماحته ليست كتبا تجميعية بل كتب تعالج قضايا وتقدم رؤية وتطرح أفكار وتناقش مسائل معرفية.
ما أوضحناه يعطينا لمحة بسيطة عن شخصية هذا المؤلف المعرفية وطبيعة قراءته ومطالعاته التي تجاوزت القراءة السطحية والتبعية بمراحل ليصبح نموذج ومثال للقارئ الناقد والمتفحص، فضلا عن انه نموذج للقارئ المنتج والفاعل في صناعة وحركة الدورة المعرفية، وليس قارئا ترفيا يقرأ للترفيه والاستمتاع والترف الفكري.
كما يوضح أيضا بأن هذا الكم الهائل من المؤلفات صنعته قراءة لأضعاف مضاعفة من الكتب تمكن ذهنه الوقاد من التهامها كما عبر بذلك وهو يتحدث عن طبيعة قراءته ومطالعته قائلا: "المطالعة الدائمة وأحيانا التهم كتابا ذا مائة صفحة في بعض ساعات".
بعد كل ذلك لك أن تتخيل كم كتابا قرأ لينتج لنا هذا البحر الزاخر من المعرفة.
ولك أيضا أن تتخيل كم وقتا أمضاه من عمره، فقط للقراءة والمطالعة، فضلا عن وقته الذي أمضاه في البحث والكتابة ليصنع لنا هذا الإنجاز الأسطوري الذي حق له أن يدخل موسوعة "جينيس" للارقام القياسية.
3) كلما تضاعف اشتغال الانسان بالمجال المعرفي، وزاد تلقيه واستيعابه للأفكار كما ونوعا، كلما صقل ذلك فكره ونمى عقله وأبعد شخصيته ونمط تفكيره عن الأوهام والخرافات والعواطف والانفعالات، لتصبح شخصية أكثر موضوعية وعلمية في تناولها للقضايا بالبحث والمعالجة، وهذا النحو من السلوك المعرفي هو مايجعل مثل هذه الشخصيات أكثر قربا للحقائق من غيرها.
من هنا نعلم كيف أن من يرمي مدرسة الإمام الشيرازي بالخرافة، إما هو جاهل لم يطلع على نتاجه المعرفي، وإما متحامل قد فضح بادعاءاته زيف موضوعيته، وكشف عن سوءته وسوء سريرته، أجارنا الله وإياكم من كل غل وحقد وفجور في الخصومة.
ولأولئك الذين يدعون الإنصاف والموضوعية نقول:
ألا تستحق هكذا شخصية أفنت عمرها في العلم والمعرفة أن نقف لها موقف إكبار وإجلال بدلا من موقف التسقيط وإشهار الحراب؟!
إن مجرد بذل هذا الجهد وهذا الوقت في المحاولة والسعي لتقديم إضافة في الساحة المعرفية بحد ذاته مدعاة للتعظيم والإجلال في الأمم المتقدمة، فما بالك إذا كانت هذه الجهود أثمرت عن حراك معرفي واجتماعي لفتت عقول الباحثين السياسيين والاجتماعيين والثقافيين، وجعلتهم يتناولون هذه الشخصية ونتاجاتها بالبحث والدراسة في أكثر من ثلاثين دراسة جامعية وغير جامعية مطبوعة حتى الآن.
حتى لو لم ترتضي مقولاته وآراءه فليس هذا مبرر للسلوك التسقيطي تجاه هذه الشخصية العملاقة، فكم حدثنا التاريخ عن شخصيات علمية خاصمها العلماء معرفيا وأسقطوا مقولاتها إلا أنهم في الوقت ذاته أعظموا شأنها ولم يتنكروا لإسهاماتها المعرفية.
من هنا يتبين لنا أن كل أصوات النشاز التي تنال من هذا الطود الشامخ إنما تحركها الندية والخصومة، لا الإنصاف والموضوعية التي طالما تدثروا بها وتصنعوها ليوهمونا.
4) الإرادة الصلبة والهمة العالية والأهداف الطموحة.
إن صناعة هذا الكم الهائل من المصنفات والمؤلفات لاشك تكمن وراءه همة عالية ومتوهجة لا تعرف الراحة أو السكون وإرادة صلبة لا تعرف الكلل ولا الملل، حتى لا تجدها تفوت على نفسها لحظة من حياتها دون أن توظفها في هذا المشروع العملاق مطالعة وتفكرا وكتابة، وقد اوضح لنا هذه الحقيقة في كتابه "كفاحنا" عندما أجاب على تساؤل: كيف تمكنت من إنجاز هذه الأعمال؟ قائلا: (..... 4- الاستطلاع الدائم على مختلف العلوم والأوضاع. 5- المطالعة الدائمة السريعة. 6- الاهتمام بالوقت حتى لا أضيع ولو دقيقة).
قد يصادف أن تجد عشاقا للمعرفة يلتهمون الكتب قراءة لكن ليس بالضرورة تجدهم يعكفون على الكتابة والتأليف، إما لعدم رغبة أو همة وطموح، وإما لعدم إيمان بضرورة الكتابة، وإما لعدم قدرة أو غيرها، أو تجد من يهتم بالكتابة والتأليف لكن صروف الدهر وشواغل الحياة تعيقهم عن الاكمال او المواصلة، ولكن هناك صنف آخر ومنهم الإمام الشيرازي قدس سره حملوا همة عالية وارادة صلبة جعلتهم يقهرون كل الظروف والمعوقات، فمنهم من الف كتبه وهو في ضيق السجون وعذابها، ومنهم من لم يثنه وعثاء السفر من ان يؤلف كتابا وهو في طريق سفره، ومنهم من الف كتابه وهو على فراش مرضه، أما إمامنا الشيرازي وأعجوبة عصره في التأليف فقد ألف ثلاثين كتابا في أقل من ستة شهور فقط، أحدها كتابه " تبيين القرآن" وهو في ظروف حالكة وعصيبة حيث محنة الاختفاء وقلق المطاردة أبان الحكم البعثي عندما اعتقل أخيه الشهيد السيد حسن الشيرازي قدس سره وثلة من مريديه، مما يؤكد لنا أن صاحب هذا الانجاز لا تنال من عزيمته وإرادته مايمر به من ظروف ولا تعيقه المحن والصعاب.
الإمام الشيرازي قدس سره كغيره من البشر تلم به الظروف والظروف العصيبة أيضا إلا أننا نجد نتاجه المعرفي لا يتوقف في مختلف الظروف مما يؤكد أن وراء هذا الإنجاز ليس مجرد معرفة وحسب بل تكمن وراء ذلك همة وطموح وإرادة تلامس عنان السماء.
كما أن من يعكف على صناعة هذا الانتاج المعرفي الضخم برغم الظروف لاشك أنه يحمل أهدافا يرمي وراء ذلك الى تحقيقها، بل يحمل أهدافا كبيرة إلى حد أطلقت فيه طاقة جبارة حركته لصناعة هذا الإنجاز المهول، هذه الطاقة التي جعلته ملهما لكثيرين من مريديه وتلامذته ليكونوا كتابا أيضا، فهو الذي لا يفتأ يحرك هممهم للكتابة بوصيته الشهيرة التي نستمعها منه كلما زرناه قائلا: قووا أقلامكم.
مادوناه هنا هو بعض مايمكن أن يتلمسه بوضوح كل منصف رفع عن قلبه الغشاوة وتأمل رويا في هذا الإنجاز المعرفي الكبير.
اضف تعليق