من الضروري استثمار الإنسان لشهر رمضان، لاسيما في قضية تطوير المنظومة الأخلاقية، على الصعيد الفردي والجمعي في نفس الوقت، فالأمر المحسوم في مسألة تقدم وارتقاء الأفراد والمجتمعات ثبت قطعيًّا أنها مرتبطة بالأخلاق، لذا يجب عدم فقدانها، أو السماح بضعفها وتراجعها وهذا يتطلب مجموعة من الخطوات...

(صاحب الاخلاق السيئة ينفر منه الناس ويبتعدون عنه،

ويفشل في كل خطوة يخطوها داخل المجتمع) الإمام الشيرازي

قد لا يعي بعض الناس ذلك الثقل العظيم الذي تتميز به الأخلاق في بناء الأمم والأفراد، وهناك من يظن أن الأموال هي السبب الأول في تطوير وتحسين البناء الفردي والجمعي، ومنهم من يظن أن القوة تبني الأمم والأفراد، ولكن سجلات التاريخ والتجارب الموثّقة تضع الأخلاق في مقدمة أسباب بناء الأمم والأفراد.

فإن أردتَ أن تتقدم على الآخرين، سواء أقرانك أو غيرهم، عليك أن تكون ذا أخلاق عالية، وإن حاولت أن ترتقي بمجتمعك، ما عليك إلا أن تنشر القيم الأخلاقية الجيدة في هذا المجتمع، لا المال، ولا القوة، ولا الخداع، ولا النزاعات يمكن أن تنهض بالأمم والدول والأفراد، الأخلاق هي التي يمكنها أن تقوم بهذا الدور الكبير.

لا قيمة للإنسان بلا أخلاق، ولا قيمة لأية أمة بلا أخلاق، فإن انعدمت الاخلاق ينعدم وجود الفرد والأمة معا، وهذا ما يذكره الشاعر الذي يقول:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا 

هذا التأكيد على عظمة الأخلاق يؤكده القرآن الكريم الذي يصف النبي صلى الله عليه وآله (إنك لعلى خلقٍ عظيم)، ولم يصفه بالشجاعة مثلا أو بالصفات الأخر الكبيرة مثل الكرم والعدل وسواه، لذا فإن الأخلاق تحتل المركز الأول في مسألة التقييم والتفضيل.

كذلك لابد أن يعرف الإنسان الذي يعاني من أخلاقه السيئة، لا يمكنه تغيير هذه الأخلاق متى ما شاء ذلك، لأن الأمر في غاية الصعوبة.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم: (من الخطأ ان يفكر سيء الخُلق بأنه يستطيع في أيّة لحظة ان يُحسّن أخلاقه إذا اراد ذلك!!).

كما أن الفرد عندما يعتاد على السلوكيات المعيبة، فإنه لا يرى فيها شيئا مخلّا بشخصه، كما أنه لا يستطيع تغيير أخلاقه الرديئة، لأنها نبتت في شخصيته مبكرا، ونمت وكبرت معه، لذا من الصعب عليه أن يقتلع سوء الأخلاق من تربة نفسه وحتى عقله، لأن الأخير يعتاد على الأخلاق المعيبة التي يتميز بها صاحبه، فتعوَّد عليها لدرجة الثبات والرسوخ فيه.

الإصرار على اقتلاع الأخلاق السيئة

أما قضية الخلاص من الأخلاق السيئة فهي في الحقيقة معاناة كبيرة، لأن هذا الأمر يتعلق بالنفس، وتدريبها وتعويدها، ومن يريد أن يقتلع الأخلاق السيئة، لابد أن يدرّب نفسه على ذلك، وهذا يحتاج إلى برنامج نفسي تطبيقي شاق جدا. 

يقول الإمام الشيرازي:

(من شبّ على شيء شاب عليه، فإن الاخلاق السيئة التي تتكرر عدة مرات تتحول إلى عادة وتتأصل في النفس، فيصبح من الصعب جداً قلعها إلاّ بعد جهدٍ ورياضة نفسية عالية).

لماذا يعد شهر رمضان من الفرص النادرة والمهمة، إن لم يكن أهمها جميعا في مساعدة الإنسان على التخلص من الأخلاق السيئة؟

في هذا الشهر من الممكن فعلا للإنسان، وحتى المجتمع، أن يقلل من سوء الأخلاق تدريجيا، ليصل إلى نتائج فعالة في هذا المجال، حيث يكد الإمام الشيرازي قائلا:

(هناك صفات سيئة يجب أن يتخلص منها الإنسان، وشهر رمضان فرصة جيدا جدا لتحقيق هذا الهدف، وهنا خطوات عديدة ينبغي القيام بها لكي يفلح الإنسان في تنقية نفسه وسلوكياته وأخلاقه من الصفات الرديئة). 

تُرى ما هي هذه الخطوات؟، هناك حالة موجودة عند الإنسان، حيث يستبق حدوث الخير ويتمناه وتسمى هذه الحالة بالتفاؤل، لذا قيل (تفاءلوا بالخير تجدوه)، فالإنسان حتما يفكر بالنتائج التي يحصل عليها إذا اعتمد الأخلاق الحسنة في تعاملاته مع الآخرين، إنه لابد يفكر باحترام الناس له إذا كان خلوقًا، وأنه سوف يكون إنسانا محبوبا وناجحا في الدنيا، بالإضافة إلى النتائج الكبيرة التي تنتظره في الآخرة.

يقول الإمام الشيرازي من هذه الخطوات: (التذكر الدائم بنتائج الاخلاق الحميدة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يكون صاحب الاخلاق انساناً محترماً ناجحاً في المجتمع، محبوباً لدى الناس، وفي الآخرة يكون مصيره الجنة حيث الخلود والراحة الأبدية، اما صاحب الاخلاق السيئة فيكون على العكس ينفر منه الناس ويبتعدون عنه، ويفشل في كل خطوة يخطوها داخل المجتمع، وفي الآخرة يكون مصيره نار جهنم حيث العذاب الأبدي).

كذلك يوفر شهر رمضان فرصا كبيرة للاطلاع وأجواء القراءة، وزيادة المعرفة، لذا على الصائم أن يستفيد من قصص أصحاب الأخلاق العالية، ومن الحكم القوية والنبيلة التي ترافق حياتهم ومواقفهم دائما.

غالبا ما يكون صاحب الأخلاق الرفيعة ناجحا، في مقابل ذلك غالبا ما يكون مفتقِد الأخلاق فاشلا ومكروها ومطرودا من محبة المجتمع، وهذه القضية محسومة ولا تحتاج إلى إثباتات.

من هنا ينبّه الإمام الشيرازي قائلا:

على الصائم أن يستثمر وقته ويبدأ في (مطالعة قصص ذوي الاخلاق الحميدة الذين نجحوا في الحياة بسبب اخلاقهم، ومطالعة من هم على العكس ممّن أخفقوا في حياتهم بسبب أخلاقهم السيئة).

فرصة لترميم الانحلال الأخلاقي

وهناك خطوة في غاية الأهمية لابد أن يُظهرها الصائم في أقواله وسلوكياته، وفي جلساته مع الآخرين، وحواراته، تلك الخطوة تتعلق بقضية الإيحاء، فالإنسان يجب أن يوحي للآخرين (الأقران، الزملاء، الأصدقاء، وكل الناس)، عليه أن يوحي لهم بأنه يتمسك بالأخلاق بقوة وجدية، وأنه ينبذ أي سلوك أو تصرف أو تفكير لا يستند إلى الأخلاق.

الإيحاء كما يصفه أهل المعرفة والإبحار في معاني المفردات المهمة، يوصف بأنه ذو تأثير كبير على الآخرين، فصاحب الشخصية القوية يمكنه أن يوحي للآخرين بقوة شخصية، وصاحب الذكاء كذلك، لذا من الممكن جدا لصاحب الأخلاق أن يوحي بها للآخرين.

شهر رمضان تكثر فيه اللقاءات والحوارات، وتتضاعف فيه المجالس الخطابية والثقافية والمعرفية، وغالبا ما تحدث نقاشات كثيرة ومهما، يجب على كل فرد أن يستثمر ذلك ويوحي للجميع بأنه متمسك بالأخلاق الجيدة وينبذ الرديئة، بالطبع ليس من باب التفاخر والتظاهر.

لذا ينضح الإمام الشيرازي الشخص الصائم بالقول:

(عليه الإيحاء الدائم بأنه يريد ان يكون انساناً خلوقاً وانه يريد نبذ الاخلاق السيئة. فللإيحاء دورٌ كبير في ربط الإنسان المسلم بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة).

من الخطوات المهمة والفعالة في قضية تنمية منظومة الأخلاق لدى الفرد والمجتمع، هي حالة معايشة ذوي الأخلاق بعضهم مع بعض، وتجنّب تقريب أو مصاحبة اصحاب الأخلاق الرديئة، فالإنسان في الحقيقة معرَّض للتأثّر بأخلاق وأفكار وسلوكيات الآخرين، لهذا لابد من تجنب حامل الأخلاق السيئة حتى لا يصاب بعدواها.

بل عليه أن يصر على مصاحبة ذوي الأخلاق الرصينة، فهو أيضا معرَّض للتأثّر بها، ولكن أهلا بمثل هذا التأثير لأنه ذو نتائج إيجابية، لهذا من الأفضل، بل من اللازم مصاحبة من يحمل الأخلاق العالية كي يتعلم منه الجديد في المنظومة الأخلاقية.

يقول الإمام الشيرازي: من الأفضل (معايشة ذوي الاخلاق الحميدة وعدم التقرّب من ذوي الاخلاق السيئة).

خلاصة هذه الكلمة تركز على أهمية استثمار الإنسان لشهر رمضان، لاسيما في قضية تطوير المنظومة الأخلاقية، على الصعيد الفردي والجمعي في نفس الوقت، فالأمر المحسوم في مسألة تقدم وارتقاء الأفراد والمجتمعات ثبت قطعيًّا أنها مرتبطة بالأخلاق، لذا يجب عدم فقدانها، أو السماح بضعفها وتراجعها، الواجب اعتماد الخطوات المذكورة في أعلاه حتى يضمن المسلمون والأخيار من الأديان الأخرى منظومة أخلاقية عالمية تنقذهم جميعا.

اضف تعليق