الأحزاب تعبير عن التعددية التي دعا إليها الإسلام للتنافس في البناء والتقدم، وعدم حكر الساحة لجهة واحدة أو شخص واحد، المولِّد للاستبداد والدكتاتورية، فالإسلام يؤكد على ثقافة التعددية والحرية قبل كل شيء، ثم يجيز لهم التحزب والتنافس، وقاية من سقوط الأحزاب في بؤرة التنافس الأعمى، مثل تكفير كل منهم الآخر...
الإسلام والتطور السياسي
قال تعالى: (وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ)(1).
في التفسير: أن (وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ) أي: أيام النصر والهزيمة وأيام القرح (نُدَاوِلُهَا) أي: نصرّفها (بَيۡنَ ٱلنَّاسِ) فيوم لهؤلاء على أولئك، ويوم لأولئك على هؤلاء، فإذا نصرنا المؤمنين كان ذلك لإيمانهم، وإذا هُزموا كان امتحاناً لهم.
(وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) أي: أن صرف الأيام ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره، فإنه ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال»(2) وقال (عليه السلام): «عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»(3).
ومعنى (لِيَعۡلَمَ): أن معلومه سبحانه يقع في الخارج، لا أنه كان جاهلاً
ـ سبحانه ـ ثم علم، فإن العلم لما كان أمراً إضافياً بين العالم والمعلوم، يقال: (علم) باعتبارين: إما باعتبار العالم فيما كان جاهلاً ثم علم، وإما باعتبار المعلوم فيما كان المعلوم غير خارجي ثم صار خارجياً (وَ) لـ (يَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ) أي: أن مداولة الأيام لفوائد، ومن جملة تلك الفوائد أن يتخذ اللّه سبحانه منكم مقتولين يستشهدون في سبيل اللّه، ويبلغون الدرجات الراقية بالشهادة، أو ليكون جماعة شهداء على آخرين بالصبر أو الجزع، بالثبات أو الهزيمة، فإن إيصال جماعة قابلة إلى مرتبة أن يكونوا شهداء نعمة وغرض رفيع، لكن المعنى الأول أقرب (وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر، أو بالهزيمة.
(وَ) من فوائد تداول الأيام بين الناس أنه (لِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) أي: يخلّصهم من المنافقين فيتبين المؤمن من المنافق، أو يخلصهم من الذنوب، فإن بالأهوال تذاب الذنوب، وبالشدائد تكفّر الخطايا (و) لـ (وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ) يهلكهم، فإن الكفار ينقصون شيئاً فشيئاً حتى يهلكوا جميعاً(4).
وذكروا في تفسير الآية المباركة أيضاً: أن (وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ) أي: نصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، وإنما يصرف اللّه الأيام بين المسلمين وبين الكفار، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحياناً، وتشديدها عليهم أحياناً، لا بنصرة الكفار عليهم؛ لأن اللّه لا ينصر الكفار على المسلمين، لأن النصرة تدل على المحبة، واللّه تعالى لا يحب الكافرين، وإنما جعل اللّه الدنيا متقلبة، لكيلا يطمئن المسلم إليها، ولتقل رغبته فيها، أو حرصه عليها، إذ تفنى لذاتها، ويظعن مقيمها، ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها. وإنما جعل الدولة مرة للمؤمنين، ومرة عليهم، ليدخل الناس في الإيمان على الوجه الذي يجب الدخول فيه كذلك، وهو قيام الحجة، فإنه لو كانت الدولة أبداً للمؤمنين، لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفال(5).
إن من المعلوم أن أنماط الحياة تختلف من زمن إلى زمن، وبذلك تختلف متطلباتها واحتياجاتها، فكل مرحلة من المراحل تمتاز بنمط معين من الحياة، وأسلوب خاص من العيش. وباختلاف مراحل المجتمعات وتطورها، يوماً بعد يوم، يختلف أيضاً هيكل الحكومة وشكلها العام.
فنحن يمكننا أن نتعرف على هذا الاختلاف الحكومي في الهيكل والشكل العام من خلال استقرائنا ـ في الجملة ـ للحكومات السابقة، منذ القرن الأخير المنصرم، وإلى حكومات اليوم. فنلاحظ بروز ظاهرة الأحزاب بشكل واضح جداً، على شكل كيانات مستقلة، يهتم بها المجتمع، باعتبار أن الأحزاب عبارة عن مؤسسات تربوية وسياسية في آن واحد، وبما أن الإسلام بدوره هو الدين الذي يمتد مع البشرية إلى آخر يوم على هذا الكوكب، فهو يواكب ويستوعب هذه التطورات، بل يضع لها مناهج شرعية خاصة، لكي تصب في مصلحة المسلمين.
ظاهرة الأحزاب
ومن جملة تلك التطورات السياسية: الأحزاب، فقد أصبح اليوم وجود الأحزاب ظاهرة واقعية في كل المجتمعات، إذ لايكاد يخلو حكم أو مجتمع في العالم من الأحزاب السياسية. وقد تكون ظاهرة ضرورية في بعض المجتمعات، والإسلام ـ بما أنه هو البديل الأفضل عن كافة الأنظمة العالمية اليوم ـ لا بد أن تكون لديه وجهة نظر، أو طريقة خاصة، في استيعاب الأحزاب، وصهرها ضمن نظامه العالمي.
فالإسلام لا يرفض ـ بشكل مبدئي ـ ظاهرة الأحزاب بل هو يهذب مناهجها، ويؤطرها بأطر صحيحة، كي تعمل لصالح النظام العالمي الإسلامي ولصالح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.
ولعل ظاهرة الأحزاب ليست ظاهرة جديدة في الإسلام؛ بل نحن نرى مثل هذه الظاهرة في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وما بعده أيضاً، نعم إنها كانت تختلف في البناء والشكل والهدف؛ ففي التاريخ: إنه كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يعتمد على جهتين وكتلتين، هما: الأنصار والمهاجرون، نعم إن الأنصار والمهاجرين كانا يعملان من أجل هدف واحد، حيث لا يوجد لدينا في الإسلام تصادم في الأهداف والإرادات، بل كل الأحزاب تعمل على توعية المجتمع، ونشر مفاهيم الدين المبين، وقيادة الأمة نحو مستقبل أفضل.
وبكلمة واحدة نقول: إن الأحزاب تعبير عن التعددية التي دعا إليها الإسلام للتنافس في البناء والتقدم، وعدم حكر الساحة لجهة واحدة أو شخص واحد، المولِّد للاستبداد والدكتاتورية، فالإسلام يؤكد على ثقافة التعددية والحرية قبل كل شيء، ثم يجيز لهم التحزب والتنافس، وقاية من سقوط الأحزاب في بؤرة التنافس الأعمى، مثل تكفير كل منهم الآخر، والعمل على هدم بعضهم البعض، والصراع السلبي على كرسي الحكم، كما نجده اليوم في الظاهرة الحزبية المنتشرة في البلاد الإسلامية.
وإن مما يؤخذ على هذه الأحزاب وخاصة غير الإسلامية منها كالبعثية... والشيوعية(6)، هو خروجها عن الحدود الشرعية فهي تصنع جملة من القوانين الوضعية، كدستور للحكم، يفرض تحكيمها على الشعوب، فكل حزب لديه جملة من التشريعات التي تخالف الإسلام وقوانينه السمحة، ويحكم بها عند تسلطه على رقاب الشعب، بينما لدينا في الإسلام عامل الثبات الدائم، وهو أن اللّه عزّ وجلّ خالق الإنسان وهو العالم بمصالحه فهو المشرّع الوحيد، ولا تشريع مقابل تشريع اللّه سبحانه، قال تعالى: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ)(7)، بل إن كل التشريعات الإنسانية تكون ناقصة دوماً، وهذا ما تشهد به التجربة، وأوضح من ذلك هو تصريح القرآن: (أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ)(8).
فالحقيقة التي صرح بها القرآن الحكيم وبكل تأكيد: أن كل حكم غير حكم اللّه هو حكم جاهلي ناقص لا يوصل الشعوب إلى عزّ وسعادة، ولا إلى استقرار واطمئنان، بل بالعكس يذيقهم الويل والدمار، والشقاء والحرمان، كما جربناه على مدى قرابة قرن من الزمان المعاصر.
الحزب مجال للتنافس الشرعي
الحزب هو المؤسسة التربوية السياسية التي تقوم بخدمة الناس، فوظيفته الأولية ومهمته الرئيسية: تقديم الخدمات الإنسانية، والثقافية، والاقتصادية، والعمرانية، لكافة أبناء الشعب، وليس الحزب لمجرد الوصول إلى الحكم والارتقاء إلى المناصب الحكومية، وإن كان لا يتنافى معه لو انتخبهم الشعب للتصدي للحكم وتشكيل الحكومة.
فالحزب إذن مؤسسة سياسية تخدم الناس في طول الحكم وليس في عرضه، والمراد هنا بالتعريف: الأحزاب الإسلامية والوطنية، دون الإلحادية والإرهابية.
ثم إن من مهمات هذه الأحزاب هو: أن تتنافس فيما بينها انطلاقاً من الإيمان باللّه واليوم الآخر، وتنافسها يكون في طاعة اللّه عزّ وجلّ، كما عمل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عام الأحزاب عند حفر الخندق، حيث قسّم أصحابه إلى فرقتين تتنافس فيما بينها لحفر الخندق من أجل نصرة الإسلام. وعندما اختلف المسلمون على سلمان الفارسي (رحمه الله) حيث كان رجلاً قوياً ذا بصيرة ورأي فقال الأنصار: سلمان منا، وقال المهاجرون: سلمان منا، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «سلمان منا أهل البيت».
فقد روي: إن النبي (صلى الله عليه وآله) خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «سلمان منا أهل البيت».
قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب، أخرج اللّه من باطن الخندق صخرة مروة(9) كسرت حديدنا، وشقت علينا. فقلنا: يا سلمان، إرق إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره؛ فإنا لا نحب أن نتجاوز خطه.
قال: فرقي سلمان إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول اللّه، خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحيك(10) فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نتجاوز خطك.
قال: فهبط رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) تكبيرة فتح، وكبّر المسلمون. ثم ضربها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ثالثة فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه تكبيرة فتح وكبر المسلمون. وأخذ بيد سلمان، ورقي. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، لقد رأيت منك شيئاً ما رأيته منك قط؟!
فالتفت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى القوم وقال: «رأيتم ما يقول سلمان؟».
فقالوا: نعم.
قال: «ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق لي ما رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا».
فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر.
فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل؛ ويعلمكم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق(11)، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!
فنزل القرآن: (وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا)(12)(13).
وفي يوم عاشوراء
وكما عمل الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء عندما ابتدأ جيش ابن زياد بشن الحرب عليه، حيث قام الإمام (عليه السلام) بتوزيع أفراده إلى مجموعتين متنافستين على الابتداء بالتضحية في سبيل اللّه، هم (بنو هاشم) و(الأصحاب) بحيث أعطى راية لكل منهما ثم أعطى راية بني هاشم بيد العباس (عليه السلام) (14).
فالأحزاب الإسلامية لا بد أن يكون هدفها العمل في طاعة اللّه، أما آلية العمل وشكله، فهذا ما يختلف من زمان إلى آخر، ومن عصر إلى عصر.
ثم لا بد أن تمتاز الأحزاب الإسلامية بضمان حرية الرأي، والتعددية السياسية.
بينما نلاحظ كيف عمل الأمويون والعباسيون على اختلاق أحزاب وتيارات غير شرعية داخل الأمة الإسلامية هدفها تهميش الإسلام ومبادئه، كالمرجئة(15)، ثم كان الهدف من إنشاء وتأسيس هكذا أحزاب هو المادة والدنيا والرئاسة والتسلط على رقاب الناس، ومحاولة إبعاد الناس عن الاتصال بأهل البيت (عليهم السلام)، فقد ابتدعت الدولة الأموية وكذلك العباسية أحزاباً دخيلة، وقررت أن تكون بمثابة كيانات، تقابل كيان أهل البيت (عليهم السلام)، وتعارض وجودهم وتواجدهم.
ثم عملت السلطات الأموية والعباسية على الاستبداد بالحكم وانتهاج سياسة الحزب الواحد الحاكم، وهو الحزب الأموي أو العباسي، وضرب كافة المعارضين الذين ينادون بالإصلاح، ويدعون إلى تقوى اللّه عزّ وجلّ، وإن كان رجل الإصلاح هو ابن بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، كما حصل لهم ذلك مع كل واحد واحد من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وبالأخص مع سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام).
فإن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يريدون للناس حياة طيبة هادئة، خالية من مظاهر الظلم والاستبداد والجور والعنف والإرهاب.
وهذه الحياة لا تتحقق في ظل حكم بني أمية، أو حكم بني العباس المستبدين بالحكم، والمتسلطين بالظلم؛ ولذلك كانوا (عليهم السلام) يحاربون ظلمهم بصورة مباشرة، كما هو الحال في الإمام الحسين (عليه السلام)، أو بصورة غير مباشرة كما هو حال بقية الأئمة (عليهم السلام)، لأنهم كانوا يعلمون أن التسلط الفردي على جهاز الحكم، يلغي كل الفرص التي تدعو أفراد الأمة إلى أن تتنافس فيها نحو الخير والفضيلة.
نعم أن ثمار التعددية والأحزاب السياسية المتثقفة بالثقافة التنظيمية الصحيحة تعود للأمة ذاتها. ومن هنا نرى ضرورة التعددية الحزبية مع رعاية الموازين الشرعية.
من فوائد التعددية الحزبية
من الواضح أن للتعددية فوائد عديدة، منها ما يلي:
أولاً: الحيلولة دون إقامة أحزاب سرية، فإن الأحزاب السرية كثيراً ما تشكل خطراً على الأمة؛ ذلك لأن إقامة الأحزاب تحت الأرض وبشكل سري تكون عادة في الدول التي تتسم بالدكتاتورية أو في دول الحزب الواحد، والتي تُكره الناس على الانتماء إلى الحزب الحاكم فقط والقبول به، ولا تسمح لأحد بالانتماء إلى حزب آخر، أو تأسيس حزب غيره.
ففي الدولة التي لا تسمح فيها الحكومة بتعدد الأحزاب، بل تجبر الناس على القبول بالحزب الواحد وهو الحزب الحاكم، فإنه مضافاً إلى أن إجبار الناس على هذا الأمر بحد ذاته لاشرعية له ويمثل صفة طاغوتية لهذه الحكومة، تبدأ بعض المجاميع الشعبية بالتحرك لإنشاء حزب أو تكتل سري لمواجهة الحزب القائم الحاكم المتسلط على رقاب الناس. وبالمقابل تبدأ الحكومات بمنع هذه المجاميع وزجّها في السجون. بالإضافة إلى مصادرة الحريات، وكبت الأنفاس، وسحق كرامة الإنسان، وهذا يوجب الكثير من المآسي والويلات.
أما البلاد التي تتوفر فيها نسبة لا بأس بها من الحرية والتعددية، فكل حزب يطرح برامجه وخططه في العلن، والناس مخيرون في الانضمام إلى أي حزب شاؤوا، وبما يرونه من المصلحة، ولم يحصل ـ عادة ـ ما في بلادنا من سحق حقوق الإنسان وكرامته.
إذن، فالتعددية الحزبية توفر جواً مستقراً مريحاً للمجتمع، بخلاف حكومة الحزب الواحد، فإنها تخلق جواً قلقاً مضطرباً يسوده الإرهاب والعنف.
ثانياً: يجب أن نعرف أن السياسة مثل العلوم الأخرى، تحتاج إلى ثقافة وتربية، فكما أن الجامعة والمدرسة يهتم كل منهما بالجانب العملي والعلمي للطالب، فالسياسة كذلك. فمن أراد أن يصل إلى رئاسة الدولة، لا بد له من ممارسة بعض الأدوار السياسية، التي تخدمه غداً، وخير تطبيق لهذا المعنى هو عندما ينضم الفرد إلى الحزب، فإنه سينمو فكرياً وسياسياً، ويكون قادراً على تسلّم المراكز القيادية، لما مرّ به من تجربة داخل الحزب، حيث سيتعلم ما معنى الشخصية السياسية، وما هي مواصفاتها ومؤهلاتها، كما ويرى نواقصه، وما يحتاج إليه، ويدرك سياسة الدول، واختلاف الآراء، وتعدد الحكومات، وأساليب سياستها، وغيرها من الأمور.
أما إذا كانت سياسة الدولة سياسة الحزب الواحد، فإنها سوف تسير على سياسة واحدة، جامدة غير مرنة، لأنها تمثّل فكرة الحزب الواحد نفسه الذي لا يلبي تطلعات وآمال كل طبقات الشعب ـ كما هو الحال بالنسبة للعراق ـ وسوف ينشغل أفراد الأمة بمعارضة هذا الحزب ومقارعته، مما يفوت عليهم الفرصة في اكتساب الثقافة السياسية المطلوبة ونموها التي تؤهلهم لقيادة المجتمع وبناء البلد بالشكل المطلوب.
حرية الرأي والتعددية في ظل الإسلام
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «من استبد برأيه هلك»(16).
لقد جاء في الأخبار والأحاديث الشريفة: أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان أحياناً يخبر عن شخص بأنه سيخلق فتنة بين المسلمين، أو سيحدث ديناً باطلاً، ثم لا يعمد إلى قتله، ولا يجيز للمسلمين أن يمسوه بأذى.
وهذا يدخل في سياسية العفو العظيمة، وحرية إبداء الرأي، وتحمل المعارضة السياسية. وهو مما أتاح للرسول (صلى الله عليه وآله) تأسيس الدولة الإسلامية في وسط عظيم من عواطف الناس واختلاف آرائهم، فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقتل هذا ويقتل ذاك، لسبب أو لآخر، لما تأسست دولة الإسلام، ولا استحكمت أصولها.
روى الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد قال: لما قسّم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) غنائم حنين، أقبل رجل طويل آدم أجنأ(17) بين عينيه أثر السجود، فسلّم ولم يخصّ النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «وكيف رأيت»؟
قال: لم أرك عدلت!
فغضب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وقال: «ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون»؟!
فقال المسلمون: ألا نقتله؟
قال: «دعوه، فإنه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم اللّه على يد أحب الخلق إليه من بعدي».
فقتله أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيمن قتل يوم النهروان من الخوارج(18).
أما سياسة حكومات اليوم فإنها ما إن تسمع بأن فلاناً ينوي أو يفكر بأمور لعلها تعارض سياسة الدولة، حتى تباكره السلطات بالقبض عليه والزج به في مطامير السجون.
الإسلام وسياسة الانفتاح
لقد كانت دولة أمير المؤمنين (عليه السلام) كدولة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، سياسة وانفتاحاً، فقد فسح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) باب الحرية الإنسانية لأهل المدينة على مصراعيها، فكما كان يعيش في المدينة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) المسلمون وغيرهم من اليهود والنصارى والمنافقين، مختلطين في دورهم وأسواقهم، يتعاملون ويمارسون حرياتهم المتبادلة في ظل الإسلام، كذلك كان المسلمون واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من سائر الملل والنحل يعيشون في ظل الإسلام عيشة سعيدة هانئة في عزّة ورفاه في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولقد كانت سياسته تستوعب الخصوم والأعداء، وتستقطب المناوئين والمعارضين، وتحاول التوصّل معهم سلمياً إلى حلول مرضية.
ومما يُذكر أن (ابن الكوّاء) كان رجلاً منافقاً، خارجياً، مشاكساً لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك في قمّة قدرة الإمام (عليه السلام) الشاملة، وفي أوج دولته الواسعة، التي كانت ذلك اليوم أوسع دولة على وجه الأرض، فكان ابن الكوّاء يلقي اعتراضاته على أمير المؤمنين (عليه السلام) في الأوساط العامة، وبصورة شديدة وحاقدة وبكل حرية.
فقد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في صلاة الصبح فاعترضه ابن الكوّاء رافعاً صوته من خلفه بالقرآن: (وَلَقَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ)(19).
فأنصت أمير المؤمنين (عليه السلام) تعظيماً للقرآن، حتى إذا فرغ ابن الكوّاء من الآية عاد الإمام (عليه السلام) إلى قراءته.
فاعترضه ابن الكواء ثانية وأعاد نفس الآية.
فأنصت الإمام (عليه السلام) للقرآن مرة ثانية حتى إذا أتم ابن الكوّاء الآية عاد الإمام لمواصلة صلاتة.
فأعاد ابن الكواء الآية ثالثة.
فأنصت الإمام تعظيماً للقرآن.
فلما أتم ابن الكواء قراءة الآية للمرة الثالثة، قرأ الإمام (عليه السلام) وكأنه يجيب على اعتراضه: (فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)(20).
ثم أتم السورة وركع(21).
فهل هناك انفتاح كهذا الانفتاح؟
وهل هناك حرية كهذه الحرية؟
بحيث تسمح لرجل منافق أن يرد على الرئيس الأعلى للدولة، ويتعرض له بنسبة الشرك وحبط الأعمال! ولمن لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو عين الإيمان ولولاه لم يُعرف المؤمنون، ثم ينصت له الإمام (عليه السلام) ويتم صلاته، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً؟!
عفو عن ذنب
ويروى: أن امرأة ذات مسحة من الجمال مرت على جماعة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن أبصار هذه الفحول طوامح(22) وإن ذلك سبب هبابها(23)، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته».
فقال رجل من الخوارج: قاتله اللّه كافراً ما أفقهه!
فوثب القوم ليقتلوه، فقال (عليه السلام): «رويداً، إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب»(24).
مع عائشة
وقالت عائشة يوم الجمل: ملكت فأسجح، فجهزها أحسن الجهاز وبعث معها تسعين امرأة أو سبعين، واستأمنت لعبد اللّه بن الزبير على لسان محمد بن أبي بكر، فآمنه وآمن معه سائر الناس.
وجيء بموسى بن طلحة بن عبيد اللّه فقال له: «قل أستغفر اللّه وأتوب إليه ثلاث مرات» فقال وخلى سبيله، وقال (عليه السلام): «اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كُراع(25) فخذه، واتق اللّه فيما تستقبله من أمرك، واجلس في بيتك»(26).
وله (عليه السلام) مواقف مشابهة كثيرة، حتى كان منه أن قال (عليه السلام): «إلى كم أغضي الجفون على القذى، وأسحب ذيل على الأذى، وأقول لعل وعسى»(27).
وهناك مواقف كثيرة من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) تبين الحرية في الإسلام، وعدم إكراه فرد أو جماعة على أمر هم لا يرضون به، فلم يُكره النبي (صلى الله عليه وآله) النصارى أو اليهود على الدخول في الإسلام، وكذا الإمام علي (عليه السلام)، فهذه المواقف الكريمة تكشف عن الحرية الإسلامية الواسعة بجلاء، وتبيّن كفاءة الإسلام وقدرته على الحكم فإن: «آلة الرياسة سعة الصدر»(28).
الدولة الإسلامية دولة المؤسسات والتكتلات
لكي تكون الدولة الإسلامية دولة عصرية، آمنة من التزعزع والانهيار، ومن التقهقر والانهزام، ومسرعة في التطور والتقدم، فعلى المجتمع الإسلامي أن ينقلب إلى مئات الآلاف من المؤسسات بل الملايين منها، والتي من جملتها الأحزاب الإسلامية، وهذه الكتل تعمل لأجل البناء والمنافسة في الخير، وتحقيق أهداف الإسلام.
وقد كان التكتل منذ زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) بين القبائل من ناحية، وبين الأوس والخزرج من ناحية ثانية، وبين المهاجرين والأنصار من جهة ثالثة. وكانت كلها تعمل لصالح الإسلام والمسلمين. وقد كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد أقرّها على ذلك حينها. فكان يجعل لكل قبيلة رئيساً ولواءً.
نعم، يجب أن تكون التكتلات والأحزاب للتعارف لا للتناكر.
وحيث إن الزمان الحاضر لا يمكن فيه الاكتفاء بالتكتل القبلي وما أشبه؛ لأن الثقافة والآلة الحديثة ونوعية الحياة لا تنحصر في قبيلة دون قبيلة، بل حسب المهن والثقافات وما أشبه، فكل تكتل أصبح له نقابة خاصة به، كنقابة الأطباء، ونقابة الصحفيين، ونقابة المعلمين، وهكذا وهلمَّ جرّاً.
والحزب المحظور في الإسلام هو الحزب الذي يعمل الحرام أو ينتهي إلى برلمان يكون بيده التشريع في قبال تشريع اللّه عزّ وجلّ.
وفي الحقيقة إن التكتلات والأحزاب والمؤسسات ليست إلّا مدارس للتجربة الحيوية في سبيل صقل المواهب، وظهور الكفاءات، والكشف عن مؤهلات الإنسان.
ثم إن الحريات الإسلامية توفر لكل فرد ولكل كتلة وحزب، كل أسباب حاجتها، وجميع وسائل تقدمها.
ومما يمكن القول به: إن الحزب مؤسسة يستطيع الفرد من خلالها أن يكشف نفسه، ويطوّر إمكانياته؛ وذلك لأن من مهمات الحزب ـ بالمعنى الصحيح ـ هو القيام بتربية رجال سياسيين ـ على سبيل المثال ـ حيث إنه يتوفر في الأحزاب عادة أفضل فرصة للإعداد والنمو الذاتي ناهيك عن المجالات الأخرى التي تقوم بها الأحزاب كالتسهيلات الاقتصادية للمواطنين، أو المحافظة على المفاهيم الإسلامية، والدفاع عنها، ورد الشبهات، وإعمار البلدان، وما إلى ذلك.
فالحزب يقوم مقام المبلّغ الإسلامي، فبدل أن يكون المبلّغ شخصاً واحداً، فليكن على شكل مؤسسة، مع عدم الاستغناء على التأكيد من مختلف أنواع المبلّغ وأساليب التبليغ المشروعة.
ولقد كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يرسل ولاته إلى مختلف المناطق، ومعلوم أن ولاة أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا من العلماء والفقهاء والمبلغين، فكان يرسلهم إلى المناطق الإسلامية والأمصار، ويأمرهم بالرفق في الرعية، والنصح لهم ومداراتهم، مع اتباع الحق فيهم. فإذا رغب الناس فيه أبقاه، وإذا زهدوا فيه بعث آخر بدلاً عنه.
وهذا من النماذج الحية في الحرية الإسلامية السياسية والتي يمكن للأحزاب الحرة أن تكون ضماناً لتطبيقها.
نماذج من توصيات أمير المؤمنين (عليه السلام)
فمن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله قال فيه:
«أما بعد، فإن دهاقين(29) أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم ولا أن يُقْصوا ويُجْفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء، إن شاء اللّه»(30). وهذا ما يسمى بالحزم.
وفي كتاب آخر له (عليه السلام) بعثه إلى زياد ابن أبيه، وهو خليفة عامله عبد اللّه بن عباس على البصرة، وعبد اللّه عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها: «وإني أقسم باللّه قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر(31)، والسلام»(32).
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى زياد أيضا:
«فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك اللّه أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرِّغ(33) في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين، وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم، والسلام»(34).
وكان (صلوات اللّه عليه) يوصي لمن يستعمله على الصدقات بهذه الوصايا:
«انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تروِّعن مسلماً ولا تجتازن(35) عليه كارهاً ولا تأخذن منه أكثر من حق اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولاتُخدج بالتحية لهم(36)، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه وخليفته، لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك(37) منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه(38)، أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلّا بإذنه؛ فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلاتدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولا تسوأنّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين(39)، ثم خيِّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيِّره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه في ماله، فاقبض حق اللّه منه، فإن استقالك فأقله(40)، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق اللّه في ماله، ولا تأخذن عَوْداً ولا هرمة ولامكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عَوَار(41)، ولا تأمنن عليها إلّا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولاتوكل بها إلّا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً، غير معنف ولا مجحف(42) ولا ملغب(43) ولا متعب، ثم احدر(44) إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه: ألّا يحول بين ناقة وبين فصيلها ولا يمصر(45) لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب وليستأن بالنقب والظالع(46)، وليوردها ما تمر به من الغُدُر(47) ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطُرُق(48)، وليروحها في الساعات وليمهلها عند النِّطاف(49) والأعشاب، حتى تأتينا بإذن اللّه، بُدَّناً منقيات(50) غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، إن شاء اللّه»(51).
التعددية الغربية من بركات الإسلام
إن أوروبا والدول الغربية بصورة عامة بالرغم من عدم امتلاكها لمنهج الإسلام والعقيدة الصالحة، إلّا أن بعض بركات الإسلام شملها، فأصبح إدارة أمورها السياسية بشكل أو بآخر أفضل من بلادنا الاستبدادية، ولعلها من أفضل السياسات في العالم المعاصر وإن كانت السياسة الإسلامية هي السياسية الصحيحة التي تضمن للإنسان جميع حقوقه.
ففي كل دولة من دول الغرب توجد هناك عدة أحزاب حرة نسبياً، وفي كل أربع سنوات تجرى انتخابات حرة بين المرشحين، من الأحزاب ورئيس الدولة الحاكم.
ففي كل أربع سنوات تتبدل نوعاً ما سياسة الدولة، بفعل سياسة الحزب الذي يفوز بالانتخابات، وهذا يشبه ما دعا إليه القرآن الحكيم بقوله تعالى: (وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ)(52).
ولعل سر تقدمهم هو التطبيق النسبي لمعنى هذه الآية عملياً في مجال النظام السياسي الذي أمر به الإسلام.
أما الحزب الواحد، فهو يسير على وتيرة واحدة في الحكم، ويجر الويلات والمصائب على البلاد، لأن الجماعة التي تفكر في أن تغير صورة هذا الحكم لا سبيل لها سوى الانقلاب العسكري، أو القيام بانتفاضة شعبية عارمة، وذلك لأن سياسة الحزب الواحد لاتسمح للآخرين بأن ينتقدوا أسلوب هذا الحزب، أو يستقبلوا دعوات التغيير من الآخرين.
بل إن حكومة الحزب الواحد لا تتحمل أي تجمع شعبي ولو كان محايداً، فهي تصطدم مع أي مجموعة حتى ولو كانت هيئة خيرية، وتقمع كل تجمع سياسي وإن كان مسالماً؛ لأنها تعتقد أن هذا التجمع يسعى لإسقاطها، بينما الأمر عكس ذلك لو سمحت الحكومة للشعب في تكوين أحزاب حرة، وكيانات حرة، ظاهرة لا خفية، والكل يعمل في حل الأزمات، ورفع المستوى الثقافي والتربوي لأفراد الشعب، لكان في صالح الحكومة، وفي طريق تثبيت الحكام وتقوية سلطانهم.
فالعراق مثلاً: بلد امتازت حكوماته بسياسة الحزب الواحد وسياسة القمع والاستبداد، وعليه نرى خلال نصف قرن الأخيرة عدداً من الانقلابات الدموية وظهور الحكومات المتعددة، إلّا أنها لاتختلف عن سابقتها....
إلى أن حَكَم حزب البعث الظالم في العراق، وقد ظهرت فيه صفة الحزب الواحد الدكتاتوري بوضوح وجلاء، فاصطدم بكل الأحزاب والتجمعات التي كانت في العراق، بل إنه حارب حتى الهيئات الحسينية والتجمعات الصغيرة، فأبعد الأمة عن نهوضها الحضاري، كما عمل على هدم الوعي السياسي، ومنع انتشار مثل هذه الثقافة العصرية المهمة... فعاشت الأمة تحت سياط هذا الحكم العميل وراح ضحيتها الملايين والملايين من الأبرياء.
وكما أسلفنا في البدء، حيث قلنا: إن مثل هذا الحكم سوف يزج الشباب والمنادين بالحرية إلى السجون والمعتقلات وثم إلى خشبة الإعدام، وهذا ما رأيناه في سجون البعث الرهيبة وأساليب تعذيبهم الوحشية والقاسية لمن يدخل سجونهم، وهي معروفة لدى الجميع، حيث أصبحت واضحة لكل فرد.
وبعد كل هذا، لا بد للمسلمين إذا أرادوا التقدم والتحرر والخروج من مأزق الدكتاتورية الحاكمة على البلدان الإسلامية أن يسعوا في إيجاد أحزاب حرة متنافسة تعمل تحت راية الإسلام العزيز.
«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(53).
من هدي القرآن الحكيم
الحكم ذو الطابع الشرعي
قال اللّه عزّ وجلّ: (قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ)(54).
وقال تعالى: (ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۚ أَلَا لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَهُوَ أَسۡرَعُ ٱلۡحَٰسِبِينَ)(55).
وقال سبحانه: (وَهُوَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأُولَىٰ وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ)(56).
وقال جلّ وعلا: (كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ)(57).
وقال عزّ وجلّ: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ)(58).
الحرية الإسلامية
قال اللّه عزّ وجلّ: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(59).
وقال تعالى: (ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ)(60).
وقال سبحانه: (فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ * لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ)(61).
الحسنات لا السيئات
قال اللّه عزّ وجلّ: (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ)(62).
وقال تعالى: (وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ)(63).
وقال سبحانه: (وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا)(64).
أهل البيت (عليهم السلام) هم القادة الشرعيون
قال اللّه عزّ وجلّ: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا)(65).
وقال تعالى: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ)(66).
وقال سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ)(67).
وقال جلّ وعلا: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا)(68).
من هدي السنّة المطهّرة
الحرية في الإسلام
قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثيرُ مستَمتَع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حُسن الخُلُق، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال: الحرية»(69).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً»(70).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «الناس مسلطون على أموالهم»(71).
وقال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(72).
الحكم للّه وحده
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «نعم، إنه لا حكم إلّا للّه»(73).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إن الأئمة في كتاب اللّه عزّ وجلّ إمامان قال اللّه تبارك وتعالى: (وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا)(74) لابأمر الناس، يقدِّمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم اللّه قبل حكمهم»(75).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «واللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد»(76).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في وصيته لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «يا معاذ علّمهم كتاب اللّه وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وأنزل الناس منازلهم خيرهم وشرهم، وأنفذ فيهم أمر اللّه، ولاتحاش في أمره ولا ماله أحداً، فإنها ليست بولايتك ولا مالك، وأد إليهم الأمانة في كل قليل وكثير، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحق؛ يقول الجاهل قد تركت من حق اللّه، واعتذر إلى أهل عملك من كل أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنه الإسلام...»(77).
الإسلام والعمل الصالح
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في موعظته لابن مسعود: «إذا عملت عملاً فأعمل للّه خالصاً، لأنه لا يقبل من عباده الأعمال إلّا ما كان خالصاً»(78).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «قال عزّ وجلّ: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(79).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، ومن عمل لدينه كفاه اللّه أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين اللّه أحسن اللّه ما بينه وبين الناس»(80).
أهل البيت (عليهم السلام) هم الخلفاء الشرعيون
عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما منزلة الأئمة؟ قال: «كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان». قال: فبما تحكون؟ قال: «بحكم اللّه وحكم آل دواد وحكم محمد (عليهم السلام) ويتلقانا به روح القدس»(81).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنشدكم اللّه! أتعلمون أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قام خطيباً لم يخطب بعد ذلك، فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فتمسكوا بهما لئلا تضلوا؛ فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(82).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «ولايتنا ولاية اللّه، التي لم يبعث نبياً قط إلّا بها»(83).
اضف تعليق