إذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام ويحثّ عليه، فالإسلام يريد للفرد وللأمة وللمجتمع أن يكون مسلماً صالحاً بتمام معنى الكلمة: مسلماً للّه تعالى، لرسول اللّه، لأهل بيت الرسول، مع نفسه وأسرته...
الأمم وما تكتسبه
قال اللّه العظيم في كتابه الكريم: (تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ)(1).
كل أمة رهينة بأعمالها، ولا تُؤخذ أمة بأمة أخرى، نعم على كل أمة أن تعتبر من سائر الأمم وتستفيد من تجاربها.
وهذه الآية الكريمة تبين لأمة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قاعدة مهمة في الحياة، وهي أن الأمم مرهونة بأعمالها في تقدمها أو تأخرها، فالمهم عمل كل أمة بنفسها، ولا يمكن ـ عادة ـ لأمة أن تتطور بأعمال الأمم الأخرى أو تتأخر بها، لأن الأمم السابقة قد ذهبت وفنت....
(تِلۡكَ) أي: إبراهيم (عليه السلام) وأولاده (أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ) أي: ذهبت ومضت (لَهَا مَا كَسَبَتۡ) فإن أعمالها ترتبط بها لا بكم (وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ) فإن أعمالكم ترتبط بكم لا بهم(2).
وهكذا تكون كل أمة مسؤولة عن نفسها، إليها يرجع ما عملته وما كسبته من برّ وخير، وعليها يعود ما اقترفته وما جنته من ظلم وشر.
ومن المعلوم: أن الأمة تتشكل من الأفراد، وإذا أردنا الحصول على مجتمع إسلامي صالح وأمة مؤمنة متقدمة، فعلينا بإصلاح الفرد أولاً، فإن الأمم تُقاس بشخصياتها العلمية وكذلك السياسية، وهكذا الاقتصادية والاجتماعية منهم، مضافاً إلى سائر الأفراد، كل بحسبه، فإنهم الذين يعكسون قيمة الأمة بما يعلمونه ويعملونه ويكسبونه، أو ما يجنونه ويقترفونه، ويصبغون بتلك الصبغة ظاهرة الأمة، فتتميز الأمة بذلك العنوان.
وعليه: فإذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام ويحثّ عليه، فالإسلام يريد للفرد وللأمة وللمجتمع أن يكون مسلماً صالحاً بتمام معنى الكلمة:
مسلماً للّه تعالى، مسلماً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، مسلماً لأهل بيت الرسول (عليهم السلام)، مسلماً مع نفسه وأسرته، ومجتمعه وأمته، مسلماً في عمله ونشاطه، وأمله وطموحه، ومسلماً في جميع أموره وأحواله، ومسلماً في سيرته وحياته بجميع تفاصيلها. وقد نبغ في هذا المجال أفراد كثيرون فتقدموا وتقدم مجتمعهم وتقدمت أمتهم.
من هو المسلم؟
إذا عرفنا أن قوام المجتمع الإسلامي هو الفرد المسلم، علينا أن نعرف خصوصيات المسلم، وكيف يكون الإنسان مسلماً حقيقياً صالحاً، فيصلح المجتمع بصلاحه؟
إن المسلم معروف وموصوف في الآيات الكريمة وكلمات النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)....
فهو: كما قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»(3).
وهو: «أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه».(4)
و: «المسلم مرآة لأخيه»(5).
وهو: «... لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»(6).
والإسلام الذي يتصف به المسلم هو كما قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «... الإسلام عريان، ولباسه التقوى، وشعاره الهدى، ودثاره الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل الصالح، ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(7).
أما المسلمون كجماعة ومجتمع، فصفاتهم وسماتهم كما قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله):
«... إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»(8).
وهم: «مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى...»(9).
وكما قال (صلى الله عليه وآله): «ينبغي للمسلمين أن ينصح بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم بعضاً، فإنما هم كمثل العضو من الجسد إذا اشتكى تداعى الجسد بالسهر»(10).
وقال (صلى الله عليه وآله): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(11).
وكما وصف الإسلام والمسلمين أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين شروطهما حيث قال: «أفضل المسلمين إسلاماً من كان همّه لأخراه، واعتدل خوفه ورجاه»(12).
وقال (عليه السلام): «أحسن الناس ذماماً أحسنهم إسلاماً»(13).
وقال (عليه السلام): «قواعد الإسلام سبعة: فأولها العقل وعليه بُني الصبر، والثاني: صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة: تلاوة القرآن على جهته، والرابعة: الحب في اللّه والبغض في اللّه، والخامسة: حق آل محمد (عليهم السلام) ومعرفة ولايتهم، والسادسة: حق الإخوان والمحاماة عليهم، والسابعة: مجاورة الناس بالحسنى...»(14).
وقال (عليه السلام): «جانبوا الخيانة، فإنها مجانبة الإسلام»(15).
وقال (عليه السلام): «من أعان على مسلم فقد برئ من الإسلام»(16).
إلى غيرها مما ورد في صفة المسلم والمسلمين، سلباً وإيجاباً، وجوداً وعدماً.
وهكذا يمكن للفرد المسلم أن يكون صالحاً، ويتم بذلك السعي نحو مجتمع إسلامي راق.
نماذج من القادة الصالحين
نبغت في الأمة الإسلامية شخصيات كبيرة وبرزت قادة صالحون تركوا من الآثار الطيبة التي ظلت تفتخر بها الأجيال بعد مئات السنين، وقد سعوا نحو مجتمع صالح إسلامي، بعد ما تربوا في كنف الإسلام وفي ظل تعاليمه الراقية، في مدرسة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام).
وهؤلاء رجال أبطال وشخصيات فذة، بذلوا أعمارهم، وصرفوا طاقاتهم، من أجل بناء مجتمع إسلامي متقدم، وأمة إسلامية صالحة مزدهرة، وسيبقى ذكرهم على مرّ الدهور والأعصار، ومن جملة أولئك الرجال:
الشيخ الكليني (رحمه الله)
الشيخ محمد بن يعقوب المعروف بالشيخ الكليني (رحمه الله) صاحب كتاب (أصول الكافي وفروعه)، وقد صرف على هذا الكتاب القيم الذي هو حصيلة عمره وأصبح يُعرف به، عشرين سنة. ويحتوي الكتاب على مجموعة كبيرة من الروايات الشريفة في أصول الدين وفروعه، مروية عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام). وقد كتبه الكليني (رحمه الله) بعد أن جاب المدن والقرى وتقلب في أرجاء العالم الإسلامي، والتقى برواة الحديث وأخذ منهم، كما التقى أيضاً بالنواب الخاصين للإمام الحجة المنتظر#. فكان الكتاب الذي ضم بين دفتيه الكثير من العلوم والمعارف الإسلامية المروية عن أهل البيت (عليهم السلام).
الشيخ الصدوق (رحمه الله)
ومن جملة أولئك الرجال الصالحين، الذين صلحوا وأصلحوا المجتمع: الشيخ محمد بن علي بن بايويه القمي (رحمه الله)، المعروف بالشيخ الصدوق، صاحب الكتب الكثيرة، وفي طليعتها: كتاب (من لايحضره الفقيه) فكان حصيلة عمره أكثر من ثلاثمائة كتاب قدمها خدمة للمجتمع الإسلامي وإصلاحه، وساهمت تلك الكتب القيمة في تقدم الأمة الإسلامية وازدهارها مادياً ومعنوياً، وقد ورد في المأثور ما يشير إلى ذلك حيث روي عن الأئمة (عليهم السلام): «لولا القميون لضاع الدين»(17).
وقد ذكر العلماء لهذا الشيخ الجليل كرامات عديدة، من جملة كراماته: أنه ظهر في مرقده الشريف الواقع في رباع مدينة الري ثلمة وانشقاق من طغيان المطر، فلما فتشوها وتتبعوها بقصد إصلاح ذلك الموضع بلغوا إلى سردابة فيها مدفنه الشريف، فلما دخلوها وجدوا جثته الشريفة هناك مسجاة عارية غير بادية العورة، جسيمة وسيمة، على أظفارها أثر الخضاب، وفي أطرافها أشباه الفتائل من أخياط كفنه البالية على وجه التراب، فشاع هذا الخبر في مدينة طهران إلى أن وصل إلى سمع السلطان فتح علي القاجاري(18)، فحضر السلطان هناك بنفسه، وأرسل جماعة من أعيان البلدة وعلمائهم إلى داخل تلك السردابة فأخبروه بأجمعهم بهذه الكرامة، إلى أن انتهى الأمر عنده من كثرة من دخل وأخبر إلى مرحلة عين اليقين، فأمر بسد تلك الثلمة وتجديد عمارة تلك البقعة وتزيين الروضة بأحسن التزيين.
ونقل عن أحد المؤمنين أنه قال: خرجت في بعض الأيام السابقة قاصداً زيارة مرقد الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي (رحمه الله). فلما حضرت عند مرقده الشريف رأيت عملة مشتغلين بحفر الأرض لتأسيس أساس البناء الجديد عليه لاندراس البناء القديم، فبينما كنت أترحم له وأنظر إليهم؛ إذ ظهر جسده الطيب الطاهر في فجوة من قبره مكشوفاً وجهه إلى صدره، فنظرنا إليه فوجدناه متلئلئاً رطباً طرياً، في لحيته الشريفة أثر الخضاب كأنما دُفن من حين، فعجبنا كل العجب، وأقبل الحاضرون بالسلام والصلاة عليه، وأمر المتصدي لإقامة البناء وهو أحد العلماء والسادات بسد القبر وتأسيس أساس البناء، فتفرقنا معتقدين بعظم شأن الصدوق وجلالة مقامه ومنزلته عند اللّه تعالى.
الشيخ الطوسي (رحمه الله)
ومن جملة أولئك الرجال العظماء: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله) المعروف بشيخ الطائفة، صاحب كتابي: (تهذيب الأحكام) الشهير باسم (التهذيب) و(الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) الشهير بـ(الاستبصار) وغيرهما من الكتب الكثيرة والمفيدة، حيث كانت تلك الكتب وفي مقدمتها: (التهذيب) و(الاستبصار)، حصيلة عمره الذي صرفه من أجل تقدم المجتمع الإسلامي وإصلاحه، وازدهار الأمة الأسلامية، وكانت بالفعل كذلك.
الشيخ الأنصاري (رحمه الله)
ومن جملة أولئك الرجال: الشيخ مرتضى (رحمه الله) المعروف بالشيخ الأنصاري، صاحب كتابي: (المكاسب) في الفقه، و(فرائد الأصول) المشهور بـ(الرسائل)، وهذان الكتابان من أهم آثاره الشريفة التي خدم بهما الجامعات العلمية والكليات الفقهية والأصولية في العالم الإسلامي، وهما حصيلة عمره الذي استنفده في سبيل اللّه تعالى لإنارة المجتمع الإسلامي، وتقدّم الأمة الإسلامية، ولذلك صار يعرف بهما. وعلى الرغم من المكانة السامية التي وصل إليها في المرجعية العامة، إلّا أنه عاش مواسياً الفقراء، حريصاً على مساعدة المعوزين والمساكين من كل ما يصله من الحقوق الشرعية، وكان (رحمه الله) قمة في التقوى والأخلاق والفضائل والكمالات، لا يحب الظهور والمباهاة، باذلاً وسعه في تحصيل الكمالات الروحية. فكان من أبرز صفاته الزهد والورع والتواضع إلى أقصى حد.
وقد نُقل عن الشيخ الأنصاري (رحمه الله) أنه كان يقول: ثلاثة أشياء ينبغي للإنسان وخاصّة رجال الدين الاهتمام بها؛ وذلك بأن يأخذ أولها ولو كان في ابتداء الأمر غير جامع للشرائط، وأن يترك ثانيها ولو كان جامعاً للشرائط، وأن يأخذ بثالثها إذا كان جامعاً للشرائط ويتركه إذا كان فاقداً للشرائط.
أمّا الأوّل: فهو العلم، فإنّه ينبغي للإنسان أن يطلب العلم ويتعلّمه ولو لم يكن في أول الأمر قصده اللّه تعالى والتقرّب إليه؛ وذلك لأنّ العلم بالأخرة يجرّه إلى اللّه تعالى.
وأمّا الثاني: فهو القضاء بين الناس، فإنّ القاضي مشكل أمره وإن كان عدلاً فقيهاً، لأنّه كثيراً ما يُجر الإنسان إلى الحكم بخلاف الحقّ من دون علمه واختياره.
وأمّا الثالث: فهو إمامة صلاة الجماعة، فإن كان عادلاً أقدم عليها، وإلّا تركها.
وبهذا الكلام المتين قد أشار الشيخ الأنصاري (رحمه الله) إلى خطورة منصب القضاء، ولزوم أن يحتاط القاضي في الحكم أشدّ الإحتياط.
حصيلة عمر العظماء
لقد كان ـ كما ذكرنا ـ حصيلة عمر الشيخ الكليني (رحمه الله): كتاب (الكافي) بأصوله وفروعه، وكان حصيلة عمر الشيخ الصدوق (رحمه الله): كتاب (من لا يحضره الفقيه) وسائر مؤلفاته القيمة، وكان حصيلة عمر الشيخ الطوسي (رحمه الله): كتابي (التهذيب) و(الاستبصار) وغيرهما من المؤلفات، وكان حصيلة عمر الشيخ الأنصاري (رحمه الله): كتابي (المكاسب) و(فرائد الأصول) المعروف بالرسائل وغيرهما من المصنفات المفيدة، هذا مضافاً إلى دورهم في إصلاح المجتمع الإسلامي وتطويره.
وهكذا كان حصيلة عمر أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) المؤمنين وأصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من أمثال: سلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد (رضوان اللّه عليهم) فقاموا بترسيخ سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وسيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التي كانت امتداداً لسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) في المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، مقابل حصيلة عمر الآخرين في الجانب المقابل من المنافقين وغاصبي حق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافته وحق السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحق ابنيها: الحسن والحسين (عليهما السلام) من: تهميش سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وسيرة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) وإعادة سيرة الجاهليين من: ظلم وجور وخوف وقتل، وعنف وإرهاب، في المجتمع الإسلامي، والأمة الإسلامية، كما نرى آثار تلك الجاهلية قد امتدت إلى بعض المجتمعات الإسلامية حتى يومنا هذا.
فالقادة الصالحون يسعون دائماً لإصلاح المجتمع.
وعلى العكس أعداؤهم، فإنهم يسعون لإفساد المجتمع كما أفسد بنو أمية وبنو العباس....
ما هو المطلوب منا؟
إن المطلوب منا ـ فرداً فرداً ـ أن نسعى في سبيل إصلاح المجتمع، بجميع ما بوسعنا، وبكل ما في جهدنا، على أن نجعل من مجموع عمرنا حصيلة نافعة وثمرة يانعة نخدم عبرها مجتمعنا الإسلامي وأمتنا الإسلامية، وستبقى هذه الثمرة إن قصدنا القربة للّه عزّ وجلّ، وسيكون الإنسان بذلك مصداقاً للقول المعروف: «عاش سعيداً ومات حميداً»(19).
ويلزم على الإنسان الذي يريد السعي نحو مجتمع صالح، أن لايقتصر همّه على تأمين احتياجاته الفردية والمادية: من تحسين حياته الشخصية وتوفير الراحة لها فقط، بل يجعل جهده وهمّه ينصب في رفع مستواه العلمي والمعنوي والثقافي والأخلاقي، الداعي إلى خدمة المجتمع الإسلامي، والهادف نفع الأمة الإسلامية، وطبعاً كل بحسب مجاله العملي، وظروفه الخاصة به، فالحوزوي والجامعي يقدّم خدمات علمية وثقافية، والتاجر والكاسب ومن أشبه يقدّم خدمات اقتصادية واجتماعية، مثل: تأسيس مؤسسات وهيئات ولجان خيرية تقوم بخدمة المجتمع الإسلامي، ونفع الأمة الإسلامية، من توفير الخير والرفاه لهم، والتقدم والإزدهار. فإن هذا العصر الذي نعيش فيه الآن هو عصر السرعة والتقدم، وعصر النموّ والازدهار المادي، وهو يمضي نحو الأمام بسرعة الضوء وكالبرق الخاطف، وفرصة العمر في هذا العصر فرصة قيّمة وثمينة، لا بدّ من اغتنامها واستغلالها، واستثمارها بالكيفية المطلوبة، والاستفادة منها بالشكل الصحيح، وذلك قبل فوات الأوان.
فعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الفرص تمر مرّ السحاب فانتهزوها إذا أمكنت في أبواب الخير وإلّا عادت ندماً»(20).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «ماضي يومك فائت، وآتيه متَّهم، ووقتك مغتنم، فبادر فيه فرصة الإمكان، وإياك أن تثق بالزمان»(21).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «الفرصة سريعة الفوت وبطيئة العود»(22).
وقال (عليه السلام) أيضاً وهو يوصي ابنه الإمام الحسن (عليه السلام): «اعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يُسار به وإن كان واقفاً»(23). وفي هذا إشارة إلى أن الدنيا هي دائماً في حالة السير والحركة، سيراً حثيثاً، وبسرعة فائقة كسرعة الضوء والبرق.
وعليه: فإذا تماهل الإنسان في اغتنام فرصة العمر وتكاسل عن العمل وخدمة المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية في مدة الحياة، فسوف لن يشعر إلّا وقد انقضى عمره، وانتهى أمده، وأتاه الناعي ينعى إليه نفسه، ويأذنه بالارتحال إلى دار الآخرة، التي هي دار الجزاء والحساب، وليست دار الأمل والعمل، وهناك سوف يأسف الإنسان على فواتِ فرصة العمر الثمينة، وانتهاء أمدها الثمين، كما نبهنا على ذلك القرآن الكريم بقوله سبحانه: (وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ)(24)، وقوله تعالى: (إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا)(25).
فإن اللّه سبحانه وتعالى، حذّر الإنسان وأنذره يوماً يرى فيه جزاء ما قدّمه من عمل، فإن كان قد قدم الطاعة للّه تعالى، والخدمة للمجتمع الإسلامي والإمة الإسلامية، فالجنة والغفران، وإن كان قد قصّر ولم يؤدّ طاعة ولا خدمة، بل قدّم عصياناً وضرراً للآخرين فالعذاب والنار ـ والعياذ باللّه ـ، وحينئذ يأسف الإنسان في ذلك اليوم، على ما فوّت على نفسه من فرصة العمر في الدنيا، ويندم ندماً شديداً على ذلك، ويتمنى أن لو كان تراباً حتى لا يُعاد ولا يحاسب ليتخلص من عذاب ذلك اليوم ومن النار، ولكن لا يفيده الأسف والندم، كما لا يثمر في حقه التمنّي والترجّي، ويكون مصداقاً من مصاديق الآية الكريمة: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ * لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ)(26).
العوالم التي نمر بها
كل واحد من بني الإنسان منذ بدء وجوده، وإلى أن يضع قدميه في المحشر يوم البعث والنشور، يمرّ بعوالم عديدة طولية، منها ما يلي:
1- عالم الذر.
2- عالم الأرحام.
3- عالم الدنيا.
4- عالم البرزخ.
5- عالم الآخرة.
وربما تكون هناك عوالم أخرى.
1- عالم الذر
أولاً: عالم الذر، ولعله يسمى: عالم الأصلاب أيضاً، وقد يكون هو أول العوالم الذي يمرّ الإنسان به، وهو فيه على صورة الذر، ويكون مستقراً في صلب أبي البشر آدم (عليه السلام) وذلك كما قال اللّه تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ)(27)، وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة قولان:
الأول: ما روي أنه أخرج اللّه من ظهر آدم (عليه السلام) ذريته كالذّرّ يوم القيامة فخرجوا مثل الذر، فعرّفهم نفسه وأراهم صنعه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه فثبتت المعرفة ونسوا الموقف.
الثاني: إن الآية جارية مجرى الكلام العرفي البلاغي على طريقة التمثيل.
ومن المعلوم أن القول الأول لا مانع فيه إطلاقاً، فإن اللّه قادر على كل شيء (وَ) اذكر يا رسول اللّه (إِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ) أي أخرج من بني آدم (مِن ظُهُورِهِمۡ) بدل من (من بني آدم) أي: أخرج من أصلاب الرجال (ذُرِّيَّتَهُمۡ) أولادهم وذراريهم (وَ) بعدما أخرجهم وأكملهم (أَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ) أي: جعلهم شهداء على أنفسهم، فإن من اعترف بشيء كان شهيداً على نفسه، قائلاً لهم: (أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ) على نحو الاستفهام التقريري، وقد كان ذلك بلسان الأنبياء (عليهم السلام)، كما في كثير من الآيات، مثل: (وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) (28)، والمراد: القول لهم على لسان موسى (عليه السلام) (قَالُواْ بَلَىٰ) أنت ربنا. وهذا اعتراف بالفطرة، فإن الفطرة أذعنت بذلك، كما قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «كل مولود يولد على الفطرة إلّا أن أبويه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». ومن قبيل ذلك (إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا)(29)، و: (فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ)(30)، و: (إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ)(31)، وأشباه ذلك مما هو كثير في القرآن، وهو نوع من البلاغة، كقول الشاعر:
أيا جبلي نعمان باللّه خليا...
وقوله: أيا شجر الخابور ما لك مورقاً
وقوله (عليه السلام):
«قال الحبيب وكيف لي بجوابكم
وأنا رهين جنادل وتراب»
فإن الغالب أن يصوغ البليغ الكلام في قالب جذاب لبيان المراد.
(شَهِدۡنَآۚ) فالغرض من الآية: أن الفطرة تشهد على توحيد اللّه سبحانه بما أودع فيها من درك الحقيقة وفهم الواقع. وإنما أودعنا في الفطرة هذه الشهادة لـ(أَن) لا (تَقُولُواْ) أيها البشر (يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ) حين يُعاتب المشرك على شركه، والجاحد على جحوده: (إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا) الأمر وهو التوحيد (غَٰفِلِينَ) فقد أودعنا فيكم ما يزيل غفلتكم.
لا يقال: فعل هذا يلزم صحة العقاب حتى بالنسبة إلى من لم تبلغه الدعوة؟
لأنه يقال: هو كذلك، إلّا أن اللّه سبحانه بلطفه لا يعذب حتى يُتمّ الحجة الظاهرة، كما قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا)(32)، وهذا التفسير للآية الكريمة، إنما هو القول الثاني الذي يأخذ بالظاهر مع غض النظر عن أخبار (عالم الذر) والذي يتصور أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين، ودلالة الآية عليهما، فإنه لم يدل دليل على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الذي يظهر في بعض الروايات أن بعض الآيات القرآنية تدل على أكثر من معنيين سواء كان المعنيان من باب المصداق أو لا، كما أن في الآيات السابقة (إِنَّا عَرَضۡنَا...) يمكن الأمران، وكان الظاهر اللفظي البلاغي يؤكد كون الألفاظ مسوقة للمعنى العرفي، لا الخارجي، واللّه أعلم...(33).
هذا وقد جاء في روايات كثيرة ما معناه: إن اللّه تعالى خلق الإنسان قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا في صورة الذر، وفي عالَم يسمى بـ(عالم الذر)، وفي ذلك العالم قد بيّن اللّه تعالى للإنسان طريق الحق وطريق الضلال، وأودع في فطرته التوحيد والمعرفة، وأخذ منه الميثاق على أن يعبد اللّه ولا يشرك به شيئاً، وضمن اللّه تعالى له رزقه.
روي عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه عزّ وجلّ لما أخرج ذرية آدم (عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له، وبالنبوة لكل نبي، فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وآله) ثم قال اللّه عزّ وجلّ لآدم: انظر ماذا ترى؟ قال: فنظر آدم (عليه السلام) إلى ذريته وهم ذر، قد ملئوا السماء. قال آدم (عليه السلام): يا رب، ما أكثر ذريتي، ولأمر ما خلقتهم، فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم.
قال آدم (عليه السلام): يا رب، فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟!
فقال اللّه عزّ وجلّ: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم. قال آدم (عليه السلام): يا رب، فتأذن لي في الكلام، فأتكلم؟ قال اللّه عزّ وجلّ: تكلّم، فإن روحك من روحي(34)، وطبيعتك من خلاف كينونتي. قال آدم: يا رب، فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلّة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد، ولا تباغض، ولا اختلاف في شيء من الأشياء؟!
قال اللّه عزّ وجلّ: يا آدم، بروحي نطقت، وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الخالق العالم بعلمي، خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا تبديل لخلقي، إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون، وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم؛ فلذلك خلقت الدنيا والآخرة، والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم، خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل والجميل والدميم والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزَّمانة(35) ومن لا عاهة به؛ فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء، وفيما أعافيهم وفيما أبتليهم وفيما أعطيهم وفيما أمنعهم، وأنا اللّه الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت، وأنا اللّه الفعال لما أريد لا اُسأل عما أفعل، وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون».(36)
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الشريف عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».(37)
2- عالم الأرحام
ثانياً: عالم الأرحام، وهو العالم الثاني الذي ينتقل الإنسان إليه ويبدأ بالنطفة، ثم العلق
ة، ثم المضغة، وهكذا حتى يكمل الجنين وتنتهي فترة الحمل، فينتهي عالم الرحم، ويتهيأ للخروج والانتقال إلى العالم الثالث وهو عالم الدنيا، قال تعالى: (هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ)(38).
وقال عزّ وجلّ: (وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى)(39).
وقال تعالى: (وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ)(40).
تأثير العوالم وتأثرها
وفي هذا العالم الثاني، وكذلك العالم الأول يتأثر الإنسان كثيراً بصفات الوالدين وأخلاقهما من باب المقتضي لا العلة التامة، ومن هنا لا يرفع ذلك اختيار الإنسان وحريته.
لذلك يوصي الإسلام الوالدين وخاصة الأم وخلال فترة الحمل برعاية الأحكام الشرعية، والمسائل الأخلاقية، والابتعاد عن كل ما هو خلاف الشرع وخلاف الأخلاق، بل وعن جميع ما يؤدي إلى الاضطراب والقلق، حتى ينشأ الجنين في فترة الحمل سالماً من حيث الروح والجسد، وينتقل إلى عالم الدنيا بجسم سالم وروح سالمة.
وفي الحديث الشريف ما يشير إلى ذلك، قال (صلى الله عليه وآله): «السعيد من سعد في بطن أمه»(41)، لذا فبقدر ما يكون الوالدان متقيدين بالأخلاق والآداب الأسلامية، ومراعيين للأحكام والمسائل الشرعية، يكون الجنين في نسبة كبرى من العافية والهداية، وقدر أكبر من السلامة والسعادة، وكذلك يكون بعد انتهاء فترة الحمل وانتقاله إنساناً سوياً إلى الدنيا.
وقد ورد في زيارة الامام الحسين (عليه السلام) في الزيارة المعروفة بزيارة وارث: «... أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهّرة، لم تُنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مدلهمات ثيابها...»(42).
يعني: إن الامام الحسين (عليه السلام) كبقية أهل البيت (عليهم السلام) وهم المعصومون الأربعة عشر، لم يزل نورهم ينتقل من صلب أبيهم آدم (عليه السلام) عبر الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، أي: المطهرة من دنس الشرك، ومن رذائل الصفات وسوء الأخلاق، فلم تجد في آبائهم وآمهاتهم إلّا المؤمنين الموحدين، والطاهرين المطهّرين.
ولا يخفى ما لهذه العوالم من التأثير على الإنسان في صلاحه وإصلاحه للمجتمع.
وصايا وآداب عن الأئمة (عليهم السلام)
روي في كتاب: مكارم الأخلاق عن أبي سعيد الخدري قال: أوصى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: «يا علي إذا أدخلت العروس بيتك فاخلع خفها حين تجلس واغسل رجليها وصب الماء من باب دارك إلى أقصى دارك، فإنك إذا فعلت ذلك أخرج اللّه من دارك سبعين ألف لون من الفقر، وأدخل فيها سبعين ألف لون من الغنى، وسبعين لوناً من البركة، وأنزل عليك سبعين رحمة ترفرف على رأس عروسك حتى تنال بركتها كل زاوية في بيتك، وتأمن العروس من الجنون والجذام والبرص أن يصيبها ما دامت في تلك الدار، وامنع العروس في أسبوعها من الألبان والخل والكزبرة والتفاح الحامض من هذه الأربعة الأشياء» فقال علي (عليه السلام): «يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ولأي شيء أمنعها هذه الأشياء الأربعة؟».
قال (صلى الله عليه وآله): «لأن الرحم تعقم وتبرد من هذه الأربعة الأشياء عن الولد، والحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد». فقال علي (عليه السلام): «يا رسول اللّه، ما بال الخل تمنع منه؟». قال: «إذا حاضت على الخل لم تطهرطهراً أبداً بتمام، والكزبرة تثير الحيض في بطنها وتشد عليها الولادة، والتفاح الحامض يقطع حيضها، فيصير داء عليها» ثم قال: «يا علي لا تجامع امرأتك في أول الشهر ووسطه وآخره؛ فإن الجنون والجذام والخبل يسرع إليها وإلى ولدها. يا علي لا تجامع امرأتك بعد الظهر؛ فإنه إن قضي بينكما ولد في ذلك الوقت يكون أحول، والشيطان يفرح بالحول في الإنسان. يا علي لا تتكلم عند الجماع فإنه إن قضي بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس، ولا ينظرن أحد في فرج امرأته، وليغض بصره عند الجماع؛ فإن النظر إلى الفرج يورث العمى ـ يعني في الولد ـ يا علي لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك؛ فإني أخشى إن قضي بينكما ولد أن يكون مخنثاً مؤنثاً مخبلاً. يا علي من كان جُنُبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن، فإني أخشى عليهما أن تنزل نار من السماء فتحرقهما. يا علي لا تجامع امرأتك إلّا ومعك خرقة ومع أهلك خرقة، ولا تمسحا بخرقة واحدة فتقع الشهوة على الشهوة، فإن ذلك يعقب العداوة بينكما، ثم يؤديكما إلى الفرقة والطلاق.
يا علي لا تجامع امرأتك من قيام فإن ذلك من فعل الحمير، وإن قضي بينكما ولد كان بوّالا في الفراش، كالحمير البوالة تبول في كل مكان. يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الفطر فإنه إن قضي بينكما ولد لم يكن ذلك الولد إلّا كثير الشر.
يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الأضحى؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون ذا ستة أصابع أو أربعة. يا علي لا تجامع امرأتك تحت شجرة مثمرة؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون جلاداً أو قتالاً أو عريفاً(43). يا علي لا تجامع امرأتك في وجه الشمس وشعاعها إلّا أن يرخى ستر فيستركما؛ فإنه إن قضي بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت. يا علي لا تجامع امرأتك بين الأذان والإقامة؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون حريصاً على إهراق الدماء. يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلّا وأنت على وضوء؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد. يا علي لا تجامع أهلك في ليلة النصف من شعبان، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون مشوهاً ذا شامة في شعره ووجهه.
يا علي لا تجامع أهلك في آخر الشهر إذا بقي منه يومان؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون عشاراً أو عوناً للظالم، ويكون هلاك فئام من الناس على يديه. يا علي لا تجامع أهلك على سقوف البنيان؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون منافقاً مرائياً مبتدعاً. يا علي إذا خرجت في سفر فلا تجامع أهلك تلك الليلة، فإنه إن قضي بينكما ولد ينفق ماله في غير حق، وقرأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): (إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ)(44). يا علي لا تجامع أهلك إذا خرجت إلى سفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون عوناً لكل ظالم. يا علي وعليك بالجماع ليلة الإثنين؛ فإنه إن قضي بينكما ولد يكون حافظاً لكتاب اللّه راضياً بما قسم اللّه عزّ وجلّ له. يا علي إن جامعت أهلك في ليلة الثلاثاء فقضي بينكما ولد فإنه يرزق الشهادة بعد شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، ولا يعذبه اللّه مع المشركين، ويكون طيب النكهة من الفم، رحيم القلب، سخي اليد، طاهر اللسان من الغيبة والكذب والبهتان. يا علي وإن جامعت أهلك ليلة الخميس فقضي بينكما ولد يكون حاكماً من الحكام، أو عالماً من العلماء. يا علي وإن جامعتها يوم الخميس عند زوال الشمس عن كبد السماء فقضي بينكما ولد فإن الشيطان لا يقربه حتى يشيب، ويكون فهماً، ويرزقه اللّه عزّ وجلّ السلامة في الدين والدنيا. يا علي وإن جامعتها ليلة الجمعة وكان بينكما ولد فإنه يكون خطيباً قوالاً مفوهاً، وإن جامعتها يوم الجمعة بعد العصر فقضي بينكما ولد، فإنه يكون معروفاً مشهوراً عالماً. وإن جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، فإنه يرتجى أن يكون لك ولد من الأبدال، إن شاء اللّه تعالى. يا علي لا تجامع أهلك في أول ساعة من الليل؛ فإنه إن قضي بينكما ولد لا يؤمن أن يكون ساحراً مؤثراً للدنيا على الآخرة. يا علي، احفظ وصيتي هذه كما حفظتها عن أخي جبريل (عليه السلام)»(45).
ولا يخفى أن هذه الروايات تكون سبباً لصلاح الفرد حتى في خلقته، لكي يمكنه أن يكون صالحاً مصلحاً للمجتمع في كبره.
وروي عن الأئمة (عليهم السلام): «إذا قرب الزفاف يستحب أن تأمرها أن تصلي ركعتين استحباباً، وتكون على وضوء إذا ادخلت عليك، وتصلي أنت أيضاً مثل ذلك، وتحمد اللّه، وتصلّي على النبي وآله. وتقول: الّلهمّ ارزقني إلفها وودّها ورضاها، وأرضني بها، واجمع بيننا بأحسن اجتماع وأيسر ائتلاف، فإنّك تحب الحلال وتكره الحرام، وتقول إذا أردت المباشرة: اللّهمّ ارزقني ولداً واجعله تقيّاً ذكيّاً، ليس في خلقه زيادةٌ ولا نقصانٌ، واجعل عاقبته إلى خيرٍ، وتسمي اللّه عزّ وجلّ عند الجماع».(46)
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا أردت الولد فقل عند الجماع: اللّهمّ ارزقني ولداً، واجعله تقيّاً، ليس في خلقه زيادةٌ ولا نقصانٌ، واجعل عاقبته إلى خيرٍ»(47).
وقال الامام الصادق (عليه السلام): «إذا كان بامرأة أحدكم حبل فأتى عليها أربعة أشهر، فليستقبل بها القبلة وليقرأ آية الكرسي، وليضرب على جنبها، وليقل: اللّهم إني قد سمّيتُهُ محمداً. فإنه يجعله غلاماً، فإن وفى بالاسم بارك اللّه له فيه، وإن رجع عن الاسم كان للّه فيه الخيار، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه».(48)
وعــن الحسن بـن الجهم قال: سمعت الامــام الرضا (عليه السلام): «قــال أبـو جعفر ـ الامام الباقر (عليه السلام) ـ: إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثم تصير علقةً أربعين يوماً، ثم تصير مضغةً أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه ملكين خلّاقين فيقولان: يا رب، ما تخلق ذكراً أو أنثى؟ فيؤمران، فيقولان: يا رب، شقياً أو سعيداً؟ فيؤمران، فيقولان: يا رب، ما أجله؟ وما رزقه؟ وكل شيء من حاله، وعدّد من ذلك أشياء، ويكتبان الميثاق بين عينيه، فإذا أكمل اللّه له الأجل بعث اللّه ملكاً فزجر زجرةً فيخرج، وقد نسي الميثاق».
فقال الحسن بن الجهم: فقلت له: أ فيجوز أن يدعو اللّه فيحوِّل الأنثى ذكراً والذكر أنثى؟!
فقال: «إن اللّه يفعل ما يشاء»(49).
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا)(50)، قال: نزلت هذه الآية واللّه خاصة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: كان أكثر دعائه يقول: (رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا)، يعني: فاطمة (عليها السلام) (وَذُرِّيَّٰتِنَا) الحسن والحسين (عليهما السلام) (قُرَّةَ أَعۡيُنٖ) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «واللّه، ما سألت ربي ولداً نضير الوجه، ولا ولداً حسن القامة؛ ولكن سألت ربي وُلداً مطيعين للّه، خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه، وهو مطيع للّه، قرت به عيني» قال: (وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا) قال: «نقتدي بمن قبلنا من المتقين، فيقتدي المتقون بنا من بعدنا». وقال اللّه: (أُوْلَٰٓئِكَ يُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ بِمَا صَبَرُواْ)(51) يعني: علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام). (وَيُلَقَّوۡنَ فِيهَا تَحِيَّةٗ وَسَلَٰمًا * خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ حَسُنَتۡ مُسۡتَقَرّٗا وَمُقَامٗا)(52)(53).
وعن الحسين بن سعيد قال: كنت أنا وابن غيلان المدائني، دخلنا على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له ابن غيلان: أصلحك اللّه، بلغني أنه من كان له حمل فنوى أن يسميه: محمداً وُلد له غلام؟ فقال (عليه السلام): «من كان له حمل فنوى أن يسميه علياً وُلد له غلام»، ثم قال: «علي محمد، ومحمد علي، شيئاً واحداً». قال: أصلحك اللّه، إني خلفت امرأتي وبها حبل، فادع اللّه أن يجعله غلاماً؟ فأطرق إلى الأرض طويلاً. ثم رفع رأسه فقال له: «سمّه علياً؛ فإنه أطول لعمره»، فدخلنا مكة فوافانا كتاب من المدائن أنه: قد وُلد له غلام(54).
3- عالم الدنيا
ثالثاً: عالم الدنيا، وهي من العوالم الطولية التي ينتقل الإنسان إليها، فيبدأ فيها بمرحلة الطفولة، ثم الصباوة، ثم التمييز والبلوغ، ثم الشباب والكهولة، ثم الشيب والشيخوخة، ثم الإشراف على الموت والارتحال من الدنيا إلى العالم الرابع، حيث الانتقال إلى عالم البرزخ، وذلك كما قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ)(55).
وكما قال سبحانه: (وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ)(56).
الدنيا مزرعة الآخرة
إن عالم الدنيا بالنسبة إلى العالمَين قبله عالم وسيع جداً، وله تأثير كبير على مستقبل الإنسان وتقرير مصيره في العالمَين بعده، حيث إن هذا العالم (عالم الدنيا) هو عالم السعي والعمل، بخلاف العالمين بعده، إذ أنهما عالما الحساب والجزاء، وهذا العالم هو عالم المرور والعبور، وعالم الزوال والفناء، بخلاف العالمين بعده، حيث إنهما عالما الاستقرار والنزول، وعالما البقاء والخلود....
وقد وصفت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عالم الدنيا بأنه بمثابة جسر وقنطرة يعبر الإنسان عليها للوصول إلى عالمي البرزخ والآخرة، ووصفته أيضاً بأنه مزرعة، وأنّ أعمال الإنسان في عالم الدنيا من خير وشر بمثابة بذر يبثه في أرض المزرعة ويحصد ثمره وحاصله في البرزخ والآخرة، فإن كان زرع خيراً حصد خيراً وسعادة، وإن كان زرع شراً حصد شراً وندامة.
الترابط بين العوالم
هذا ولا يخفى أن هناك نوعَ ترابط بين عالم الدنيا وعالمي البرزخ والآخرة بعده، كما كان بين عالم الدنيا وعالمي الذر والأرحام قبله، فكما أن لعالم الذر وعالم الأرحام ـ من حيث السعادة والشقاء ـ تأثيراً(57) على الإنسان في عالم الدنيا من حيث سعادته وشقائه، فكذلك لعالم الدنيا من حيث السعادة والشقاء تأثير على الإنسان في عالم البرزخ وعالم الآخرة من حيث سعادته وشقائه أيضاً، وإلى هذا المعنى يشير قول اللّه سبحانه: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا)(58).
وقوله تعالى: (رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ)(59).
وقوله عزّ وجلّ: (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ)(60).
وقوله جلّ وعلا: (وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ)(61).
العاقل وتعامله مع الدنيا
لذلك ينبغي للإنسان العاقل أن يغتنم عالم الدنيا بالسعي والعمل؛ من أجل سعادته في الدنيا سعادة مستلزمة لسعادة الآخرة أيضاً، علماً بإن سعادة الدنيا المستلزمة لسعادة الآخرة لا تتحقق إلّا بالسعي والعمل في إطار الشرع الإسلامي؛ وتعاليم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، الداعية إلى جعل الهدف من الدنيا الوصول إلى الآخرة، وأن يكون كل شيء وعمل وقول من أجل الآخرة، وأن لاينسى الإنسان الآخرة ويغتر بالدنيا، وأن لا يكون ممن يبيع الآخرة من أجل الدنيا، وأن لا يكون من مصاديق قول اللّه تعالى: (أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ)(62). ولا يكون من: (أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ)(63).
وأن يهتدي بما قاله الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لأختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني»(64).
وذلك لأن الدنيا وإن كانت من ذهب، فإنها حيث تزول وتفنى لا خير فيها، والآخرة وإن كانت من خزف ـ فرضاً ـ فإنها حيث تبقى وتخلد فالخير فيها، فكيف وحال الدنيا والآخرة بالعكس، أي: إن واقع الدنيا أقل من الخزف، وواقع الآخرة أكبر من الذهب.
الجمع بين الدنيا والآخرة
ثم إنه باستطاعة الإنسان أن يجمع بين الدنيا والآخرة فيفوز بسعادة الدارين؛ وذلك باتباع القرآن الحكيم والعمل بسيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، فإن اتباع القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) ينتج خير الدنيا وسعادة الآخرة ويثمر الصلاح والفلاح في الدنيا، والنجاة والفوز في الآخرة؛ وذلك واضح، لأن القرآن الحكيم هو نور للدنيا والآخرة، وأن أهل البيت (عليهم السلام) هم مصابيح الهدى في الدنيا والآخرة، أليس القرآن الحكيم يقول: (وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ)(65).
ويقول الحق تبارك اسمه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَـٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)(66).
وقال عزّ وجلّ: (يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ * قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ * قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ)(67).
أليس أهل البيت (عليهم السلام) يقولون: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(68).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «نعم العون الدنيا على الآخرة»(69).
وقال (عليه السلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(70).
وعن محمد بن عذافر عن أبيه قال: دفع إليّ أبو عبد اللّه (عليه السلام) سبعمائة دينار وقال: «يا عذافر اصرفها في شيء مّا» وقال: «ما أفعل هذا على شَرَهٍ(71) مني؛ ولكني أحببت أن يراني اللّه تبارك وتعالى متعرضاً لفوائده». قال عذافر: فربحت فيها مائة دينار، فقلت له في الطواف: جعلت فداك، قد رزق اللّه عزّ وجلّ فيها مائة دينار، قال: «أثبتها في رأس مالي».(72)
وقال رجل لأبي عبد اللّه (عليه السلام): واللّه إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال (عليه السلام): «تحب أن تصنع بها ما ذا؟». قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر!! فقال (عليه السلام): «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة».(73)
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضاً قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن علي بن الحسين (عليهما السلام) يدع خلفاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني!! فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟! قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) وكان رجلاً بادناً ثقيلاً، وهو متكئ على غلامين أسودين، أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان اللّه! شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟! أما لأعظنَّه، فدنوت منه فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام بنَهْرٍ(74)، وهو يتصاب عرقاً، فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا!! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟! فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعة اللّه عزّ وجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه!! فقلت: صدقت يرحمك اللّه، أردت أن أعظك فوعظتني».(75)
وعليه: فإنه يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة، وهو ما يختاره الإنسان العاقل في مدة حياته وجميع أيام عمره في عالم الدنيا، وطريق الجمع بينهما هو التثقف بثقافة القرآن الحكيم التي يجسدها في الخارج عملاً ويحققها على أرض الواقع فعلاً، ثقافة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) العالية، فالإنسان في عالم الدنيا وضمن رحلته الطويلة بين العوالم يستطيع أن يثبت كيفية رشده، ومقدار تعاليه ورقيه في كل مجال من مجالات هذه الحياة القصيرة والزائلة الدنيوية؛ لذا قيل في علم النفس والإجتماع: إنه بالامكان معرفة ثقافة أي مجتمع من خلال أفعاله وسلوكياته، لأن الثقافة ينشأ عنها العمل والسلوك المجسّد لتلك الثقافة خارجاً، والمحقق لها على أرض الواقع.
والاستفادة الصحيحة من الدنيا تكون من مقومات المجتمع الصالح، وينبغي لمن أراد السعي نحو مجتمع صالح أن يعمل لدنياه وآخرته حسب الموازين الشرعية.
نماذج ثقافية
نقل بعض الأصدقاء عن أحد الأشخاص المتجوّلين في بلدان العالم أنه زار إحدى المدن في بلد من البلدان وقال: إن أغلب شوارع تلك المدينة هي من الشوارع الكبيرة والعريضة، وهي شوارع ذات اتجاهين: أحدهما للذهاب والآخر للإياب، ويفصل بينهما فاصل، يتراوح عرضه بين المتر، والمتر ونصف المتر، وقد زُرع على هذا الفاصل عدة أنواع من الزهور الجميلة ذات الألوان الزاهية والأشكال المختلفة والجذابة، وقد رأيت في أحد هذه الشوارع أن الفاصل يحتوي على ثلاثمائة نوع من الزهور المختلفة الألوان، المتعددة الأشكال، ذات العطور الفواحة، ثم أضاف قائلاً: ولشدة حبي للاستطلاع والمعرفة، قررت أن أتعرف على المسؤولين عن تصميم هكذا شوارع وفكرة زرع هذه الأزهار والورود الجميلة، فسألت عنهم فقيل لي: إن المشرفين على شتل هذه الزهور وزرعها هم مهندسون أخصائيون في علم الأزهار، ومن خريجي جامعات هذه المدينة نفسها!
فعرفت من ذلك: أن ثقافة هذه المدينة عالية جداً، بحيث إنهم يعتنون بتزيين شوارع مدينتهم إلى هذه الدرجة من الإعتناء، ويوظفون لذلك أفراد متخصصين ومهندسين فنيّين من الدرجة العالية، وذوي الشهادات الراقية، وهذا من الجمال الذي دعى إليه الإسلام وحث عليه. فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن اللّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(76).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أبصر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) رجلاً شعثاً شعر رأسه، وسخة ثيابه، سيئة حاله!! فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): من الدين المتعة وإظهار النعمة»(77).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ليتزين أحدكم لأخيه المسلم كما يتزين للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة»(78).
ونقل لي صديق آخر زار بعض البلدان الغربية، وقال: لقد كان البلد الذي زرته على سعته الكبيرة وكثرة نفوسه، وازدحام وسائل النقل فيه، نظيفاً إلى أبعد الحدود، وجميلاً بمنتهى الجمال، حيث لم يكن في شوارعها ولا على أرصفتها، ولا في أزقتها شيء من القمامة، حتى القليل من الأوساخ أو النفايات، مما جعل البلد نظيفاً وجميلاً، ـ الى أن قال: ـ وإن أحد المدخنين الغرباء على البلد أخرج آخر سيجارة موجودة في العلبة، ثم قذف بالعلبة الفارغة في جانب من الشارع، وعندما وصل إلى مفترق طرق من نفس الشارع، وإذا بشرطي المرور يطلب من الرجل المدخن والغريب التوقف ودفع غرامة ثقيلة عن تلويثه الطريق العام؛ وذلك بقذفه علبة السيجاير الفارغة فيه، وكلما اعتذر المدخّن بأنه غريب ولا يعرف نظام هذا البلد، لم يقبل الشرطي عذره قائلاً: أدفع الغرامة كي يبقى في ذهنك أنه لا يجوز لأحد تلويث الشارع العام بشيء من القمامة ونحوها!!
هذه بعض النماذج من ثقافات العصر الحاضر، والذي يأمر به الاسلام ويؤكدّ عليه، ولكن ـ ومع الأسف الشديد ـ نرى كثيراً من مسلمي هذه الأمة ذات المليار ونصف المليار مسلم(79) تلخصت حياتهم بالكسل والتقاعس عن السعي والعمل، والميل إلى الدعة والراحة، إلى درجة لم تقتصر على الابتعاد عن الثقافة الإسلامية التقدمية الراقية، وترك السعي وراء الوصول إلى الإكتفاء الذاتي في الصناعات المهمة، بل وأصبحنا نستورد فيها حتى بيض الدجاج ولحمه من الدول الغربية.
نعم، طموحاتنا كبيرة وآمالنا كثيرة، ولكننا لا نسعى إليها، وإنما شغلنا أنفسنا بالنزاعات القومية والعرقية ومجالس الغيبة، وإنتقاد الآخرين، وقذف التهم إليهم والافتراء عليهم، فبدل أن نصبح أمة السعي والعمل، والجد والمثابرة، أصبحنا أمة الكسل والملل والقول فقط، وبذلك ضيعنا دنيانا وآخرتنا.
ومن المعلوم أن من مقومات المجتمع الصالح هو السعي والعمل لا القول والأمل.
عبر وعظات
يقال: إن نادر شاه(80) عند ما كان حاكماً على إيران، أراد أن يحتل الهند ويضمها إلى حكومته، وبعد المشورة في طريقة فتح الهند وكيفيتها قيل له: إنه يمكن شن الهجوم على الهند من طريقين: أحدهما عبر الطريق البري، وهذا يستغرق مدة طويلة للوصول إلى الهند، وثانيهما: الطريق البحري، وهذا يستغرق مدة أقصر بكثير من الطريق البري، ولكن بشرط أن تهب الرياح المؤثرة على حركة السفن الشراعية على وفق ما نشتهيه من الاتجاه نحو الهند. فقال نادر شاه: إنني غير مستعد أن أجعل مصير أمة وعاقبة دولة موكولاً بيد الرياح!! فاختار الطريق البري تاركاً الطريق البحري وراءه.
وهذه القصة تدل فيما تدل عليه: على واقع حال المسلمين اليوم! وذلك لأننا وأثر تكاسلنا وتقاعسنا وتركنا ثقافة القرآن الحكيم وثقافة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، صرنا السبب لأن تقع إدارة بلادنا وأمتنا إلى مختلف الرياح من الشرق والغرب، وإلى الأعداء والمناوئين، يقتلوننا ويأسروننا، ويسلبوننا أرضنا وخيراتنا، وأموالنا وثرواتنا، وديننا ودنيانا، فلقد أصبحنا بسبب هجرنا تعاليم الإسلام وثقافة القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) مصداقاً واضحاً للحديث القدسي الشريف القائل: «إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني».(81)
مثال جميل
نقل العلامة الشيخ جعفر الرشتي (رحمه الله)(82) هذه القصة فقال: تناول اثنان شيئاً من المخدرات حتى فقدا وعيهما وصارا يهذيان، ثم خرجا يتمشيان في الأزقة على غير هدى من طريقهما، فرأى أحدهما حفرة صغيرة ممتلئة بالماء الراكد، فتصورها ـ بسبب تناوله لهذا السم المسمى المخدرات ـ بحراً كبيراً، فقال لصاحبه متعجباً: ما أكبر هذا البحر وأوسعه؟! ثم خلعا ملابسهما ليعبرا هذا البحر الموهوم، فقفزا وبجهد كبير قفزة واسعة، فسقطا بشدة على الأرض وتشدّخ رأسهما وتهشّمت عظامهما!!
وفي زماننا الحاضر أصبح حال بعض المسلمين كذلك، حيث إنهم تركوا أسباب الرقي والتقدم، فتأخروا وتقهقروا، وإذا فكروا في التقدم تصوروه بحراً كبيراً متلاطم الأمواج لا يمكن الخوض فيه؛ ولذلك بقوا دائماً متأخرين، وأبداً منحطين، يعيشون فقراء معدمين، مع أنهم يملكون أثرى بقاع الأرض، وهم أذلاء صاغرين مع أن لديهم ما يجعلهم أعزة سادة، وكبراء وقادة.
ونرى ـ في عصرنا الحاضر ـ بعض أهل الكتاب من المسيحيين وغيرهم يقروّن للمسلمين فضلهم ويعترفون بأنهم آباء الحضارة وروّاد العلم، وأن لهم حق الحياة الراقية على جميع الأمم المتقدمة والمترقية، بينما المسلمون أنفسهم تراهم قد لجئوا إلى النوم والكسل وتجاهلوا ماضيهم المشرق، واشتغلوا بتضعيف أنفسهم وتشتيت أمرهم من خلال المهاترات والمخاصمات الجانبية، كما في أغلب البلاد الإسلامية، وراح يتهم بعضهم بعضاً بأبشع التهم التي يعجز اللسان من ذكرها، والبيان عن وصفها، وذلك بدلاً من استغلالهم الفرص المتاحة لهم واغتنامهم العمر والفرص التي وهبها اللّه إياهم.
هذا هو حال أغلب المسلمين اليوم، وهو على عكس حال الشرق والغرب، حيث إن غير المسلمين أخذوا تعاليم الاسلام وثقافة القرآن، وقاموا بتنظيم أوقاتهم وتنسيق أعمالهم من أجل التقدم والإزدهار، وتجنيد طاقاتهم وتحشيد قدراتهم في سبيل الاختراع والاكتشاف، والتقدم الزراعي والصناعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في كل جانب من جوانب الحياة.
نعم، إن المسلمين اليوم أضاعوا أوقاتهم في الفراغ والكسل في مجالس الافتراء والغيبة، وفي النزاعات الجانبية، والمخاصمات الهامشية، وفي السب والشتم بعضهم لبعض. هذا وقد قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يعظ أصحابه ومحبيه: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(83). وقال الامام الصادق (عليه السلام) وهو يوصي محبّيه ومواليه: «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً»(84).
4- عالم البرزخ
رابعاً: عالم البرزخ، وهو رابع العوالم الطولية، الذي ينتقل الإنسان إليه، ويبدأ بالموت ومفارقة الروح للجسد، ويستمر إلى ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتى ينفخ في الصور وتقوم الساعة والقيامة، فينتقل الإنسان من عالم البرزخ إلى عالم الآخرة، وذلك كما قال تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ * لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ)(85).
وقال جلّ وعلا: (وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ)(86).
وقال سبحانه: (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ)(87).
وقال تبارك اسمه: (قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ)(88).
وكما قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «عذاب القبر من النميمة والغيبة والكذب».(89)
وقال الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام):
«أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي اللّه تبارك وتعالى، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار ـ ثم قال ـ إن نجوت يا ابن آدم عند الموت فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت يا ابن آدم حين توضع في قبرك فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت حين يحمل الناس على الصراط، فأنت أنت، وإلّا هلكت، وإن نجوت حين: (يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ)(90) فأنت أنت وإلّا هلكت، ـ ثم تلا: (وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ)(91) قال ـ هو القبر، وإن لهم فيه لمَعِيشَةً ضَنكاً واللّه، إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار»، ثم أقبل على رجل من جلسائه فقال له: «لقد علم ساكن السماء ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين أنت، وأي الدارين دارك؟»(92).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا وضع الميت في قبره مُثّل له شخص. فقال له: يا هذا كنا ثلاثةً: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلفوك وانصرفوا عنك، وكنتُ عملَك فبقيتُ معك، أما إني كنت أهون الثلاثة عليك»(93).
وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال: «يسأل الميت في قبره عن خمس: عن صلاته، وزكاته، وحجه، وصيامه، وولايته إيانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكن من نقص فعلي تمامه»(94).
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) أيضاً: «واللّه ما نخاف عليكم إلّا البرزخ»(95).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: «يقال للمؤمن في قبره: من ربك؟ ـ قال ـ فيقول: اللّه. فيقال له: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد (صلى الله عليه وآله). فيقال: من إمامك؟ فيقول: فلان. فيقال: كيف علمت بذلك؟ فيقول: أمر هداني اللّه له وثبتني عليه. فيقال له: نم نومةً لا حلم فيها، نومة العروس، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيدخل عليه من روحها وريحانها، فيقول: يا رب، عجل قيام الساعة، لعلي أرجع إلى أهلي ومالي. ويقال للكافر: من ربك؟ فيقول: اللّه. فيقال: من نبيك؟ فيقول: محمد (صلى الله عليه وآله). فيقال: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال: من أين علمت ذلك؟ فيقول: سمعت الناس يقولون فقلته!! فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليها الثقلان الإنس والجن لم يطيقوها. ـ قال ـ فيذوب كما يذوب الرصاص، ثم يعيدان فيه الروح، فيوضع قلبه بين لوحين من نار، فيقول: يا رب، أخِّر قيام الساعة»(96).
البرزخ وأول مراحله
يبدأ عالم البرزخ بالموت، حيث ينتقل الإنسان على إثره إلى القبر، وفي القبر تكون المُسائلة، ويكون الحساب والجزاء البرزخي، ففي الحديث الشريف عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «من مات فقد قامت قيامته»(97)، أي البرزخية، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران»(98).
نعم، ما هي إلّا أيام نقضيها في هذه الدنيا الدنيئة والزائلة، حتى نعيش الحياة البرزخية الواسعة والطويلة بالنسبة إلى عالم الدنيا، وذلك إمّا في روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ـ والعياذ باللّه ـ لذا يجب علينا الاهتمام بإصلاح أنفسنا وإصلاح المجتمع والسعي نحو تحقق المجتمع الإسلامي السعيد، وذلك بالوعي واليقظة، وترك حالة الركود والكسل، والتحلي بالنشاط والسعي والعمل وبكل جدّ واخلاص، من أجل أن نطوي عالم الدنيا بسلامة وسعادة، مشحوناً بالخير والبركة في ظل مجتمع اسلامي إنساني، وأمة اسلامية متقدمة ومزدهرة، مستتبعاً سلامة عالم البرزخ والآخرة وسعادتهما، ولا يكون ذلك إلّا بالسعي لتحقيق ثقافة القرآن الحكيم وثقافة أهل البيت (عليهم السلام) التي هي عصارة الأهداف السماوية التي جاء من أجلها الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام) وبلّغ لها جميع الأوصياء والأولياء.
مخاوف عالم البرزخ
إن عالم البرزخ، كما سبق: هو عالم الحساب والجزاء البرزخي، وليس عالم السعي والعمل كما كان في عالم الدنيا؛ لذلك ينقطع الإنسان بالموت والانتقال إلى عالم البرزخ من السعي والعمل، إلّا القليل مما يصله من الخيرات والمبرات، والتي إن كان قد فعلها في حياته لكانت أكثر ثواباً وبركة عليه.
فلا تبقى للإنسان في برزخه إلّا ما اكتسبه في دنياه ونتائج عمله، فإن كان قد عمل خيراً رأى خيراً، وإن كان قد عمل شراً رأى شراً، كما في الحديث الشريف: «إن خيراً فخير وإن شراً فشر»(1).
ومن هنا ينبغي أن يخاف من القبر ومن البرزخ، ومن مصير الإنسان المجهول آنذاك....
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «واللّه، ما أخاف عليكم إلّا البرزخ، فأما إذا صار الأمر الينا فنحن أولى بكم»(99)(100).
هل في عالم البرزخ تكامل؟
ثم إن عالم البرزخ مضافاً إلى كونه عالم حساب وجزاء برزخي، وعالم انقطاع عن السعي والعمل الدنيوي، لكنه بحسب بعض الروايات الشريفة، فيه بعض التكامل البرزخي والصعود إلى الدرجات الإنسانية العالية المجردة عن مهاوي السقوط الدنيوي ودركات الهبوط الحيواني، ففي الحديث الشريف ما يدل على أن الأطفال والقصّر الذين يرحلون عن عالم الدنيا وينتقلون إلى عالم البرزخ وهم بعدُ لم يكملوا إنسانياً، ولم يبلغوا سنّ التكليف شرعياً، يتكاملون هناك، فإن أطفال الشيعة وقصّرهم يتربّون على يد بعض الأولياء كالخليل إبراهيم (عليه السلام) حتى يكبروا ويبلغوا سن الرشد ويكملوا، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين، يغذوانهم بشجرة في الجنة، لها أخلاف كأخلاف(101) البقر، في قصر من درة، فإذا كان يوم القيامة ألبسوا وطيبوا وأهدوا إلى آبائهم، فهم ملوك في الجنة مع آبائهم، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ)»(102)(103).
وقال الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً: «إذا مات طفل من أطفال المؤمنين، نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض: ألا إن فلان بن فلان قد مات، فإن كان مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين، دفع إليه يغذوه، وإلّا دفع إلى فاطمة (عليها السلام) تغذوه، حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته، فتدفعه إليه»(104).
أما حال من يموت من أطفال المشركين والكفار، فقد روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة احتج على اللّه سبعة: على الطفل، والذي مات بين النبيين، والشيخ الكبير الذي أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، كل واحد منهم يحتج على اللّه عزّ وجلّ، قال: فيبعث اللّه عزّ وجلّ إليهم رسولاً فيؤجج لهم ناراً فيقول: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن عصى سيق إلى النار»(105).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «تؤجج لهم نار، فيقال لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً، وإن أبوا قال اللّه عزّ وجلّ لهم: هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتوني، فيأمر اللّه عزّ وجلّ بهم إلى النار»(106).
وورد في الأحاديث الشريفة ـ أيضاً ـ ما يدل على أن بعض الأعمال في عالم الدنيا تبقى آثارها وبركاتها مستمرة في عالم البرزخ ويكمل الإنسان بها في البرزخ، كالمشاريع الخيرية، والأولاد الصالحين، والعلوم التي تنفع الناس، فإنها تكون ذخيرة له في عالم البرزخ ويجدها أمامه ويتكامل بها، فإنه رغم انقطاعه عن عالم الدنيا وعن السعي والعمل، يصله أثر ذلك الأمر، وينتفع به، ويكون سبباً لتكامله ورقي درجاته في عالم البرزخ. وذلك كما روي: «أن من مات بلا خلف فكأن لم يكن في الناس، ومن مات وله خلف فكأن لم يمت»(107).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(108).
وروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): مرّ عيسى ابن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذّب صاحبه، ثم مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب!! فقال: يا رب، مررت بهذا القبر عام أول فكان يُعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب؟! فأوحى اللّه إليه: أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثم قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ميراث اللّه(109) عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده...»(110).
وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: «سُنّة سنّها يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من يعمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الصالح يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدق عنهما، ويعتق ويصوم ويصلي عنهما» فقلت: أشركهما في حجي؟ قال: «نعم»(111).
وعنه (عليه السلام) قال: «ستة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها، وسُنّة يؤخذ بها من بعده»(112).
ولا يخفى أن هذه الأمور من مقومات المجتمع الإسلامي الصالح.
5- عالم الآخرة
خامساً: عالم الآخرة، وهو خامس العوالم الطولية ونهاية مطاف الإنسان ومنتهى رحلته الطويلة، وآخر ما ينتقل الإنسان إليه ليبدأ بالحياة الأبدية بإذن اللّه تعالى، إما منعمّاً أو معذّباً، حيث يبدأ بنفخ الصور الثاني والبعث من القبور، والحشر ليوم النشور، والعرض على اللّه، للحساب الأكبر، والجزاء الأوفى: من الخلود في النعيم والجنة، أو العذاب والنار والعياذ باللّه، قال اللّه تعالى: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ)(113).
وقال تبارك اسمه: (ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا)(114).
وقال عزّ وجلّ: (أَفَمَن وَعَدۡنَٰهُ وَعۡدًا حَسَنٗا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعۡنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا ثُمَّ هُوَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِينَ * وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ فَيَقُولُ أَيۡنَ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ)(115).
وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَـهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَـمَّا يُشۡرِكُـونَ * وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ)(116).
وروي عن الامام السجاد (عليه السلام) في وصف يوم القيامة وكيفيته في معنى قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ)(117) عندما سُئل (عليه السلام) عن النفختين كم بينهما؟
قال (عليه السلام): «ما شاء اللّه»، فقيل له: فأخبرني يا ابن رسول اللّه، كيف ينفخ فيه؟
فقال: «أما النفخة الأولى، فإن اللّه يأمر إسرافيل فيهبط إلى الأرض ومعه الصور، وللصور رأس واحد وطرفان، وبين طرف كل رأس منهما ما بين السماء والأرض.
قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور، قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، وفي موت أهل السماء، قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس ويستقبل الكعبة، فإذا رأوه أهل الأرض، قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، قال: فينفخ فيه نفخة، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل الأرض، فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل السماوات، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلّا صعق ومات، إلّا إسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، قال: فيقول اللّه لإسرافيل: يا إسرافيل مُت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثم يأمر اللّه السماوات فتمور ويأمر الجبال فتسير، وهو قوله: (يَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوۡرٗا * وَتَسِيرُ ٱلۡجِبَالُ سَيۡرٗا)(118) يعني تبسط وتبدل الأرض غير الأرض، يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات، كما دحاها أول مرة، ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة، مستقلاً بعظمته وقدرته، قال: فعند ذلك ينادي الجبار جلّ جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والأرضين: (لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ)(119) فلا يجيبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبار مجيباً لنفسه: (لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ)(120) وأنا قهرت الخلائق كلهم وأمتهم، إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا، وحدي لا شريك لي ولا وزير لي، وأنا خلقت خلقي بيدي، وأنا أمتهم بمشيتي، وأنا أحييهم بقدرتي، قال: فينفخ الجبار نفخة في الصور، فيخرج الصوت من أحد الطرفين الذي يلي السماوات، فلا يبقى في السماوات أحد إلّا حيي، وقام كما كان، ويعود حملة العرش، وتحضر الجنة والنار، وتحشر الخلائق للحساب»، قال ـ الراوي ـ: فرأيت علي بن الحسين (عليهما السلام) يبكي عند ذلك بكاءً شديداً(121).
من خصائص يوم القيامة
هناك خصوصيات عجيبة وكثيرة ليوم القيامة، وهو اليوم الذي يحشر اللّه تعالى فيه الأولين والآخرين للحساب الأكبر، والجزاء الأوفى، وهذه الخصوصيات تميّزه ميزة غريبة عن سائر الأيام، وتجعله يوماً وحيداً في عجائبه، وفريداً في غرائبه:
إنه يوم خاصّ متميّز، خاص في طوله زمناً؛ إذ يمتد طول يوم القيامة بمقدار خمسين ألف عام، فيه خمسون موقفاً وعقبةً للتحقيق والاستجواب، مدة كل موقف ألف عام....
إنه يوم متميز في أهواله؛ إذ فيه تتكوّر الشمس، وتلتقي الشمس القمر، وتنكدر النجوم، وتندك الأرض والجبال دكة واحدة، وتُزلزل الأرض زلزالاً شديداً، وكما قال اللّه تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ * يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ)(122).
وقوله تبارك اسمه: (سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ * لِّلۡكَٰفِرِينَ لَيۡسَ لَهُۥ دَافِعٞ * مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلۡمَعَارِجِ * تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِينَ أَلۡفَ سَنَةٖ * فَٱصۡبِرۡ صَبۡرٗا جَمِيلًا * إِنَّهُمۡ يَرَوۡنَهُۥ بَعِيدٗا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبٗا * يَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلۡمُهۡلِ * وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ * وَلَا يَسَۡٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمٗا * يُبَصَّرُونَهُمۡۚ يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۢ بِبَنِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُٔۡوِيهِ * وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّآۖ إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةٗ لِّلشَّوَىٰ * تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰٓ)(123).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تبين أهوال يوم القيامة.
يوم القيامة ومنجياتها
إن يوم القيامة يوم رهيب، ويوم صعب عسير، لأنه يوم الحساب الأكبر، والجزاء الأوفى، يوم لا يقبل فيه فداء ولا عذر، وهو الذي عبرّ عنه القرآن الكريم بقوله: (يَوۡمَ يَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِيهِ * وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ يَوۡمَئِذٖ شَأۡنٞ يُغۡنِيهِ)(124).
وهو يوم تُعرض فيه الأعمال، وتكشف فيه الأسرار والأستار.
وهو: (يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ)(125) أي نقيّ من الشرك، خالص من الرياء، مؤمن باللّه وبرسوله (صلى الله عليه وآله) وبأهل بيته (عليهم السلام)، آخذ بما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله) وبلّغ له أهل بيته المعصومون (عليهم السلام)....
فإن الفائز يوم القيامة هو من قال عزّ وجلّ: (لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ)(126) أي إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام). ومن صبر وصابر ورابط في محبة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام). ومن أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وتخلّق بالأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية. ومن كان براً تقياً، سمحاً سخياً، قد سلُم الناس من يده ولسانه، وأمنوه على أعراضهم وأموالهم. ومن كان قد سعى لآخرته، وعمل في الدنيا من أجل عاقبته، وجاهد نفسه، وخالف هواه، وحارب شيطانه، ولم يغتر بدنياه. فإن من كان تقياً نقياً، خالصاً مخلصاً في الدنيا، اجتاز عرصات القيامة إلى الجنة من دون حساب، وخرج من قبره ونور إيمانه يسعى بين يديه لينير له ظلام القيامة وظلماتها، فيصل إلى الجنة بسلام وأمان، كما قال اللّه تعالى: (يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)(127).
وكما قال سبحانه عن غير المؤمنين: (يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ)(128) أي: ارجعوا إلى الدنيا لتأتوا بالنور منها معكم، كناية عن أنه يستحيل حصول النور في الآخرة إلّا لمن كان قد أتى به من الدنيا، وحيث لا رجعة فلا نور.
وروي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول اللّه: (يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ)(129) قال (عليه السلام): «رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) هو نور المؤمنين يسعى بين أيديهم يوم القيامة، إذا أذن اللّه له أن يأتي منزله في جنات عدن، والمؤمنون يتبعونه وهو (صلى الله عليه وآله) يسعى بين أيديهم حتى يدخل جنة عدن وهم يتبعون حتى يدخلون معه، وأما قوله: (وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ) فأنتم تأخذون بحجزة آل محمد (عليهم السلام)، ويأخذ آل محمد (عليهم السلام) بحجزة الحسن والحسين (عليهما السلام)، ويأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) بحجزة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، حتى يدخلون مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في جنة عدن، فذلك قوله: (بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)»(130)(131).
وعن علي بن عقبة عن أبيه قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): «يا عقبة، لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الأمر الذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه» ثم أهوى بيده إلى الوريد ثم اتكأ، وكان معي المعلّى، فغمزني أن أسأله، فقلت: يا ابن رسول اللّه، فإذا بلغت نفسه هذه أي شيء يرى؟
فقلت له بضع عشرة مرة: أي شيء؟ فقال (عليه السلام) في كلها: «يرى» ولا يزيد عليها، ثم جلس في آخرها، فقال: «يا عقبة» فقلت: لبيك وسعديك. فقال: «أبيت إلّا أن تعلم؟!». فقلت: نعم، يا ابن رسول اللّه، إنما ديني مع دينك، فإذا ذهب ديني كان ذلك، كيف لي بك يا ابن رسول اللّه، كل ساعة. وبكيت، فرقّ لي، فقال: «يراهما واللّه».
فقلت: بأبي وأمي من هما؟! قال: «ذلك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)، يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتى تراهما». قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن، أيرجع إلى الدنيا؟ فقال: «لا، يمضي أمامه، إذا نظر إليهما مضى أمامه» فقلت له: يقولان شيئاً؟ قال: «نعم يدخلان جميعاً على المؤمن، فيجلس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عند رأسه وعلي (عليه السلام) عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فيقول: يا ولي اللّه، أبشر أنا رسول اللّه، إني خير لك مما تركت من الدنيا، ثم ينهض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فيقوم علي (عليه السلام) حتى يكبّ عليه فيقول: يا ولي اللّه، أبشر أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبه أما لأنفعنك، ثم قال: إن هذا في كتاب اللّه عزّ وجلّ». قلت: أين جعلني اللّه فداك هذا من كتاب اللّه؟
قــال: «فـي يونس قـول اللّه عــزّ وجلّ هاهنا: (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَــا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡـدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُـوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)»(132)(133).
المصير والمأوى: الجنة أو النار
ثم إنه بعد انتهاء الحساب وانقضاء يوم القيامة، وانتهاء الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) من تقسيم أهل المحشر بإذن اللّه تعالى وسَوق أهل النار إلى النار، وهداية أهل الجنة إلى الجنة، تغلق أبواب النار على أهلها، وأبواب الجنة على أهلها، ويؤتى ـ كما في الخبر ـ بالموت على صورة كبش ويُذبح، ثم يُعلن بعد ذلك: بأنه لا موت لأحد، فأهل الجنة خالدون في الجنة، وأهل النار ـ والعياذ باللّه ـ مخلدون في النار....
وعندما يصل هذا الخبر إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، يفرح أهل الجنة فرحاً كبيراً، بحيث لو كان هناك موت لماتوا فرحاً، ويحزن أهل النار حزناً شديداً بحيث لو كان هناك موت لماتوا جزعاً وفزعاً.
روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا أدخل اللّه أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، جيء بالموت في صورة كبش حتى يوقف بين الجنة والنار ـ قال ـ ثم ينادي مناد يسمع أهل الدارين جميعاً: يا أهل الجنة، يا أهل النار، فإذا سمعوا الصوت أقبلوا، قال: فيقال لهم: أتدرون ما هذا؟ هذا هو الموت الذي كنتم تخافون منه في الدنيا. قال: فيقولون أهل الجنة: اللّهم، لا تدخل الموت علينا، قال: ويقول أهل النار: اللّهم أدخل الموت علينا. قال: ثم يذبح كما تذبح الشاة، قال: ثم ينادي مناد: لا موت أبداً، أيقنوا بالخلود. قال: فيفرح أهل الجنة فرحاً لو كان أحد يومئذ يموت من فرح لماتوا، قال: ثم قرأ هذه الآية ـ (أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ * لِمِثۡلِ هَٰذَا فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ)(134) قال: ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد يموت من شهيق لماتوا، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: (وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ)»(135)(136)
يقول الباري عزّ وجلّ: (وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ)(137).
ويقول جلّ جلاله: (فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ)(138).
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «ما خلق اللّه خلقاً إلّا جعل له في الجنة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا أسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، أشرفوا، فيشرفون على النار، ويرفع لهم منازلهم في النار، ثم يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم ربكم دخلتموها، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة ذلك اليوم فرحاً بما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادون: يا معاشر أهل النار، ارفعوا رءوسكم فانظروا إلى منازلكم في الجنة، فيرفعون رءوسهم فينظرون إلى منازلهم وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربكم دخلتموها. قال: فلو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار ذلك اليوم حزناً أهل النار، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، وهؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللّه تعالى: (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ)»(139)(140).
نعم، الدنيا دار غرور، فهنيئاً لمن لم يغتر بها، ويسعى فيها للمجتمع الإسلامي الصالح، ويسعى فيها لآخرته، ويستغل فرصة العمر للعمل من أجل توفير النور لقبره وقيامته، وإعداد الدعة والراحة لبرزخه حتى يفوز يوم القيامة بالخلد في الجنة ونعيمها.
إنه يلزم على المسلمين جميعاً تهيئة الأمور والأسباب من أجل إعادة المجتمع الإسلامي الصالح الذي يفوز الفرد فيه بسعادة الدارين، وبرضا الباري عزّ وجلّ ورضا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الميامين (عليهم السلام)، وذلك عبر استغلال الفرص، والإخلاص في العمل، والصفاء في النية، والتركيز على القواعد والأركان الأساسية في المجتمع لهدايته، وترك الأمور الهامشية التي تحاول أن تبعّد الإنسان عن هذا الطريق.
وإن شاء اللّه تعالى، يتوجه المسلمون إلى أنفسهم ويوفرون في ذواتهم ومجتمعاتهم الاستعداد اللازم للمسير في طريق التقدم والازدهار في هذه الحياة وتطبيق الأوامر الإلهية السمحاء، للفوز بالحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة، كما يلزم السعي في إقامة حكومة واحدة عالمية لكل المسلمين في العالم.
وأخيراً نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يطهر قلوبنا وينقي أرواحنا، ويملأها حباً له، وخشية منه، وتصديقاً به، وعملاً بكتابه وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وسيرة أهل بيت رسوله (عليهم السلام) وأوليائه الصالحين.
«اللّهم املأ قلبي حبّاً لك، وخشية منك، وتصديقاً وايماناً بك، وفرقاً منك، وشوقاً اليك، يا ذا الجلال والإكرام. اللّهم حبّب إليّ لقائك، واجعل في لقائك خير الرحمة والبركة، وألحقني بالصالحين، ولاتؤخرني مع الأشرار، وألحقني بصالح من مضى، واجعلني مع صالح من بقي، وخُذ بي سبيل الصالحين، وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم، ولاتردني في سوء استنقذتني منه يارب العالمين»(141).
من هدي القرآن الحكيم
عالم الذر والأصلاب
قال اللّه تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ * أَوۡ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشۡرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةٗ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ)(142).
وقال تبارك وتعالى: (وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ)(143).
وقال سبحانه: (فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٖ دَافِقٖ * يَخۡرُجُ مِنۢ بَيۡنِ ٱلصُّلۡبِ وَٱلتَّرَآئِبِ * إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجۡعِهِۦ لَقَادِرٞ)(144).
وقال تعالى: (هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡٔٗا مَّذۡكُورًا * إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا)(145).
عالم الأرحام
قال اللّه تعالى: (هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ)(146).
وقال سبحانه: (ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ)(147).
وقال عزّ وجلّ: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ)(148).
وقال جلّ وعلا: (وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ)(149).
وقال سبحانه: (وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ * ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ * ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ)(150).
عالم الدنيا
قال اللّه تعالى: (وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)(151).
وقال سبحانه: (ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ)(152).
وقال عزّ وجلّ: (إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ * وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ)(153).
قال اللّه تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ سَيَنَالُهُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَذِلَّةٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُفۡتَرِينَ)(154).
وقال سبحانه: (يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ)(155).
وقال جلّ اسمه: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ)(156).
خاتمة عالم الدنيا
قال تبارك وتعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)(157).
وقال سبحانه: (كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ)(158).
وقال تبارك اسمه: (قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ)(159).
عالم البرزخ
قول اللّه تعالى: (وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ)(160).
وقوله عزّ وجلّ: (وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ)(161)
وقوله سبحانه: (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ)(162).
عالم الآخرة
قال اللّه سبحانه: (وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ)(163).
وقال تعالى: (بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا * وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ)(164).
وقال عزّ وجلّ: (وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ)(165).
وقال جلّ وعلا: (وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا)(166).
من هدي السنّة المطهّرة
عالم الذر والأصلاب
قال الإمام الباقر عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام): «أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): أنت الذي احتج اللّه بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: ومحمد رسولي؟ قالوا: بلى. قال: وعلي بن أبي طالب وصيي؟ فأبى الخلق جميعاً إلّا استكباراً، وَعَتَوا من ولايتك إلّا نفر قليل، وهم أقل القليل، وهم أصحاب اليمين»(167).
وعن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: (مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ)(168)؟ فقال: «المخلَّقة، هم الذر الذين خلقهم اللّه في صلب آدم (عليه السلام) أخذ عليهم الميثاق، ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق، وأما قوله: (وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ) فهم كل نسمة لم يخلقهم اللّه في صلب آدم (عليه السلام) حين خلق الذر، وأخذ عليهم الميثاق، وهم النطف من العزل والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء»(169).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن اللّه كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار، وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً (عليهما السلام)، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شيء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد اللّه وأبي طالبٍ (عليهما السلام)»(170).
وقال الإمام الصادق عن أبيه عن جده عن أبيه (عليهم السلام): «سُئل النبي (صلى الله عليه وآله) أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وهبط بي إلى الأرض في صلبه، وركبت السفينة في صلب نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق لي أبوان على سفاح قط، ولم يزل اللّه عزّ وجلّ ينقلني في الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، هادياً مهدياً، حتى أخذ اللّه بالنبوة عهدي وبالإسلام ميثاقي، وبين كل شيء من صفتي، وأثبت في التوراة والإنجيل ذكري ورقاني إلى سمائه، وشق لي إسماً من أسمائه الحسنى، أمتي الحمادون، فذو العرش محمود وأنا محمد»(171).
وعن الحسين بن نعيمٍ الصحاف قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه: (فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ)(172)؟ فقال: «عرف اللّه عزّ وجلّ إيمانهم بموالاتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم»، وسألته عن قوله عزّ وجلّ: (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ)(173)؟ فقال: «أما واللّه، ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا (عليه السلام) إلّا في ترك ولايتنا وجحود حقنا، وما خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الأمة حقنا، واللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ»(174).
عالم الأرحام
قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إن اللّه عزّ وجلّ إذا أراد أن يخلق النطفة التي مما أخذ عليها الميثاق في صلب آدم، أو ما يبدو له فيه، ويجعلها في الرحم، حرّك الرجل للجماع، وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري، فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوماً، ثم تصير علقةً أربعين يوماً، ثم تصير مضغةً أربعين يوماً، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث اللّه ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم، وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن، بإذن اللّه، ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري، واشترطا لي البداء فيما تكتبان، فيقولان: يا رب، ما نكتب؟ فيوحي اللّه إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، فيرفعان رءوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة أمه، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه، شقياً أو سعيداً وجميع شأنه ـ قال ـ فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح، ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه، ثم يقيمانه قائماً في بطن أمه ـ قال ـ فربما عَتا فانقلب، ولا يكون ذلك إلّا في كل عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً، أو غير تام، أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي، وينفذ فيه أمري، فقد بلغ أوان خروجه. ـ قال ـ فيفتح الرحم باب الولد فيبعث اللّه إليه ملكاً يقال له: زاجر فيزجره زجرةً، فيفزع منها الولد، فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن؛ ليسهل اللّه على المرأة وعلى الولد الخروج ـ قال ـ فإذا احتبس زجره الملك زجرةً أخرى، فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة»(175).
وعن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الخلق؟ قال (عليه السلام): «إن اللّه تبارك وتعالى، لما خلق الخلق من طين، أفاض بها كإفاضة القِداح، فأخرج المسلم فجعله سعيداً، وجعل الكافر شقياً، فإذا وقعت النطفة تلقتها الملائكة فصوروها، ثم قالوا: يا رب، أذكراً أو أنثى؟ فيقول الرب جلّ جلاله أي ذلك شاء، فيقولان: تبارك اللّه أحسن الخالقين، ثم توضع في بطنها، فتردد تسعة أيام في كل عرق ومَفْصل، ومنها للرحم ثلاثة أقفال: قفل في أعلاها مما يلي أعلى الصرة من الجانب الأيمن، والقفل الآخر وسطها، والقفل الآخر أسفل من الرحم، فيوضع بعد تسعة أيام في القفل الأعلى، فيمكث فيه ثلاثة أشهر، فعند ذلك يصيب المرأة خبث النفس والتهوع، ثم ينزل إلى القفل الأوسط، فيمكث فيه ثلاثة أشهر وصرة الصبي فيها مجمع العروق، وعروق المرأة كلها منها يدخل طعامه وشرابه من تلك العروق، ثم ينزل إلى القفل الأسفل، فيمكث فيه ثلاثة أشهر، فذلك تسعة أشهر، ثم تطلق المرأة، فكلما طلقت انقطع عرق من صرة الصبي، فأصابها ذلك الوجع، ويده على صرته، حتى يقع إلى الأرض ويده مبسوطة، فيكون رزقه حينئذ من فيه»(176).
فرصة العمر
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «... واللّه، ما يساوي ما مضى من دنياكم هذه بأهداب(177) بردي هذا، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء، وكل إلى بقاء وشيك وزوال قريب، فبادروا العمل وانتم في مهل الأنفاس وجدة الاحلاس(178) قبل أن تأخذوا بالكظم(179) فلا ينفع الندم»(180).
وقال الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «الفرصة تمر مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير»(181).
وقال الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): «يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع ـ وكان يتلو بعد هذه الموعظة: ـ (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ)»(182)(183).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «بادر بانتهاز البُغْية(184) عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيّام الخالية مع صحة الأبدان...»(185).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «... من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته؛ لأن من شأن الأيام السلب، وسبيل الزمن الفوت»(186).
حب الدنيا والاغترار بها
فيما أوصى اللّه تعالى إلى موسى (عليه السلام): «إعلم إن كل فتنةٍ بذرها حبّ الدنيا»(187).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «حب الدنيا أصل كل معصية وأوّل كل ذنب»(188).
وفي حديث المعراج: «... لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض، وصام صيام أهل السماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري، ثمّ أرى في قلبه من حب الدنيا ذرّة أو سمعتها، أو رئاستها، أو حُليتها، أو زينتها، لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي...»(189).
وقال الإمام زين العابدين (عليهما السلام): «... ما من عمل بعد معرفة اللّه عزّ وجلّ، ومعرفة رسوله (صلى الله عليه وآله) أفضل من بغض الدنيا... فتشعَّب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهنّ في حب الدنيا، فقال الأنبياء (عليهم السلام) والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة»(190).
عالم البرزخ
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً، سلطت الأرض عليهم فيه فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون وضماراً(191) لايوجدون»(192).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من موضع قبرٍ إلّا وهو ينطق كل يومٍ ثلاث مراتٍ: أنـا بيت التراب، أنـا بيت البلاء، أنـا بيت الدود. ـ قال ـ فإذا دخله عبد مؤمن قال: مرحباً وأهلاً، أما واللّه لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني، فسترى ذلك. ـ قال ـ فيفسح له مد البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، ـ قال ـ ويخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه، فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئاً قط أحسن منك!! فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله. ـ قال ـ ثم تؤخذ روحه، فتوضع في الجنة حيث رأى منزله، ثم يقال له: نَم قرير العين، فلا يزال نفحة من الجنة تصيب جسده، يجد لذتها وطيبها حتى يبعث. قال: وإذا دخل الكافر قال: لا مرحباً بك ولا أهلاً. أما واللّه لقد كنت أبغضك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني، سترى ذلك. قال: فتضم عليه فتجعله رميماً، ويعاد كما كان، ويفتح له باب إلى النار، فيرى مقعده من النار. ثم قال: ثم إنه يخرج منه رجل أقبح من رأى قط، قال: فيقول: يا عبد اللّه، من أنت!! ما رأيت شيئاً أقبح منك؟ قال: فيقول: أنا عملك السيء الذي كنت تعمله ورأيك الخبيث. قال: ثم تؤخذ روحه فتوضع حيث رأى مقعده من النار، ثم لم تزل نفخة من النار تصيب جسده، فيجد ألمها وحرّها في جسده إلى يوم يبعث، ويسلّط اللّه على روحه تسعةً وتسعين تِنّيناً تنهشه، ليس فيها تِنّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئاً»(193).
وعن عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إني سمعتك وأنت تقول: «كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم».
قال: «صدقتك كلهم واللّه في الجنة».
قال: قلت: جعلت فداك، إن الذنوب كثيرة كبار؟!
فقال: «أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع (صلى الله عليه وآله) أو وصي النبي (عليه السلام) ولكني واللّه أتخوف عليكم في البرزخ».
قلت: وما البرزخ؟
قال: «القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(194).
ما ينفع للدنيا والبرزخ والآخرة
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في أبلغ الوصايا لجميع الدنيا والآخرة: «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونُصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.
أما بعد، فإن فيما تبينتُ من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر عليَّ، وإقبال الآخرة إليّ، ما يزعني(195) عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرَّح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدٍّ لايكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. فكتبت إليك كتابي مستظهراً به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني أوصيك بتقوى اللّه، أي بني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به. أحْيِ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوره بالحكمة، وذللِّه بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصِّره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفُحْش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسِر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلَّف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته؛ فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمُر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وبايِن من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعوّد نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهَّم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع. واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، ولاينتفع بعلم لا يحق تعلمه.
أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهناً، بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً منها قبل أن يَعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصَّعب النفور، وإنما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بُغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه.
أي بني، إني وإن لم أكن عُمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله(196)، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية. وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم، مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك وصيتي هذه.
واعلم يا بني، أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى اللّه، والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً، فانظر فيما فسرت لك، وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل.
فتفهَّم يا بني وصيتي، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم. فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنك أول ما خلقت به جاهلاً، ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك.
واعلم يا بني، أن أحداً لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول (صلى الله عليه وآله) فارضَ به رائداً، وإلى النجاة قائداً، فإني لم آلك نصيحة، وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.
واعلم يا بني، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أولٌ قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله، في صغر خطره وقلة مقدرته وكثرة عجزه وعظيم حاجته إلى ربه، في طلب طاعته والخشية من عقوبته والشفقة من سخطه؛ فإنه لم يأمرك إلّا بحسن، ولم ينهك إلّا عن قبيح.
يا بني، إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أعدّ لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال؛ لتعتبر بها وتحذو عليها، إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر، نبا بهم منزل جديب، فأموا منزلاً خصيباً وجَناباً مريعاً(197)، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم؛ ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً، ولا يرون نفقةً فيه مغرماً، ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم، ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خَصيب، فنبا بهم إلى منزل جَديب، فليس شيء أكره إليهم، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.
يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحُسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك. ولا تقل ما لا تعلم، وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يُقال لك. واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك. واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك؛ فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه، وحمّله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلّك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.
واعلم أن أمامك عقبةً كئوداً(198)، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة، إما على جنة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب، ولا إلى الدنيا منصرف.
واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسْك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً، وحسب سيئتك واحدةً وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب، وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة؛ ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له.
واعلم يا بني، أنك إنما خُلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.
يا بني، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتةً فيبهرك.
وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك اللّه عنها، ونعت هي لك عن نفسها، وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها، نِعَم معقلة، وأخرى مهملة، قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة(199) بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، ولا مسيم(200) يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها رباً، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها. رويداً يسفر الظلام كأن قد وردت الأظعان، يوشك من أسرع أن يلحق.
واعلم يا بني، أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يُسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً(201). واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفّض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رُبّ طلب قد جر إلى حرب، وليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب؛ فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً، وما خير ُخيرٍ لا ينال إلّا بشر، ويسرٍ لا ينال إلّا بعسر.
وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل؛ فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإن اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه. وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء(202). وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسرّه، وربّ ساع فيما يضره، من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم، إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً، ربما كان الدواء داءً والداء دواءً، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح.
وإياك والاتكال على المُنى؛ فإنها بضائع النوكى(203)، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك، بادر الفرصة قبل أن تكون غصةً، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يئوب، ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، ولكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدّر لك، التاجر مخاطر، ورب يسير أنمى من كثير، لا خير في معين مَهين ولا في صديق ظنين، ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده، ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج. احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحةً، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعةً أحلى منها عاقبةً، ولا ألذ مغبةً. ولِن لمن غالظك؛ فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك بالفضل؛ فإنه أحلى الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيةً يرجع إليها، إن بدا له ذلك يوماً ما. ومن ظن بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه؛ فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك؛ فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.
واعلم يا بني، أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعاً على ما تفلّت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان؛ فإن الأمور أشباه. ولا تكونن ممن لاتنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه؛ فإن العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى. وربّ بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب، من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين اللّه سبحانه، ومن لم يبالك فهو عدوك، قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً، ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده، أخّر الشر، فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب، إذا تغير السلطان تغير الزمان، سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً، وإن حكيت ذلك عن غيرك... استودع اللّه دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة، والدنيا والآخرة، والسلام»(204).
زراعة الدنيا للآخرة
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «التعاون على إقامة الحق أمانة وديانة»(205).
وقال (عليه السلام): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين»(206).
وقال (عليه السلام): «خير الناس من نفع الناس»(207).
وقال (عليه السلام): «إذا رأيت مظلوماً فأعنه على الظالم»(208).
وقال (عليه السلام): «فعل المعروف وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف آلةُ السيادة»(209).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «كما تعين تُعان»(210).
اضف تعليق