عمل الاستعمار على زرع روح الخمول والكسل والاتكالية في الشعوب المسلمة، وأعظم أمر قام به المستعمرون هو ربط الحكم ونظام الحكم بشكل كلي بهذه الدول الاستعمارية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وغير ذلك. ففي الجانب الاقتصادي يؤدي هذا الارتباط إلى فرض أسلوب اقتصادي يخدم مصالح الاستعمار ويضر بمصلحة البلد الإسلامي...
الحاجة أساس الفقر
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره»(1).
إن مفهوم الحاجة إذا سيطر على اللاشعور عند الإنسان فإنه يفقد صاحبه إرادته؛ حيث يصبح السؤال والطلب من الآخرين سجية في الإنسان وعادة، وهذه الصفة تحجم وتضعف الإرادة الإنسانية. وأحياناً الحاجة تذل الإنسان وترهقه، وتفقده كرامته وموقعه، وبالتالي سوف يفقد الإنسان نفسه، ويضيع عليه كثير من الفرص، إما بسبب عدم قدرته على اتخاذ الموقف المطلوب في الوقت المناسب، أو بسبب سوء اختياره.
ولو أردنا أن نوسع دائرة الكلام لقلنا: إن فقدان الإنسان لإرادته سوف يزرع في داخله الخضوع والذل؛ فإنه دائماً ينتظر ماذا يحدّد له الآخرون، وماذا يقدمون له، وهكذا إلى أن يصبح شبيهاً بـ(الإنسان الآلي) أو (الإنسان المسيّر).
وهذه القابلية المذمومة، هي قابلية إتباع الغير إتباعاً أعمى، ونستطيع أن نسميها: قابلية إخضاع الإنسان واستسلامه، أو قابلية العبودية للآخرين، قد ورد في ذمها العديد من الآيات القرآنية والروايات الشريفة. وكم هو رائع تعبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «احتج إلى من شئت تكن أسيره» وعادة يكون الأسير فاقداً لإرادته واختياره، بل يتصرف حسب ما يملون عليه من الأوامر.
والأمة عندما تصبح بهذه الصورة سوف تكون جسراً لمرور الاستعمار.
عليك بالسوق
في الرواية: إن رجلاً جاء إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: ما طعمت طعاماً منذ يومين؟
فقال (صلى الله عليه وآله): «عليك بالسوق».
فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللّه، أتيت السوق أمس فلم أصب شيئاً فبت بغير عشاء؟
قال (صلى الله عليه وآله): «فعليك بالسوق».
فأتى بعد ذلك أيضاً فقال (صلى الله عليه وآله): «عليك بالسوق».
فانطلق إليها، فإذا عير قد جاءت وعليها متاع فباعوه بفضل دينار، فأخذه الرجل وجاء إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقال: ما أصبت شيئاً؟
قال (صلى الله عليه وآله): «هل أصبت من عير آل فلان شيئاً؟».
قال: لا.
قال (صلى الله عليه وآله): «بلى ضرب لك فيها بسهم وخرجت منها بدينار».
قال: نعم.
قال (صلى الله عليه وآله): «فما حملك على أن تكذب؟».
قال: أشهد أنك صادق، ودعاني إلى ذلك إرادة أن أعلم أتعلم ما يعمل الناس، وأن أزداد خيراً إلى خير.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): «صدقت، من استغنى أغناه اللّه، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه سبعين باباً من الفقر، لا يسد أدناها شيء».
فما رئي سائل بعد ذلك اليوم.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): «إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي»(2)(3).
من استغنى أغناه اللّه
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «اشتدت حال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فسألته، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.
فقال الرجل: ما يعني غيري.
فرجع إلى امرأته فأعلمها.
فقالت: إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بشر فأعلمه.
فأتاه، فلما رآه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.
حتى فعل الرجل ذلك ثلاثاً.
ثم ذهب الرجل فاستعار مِعْولاً ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق، فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً، ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(4).
كيف تغلغل الاستعمار في بلادنا؟
إن أكثر الشعوب الإسلامية كانت قد فقدت إرادتها تحت ظلم حكامها ووطأة الحروب وقمع الطواغيت لها، وهذا ما حصل بالفعل في مختلف البلاد الإسلامية، ونتيجة للحالة الاقتصادية الرديئة، والحالة الاجتماعية المتخلفة، ناهيك عن الجانب الثقافي والسياسي وغيرها، تعرضت الأمة الإسلامية لأبشع صور الظلم والاستعمار، وبالتالي تكوّن في داخلها بعض الأفراد الذين لديهم قابلية لأن يُستعمَروا، فوجد الاستعمار ضالته فيهم، واستطاع الدخول إلى البلاد الاسلامية عبرهم.
وهؤلاء الأفراد على اختلاف مستوياتهم، تارة يكونون أفراداً مثقفين ـ نسبياً ـ إلّا أن تقبّل فكرة الاستعمار تعيش في اللاشعور عندهم ولا يملكون أدنى مقدار من إرادتهم.
وتارة يكونون من الأفراد العاديين المضطهدين الذين أرهقتهم الأحداث والسلطات والفقر والحاجة والأجواء الاجتماعية المريضة.
وتارة ثالثة يكونون من الأشخاص الذين يعبدون الجاه والسلطة والجلوس على الكرسي، فيضحون بكل شيء من أجل الحصول على منصب، فيتعاونون مع الظالمين والطغاة والمستعمرين من أجل الوصول إلى مآربهم.
روي عن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم».
قال: فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي مخرج منه؟
قال: «إن قلت لك تفعل؟».
قال: أفعل.
قال له: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على اللّه عزّ وجلّ الجنة».
قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثم قال: قد فعلت جعلت فداك.
قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت(5) له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة.
قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتى مرض، فكنا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوق(6) قال: ففتح عينيه، ثم قال لي: يا علي، وفى لي والله صاحبك.
قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فلما نظر إليَّ قال: «يا علي، وفينا والله لصاحبك».
قال: فقلت: صدقت جعلت فداك، هكذا والله قال لي عند موته(7).
أعوان الظلمة
ثم إن بعض هؤلاء وأولئك من أعوان الظلمة يكونون وليدي الأجواء العامة الرهيبة التي أفرزت لنا أمثالهم.
ومما ساعد على إفراز هذه الحالة أيضاً:
1ـ التخلف الثقافي.
2ـ غياب الوعي السياسي.
3ـ الابتعاد عن الدين الإسلامي.
4ـ التنازل عن الأخلاق الإسلامية العظيمة، التي كان الاسلام دائماً يدعو إلى التحلي بها، والتخلي عن كل مظاهر الانحلال التي تذل الإنسان وتجعله أسير غيره. حيث قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(8).
وسُئل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقيل: يا رسول اللّه، ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟
قال (صلى الله عليه وآله): «الخلق الحسن».(9)
وبدخول الاستعمار تراكمت حالات التخلف وإبتعاد الدين عن الحياة، وساءت الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأمة الإسلامية.
ثم أصبح شيئاً فشيئاً همُّ الشعوب الأول هو التخلص من الاستعمار، واتخذت عملية التخلّص منه عدة أشكال:
تارة: بالمواجهة الدامية.
وأخرى: بإنشاء أحزاب، أو تأسيس حركات ثقافية تدعو إلى توعية الناس وتنمية إحساسهم بالمسؤولية، وإعادة الثقة إليهم.
وثالثة: بإنشاء حركات مسلحة سرية، إلى أن تم إخراجه بصورة ظاهرة.
وما تزال الكثير الشعوب تعاني من ارتباط حكوماتها بالاستعمار، أو ما يعرف بالاحتلال من الباطن، علماً أن الطريقة الصحيحة لمواجهة الاستعمار هي طريقة توعية الأمة واتخاذ سياسة السلم واللاعنف بعيداً عن كل مظاهر الخشونة واللاعنف.
مخلفات الاستعمار
كثير من الأمور السلبية تسربت إلى بلادنا الإسلامية عبر الحاجة والاستعمار، فمثلاً الروح القومية التي شتت الأمة الإسلامية، وإن قيل بأنها لعبت دوراً نسبيا في أوروبا في القرن التاسع عشر ـ بناء على صحة ذلك ـ، فقد سرَّبها الاستعمار إلى بلادنا.
ففي قبال جمعية الاتحاد والترقي(10) التي أرادت تتريك العناصر العربية، نهض البعض من العرب وشكلوا الجمعيات، مثل جمعية الإخاء العربي العثماني(11)، والمنتدى العربي(12) وغيرها، وساعد الاستعمار على إنشاء القومية وترسيخها في بعض بلاد المسلمين. ثم لم يكتف بذلك، بل حاول الاستعمار تحت ذريعة الثقافة والعلم تأسيس الإرساليات الدينية الأجنبية وبعث المؤسسات التبشيرية، من أمريكية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية(13)... فإن المبعوثين كانوا يمتزجون بأهل البلاد، ويتخلقون بأخلاقهم، فيبثون فيهم مبادئ مدنية الغرب، عبر المدارس التبشيرية(14)، كالجامعة الأمريكية، والكلية اليسوعية وما أشبه، فكانت هذه المدارس وسيلة لتحقيق مطامع الاستعمار، وحادت عن الغرض العلمي(15).
الاستعمار الاقتصادي
أما مخلفات الاستعمار على المستوى الاقتصادي فإنه عمل على أن تبقى الدول المستعمَرة ـ بالفتح ـ متأخرة صناعياً، كأن يجعل منها سوقاً خصبة لتصريف السلع الغربية من خلال أساليب اقتصادية معينة، حيث يقل الطلب على المنتوج المحلي داخل هذه البلاد، فتتسع دائرة البطالة، ويكون اعتماد السوق والمستهلك المحلي على البضائع الأجنبية، والتي تصل بالعملة الصعبة(16).
ومن جانب آخر عمل الاستعمار على زرع روح الخمول والكسل والاتكالية في الشعوب المسلمة، وأعظم أمر قام به المستعمرون هو ربط الحكم ونظام الحكم بشكل كلي بهذه الدول الاستعمارية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وغير ذلك. ففي الجانب الاقتصادي يؤدي هذا الارتباط إلى فرض أسلوب اقتصادي يخدم مصالح الاستعمار ويضر بمصلحة البلد الإسلامي، كأن يفرض تسويق نوع خاص من الصادرات أو تحديد نوعية الواردات، أوتحجيم الصادرات أو التحكم في نوعية الصناعات والاستثمارات في البلاد الإسلامية، وبالتالي تظل هذه الدول في حاجة دائمة ومقيدة بمشيئة الدول الاستعمارية، حتى في حال تغيير صورة الحكم.
ولا يخفى أن الاستعمار عندما يعشعش في بلد ما، فإنه يطّلع ويتسلل إلى كل زوايا هذا البلد وكل خفاياه، وعندما يطرد منه فإنه يكون قد امتلك تقارير ومعلومات كاملة حول نقاط الضعف والقوة فيه. فيعمل بعد ذلك على إبقاء نقاط الضعف، واستغلال نقاط القوة لصالحه أو إضعافها، ليتمكن من التلاعب به، فمتى شاء الدخول إليه أو التأثير فيه أو إرباك وضعه قام بذلك، ونقاط القوة متمثلة في الثروات الطبيعية والمصادر الثانوية (التصنيع) وغيرها، ونقاط الضعف عكس تلك، مع بيان ثغرات الحاجة.
الحكومات الإسلامية أدوات الاستعمار
ومن أهم أدوات الاستعمار في بلادنا هؤلاء الحكام الذين لايريدون إلّا الشر لشعوبهم مثل أكثر حكوماتنا اليوم إن لم نقل بكلها، فإنها على اختلاف ألوانها وأسمائها هي كمثل ما كان يفعله بعض الكسبة في العراق من قبل؛ حيث كانوا يصنعون من المثلجات أشكالاً وألواناً ويضعون فيها أعواداً من الخشب بمثابة المقبض، وكانت تباع أيام الصيف للأطفال، والأمر الذي كان يجذب الأطفال إليها هو ألوانها المتعددة، ولكنها مع تعدد الألوان يبقى لها طعم واحد.
وكذلك الأمر في كثير من الحكومات التي تحكم بلادنا الإسلامية، تارة تكون الحكومة فيها ملكية أو جمهورية، وكذا الأنظمة في داخلها تارة تعمل بالنظام الشيوعي، وأخرى بالرأسمالي، وثالثة تجري على عدة أنظمة، وهي كلها عبارة عن ألوان مختلفة، ولكن يبقى الأصل واحداً وهو التبعية للاستعمار، وهو الذي يهيئ أجواء الانقلابات العسكرية والمدنية، ويحدد رؤوس الحكم وشكل النظام وأسلوب التطبيق وكلها تعمل لبقاء الحاجة والفقر في البلاد الإسلامية.
قانون الإصلاح الزراعي
في عام (1958م) حدث انقلاب عسكري في العراق أدى إلى تسلم عبد الكريم قاسم ومجموعة من الضباط الحكم. فصدر ما سمي في حينه بقانون (الإصلاح الزراعي)(17)، فأخذوا بعض الأراضي من شيوخ العشائر وملاكها، وقاموا بتوزيعها على الفلاحين، وشجعت الحكومة المزارعين، وهيأت أموراً أخرى لهذه المسألة، إلّا أنها كلها باءت بالفشل، إضافة إلى حدوث الفوضى في البلد.
وصادف في ذلك الحين مجيء خبير اقتصادي من أحد البلدان الغربية، فلما سمع بالأمر واطلع على إجراءات التطبيق التي قامت بها الحكومة القاسمية حينها، دار حديث بينه وبين أحد المختصين بذلك، فقال الخبير: هل تملكون أراضي واسعة صالحة للزارعة، لكي تجري فيها عمليات الإصلاح الزراعي؟ ثم هل لديكم لوازمها من مياه وأيد عاملة وأسمدة ومضادات؟
فقال له: نعم نمتلك كل ذلك.
فاستغرب هذا الخبير من الأمر؛ لأنه إذا كانت كل لوازم الإصلاح الزراعي متوفرة، فلماذا الفشل؟!
عندها سأله سؤالاً آخر، فقال له: هل تملكون ثروات طبيعية؟
فقال له: نعم، نحن نمتلك النفط.
عندها قال الخبير: نعم، هنا يكمن السر؛ حيث إنكم تملكون النفط، فإن الإستعمار يعمد إلى تجهيل وصرف الناس عن الاشتراك والعمل في مجالات كثيرة، ويزرع فيهم روح الإتكال على ثروة النفط، كما هو الحال في بعض دول الخليج، فتبقى هذه الدول على حد ثابت من القدرة الاقتصادية.
والاستعمار هو الذي يرسم الخطوط العامة للسياسة الخارجية، فمثلاً يقرر بأن كوبا يجب أن تصدر السكر فقط، وأن العراق يصدر النفط فقط، وعلى هذا المنوال. والاستراتيجية التي يعمل وفقها، تارة تكون بصورة مباشرة، وأخرى بواسطة العملاء. فمثلاً عبد الكريم قاسم كان له سبعة عشر رفيقاً قبل أن يصل إلى الحكم، ولكن ما إن وصل إلى الحكم وصارت بيده السلطة، حتى اتهم رفاقه بالتخطيط لخيانته، فحكم عليهم بالاعدام، فأعدموا شنقاً حتى الموت، في ساحة أم الطبول في بغداد، كل ذلك بسبب عدم خضوعهم لما يريد أو خوفه من ذلك.
كتاب الإصلاح الزراعي
عندما كنا في العراق، صدر كتاب لأحد العلماء عن الإصلاح الزراعي(18)، يتضمن بياناً موجزاً عن رأي الإسلام في النظام الزراعي والعمراني، وبياناً لأحدث الآراء العالمية فيه. وعقد مقارنة بين الزراعة في ظل الإسلام والزراعة في ظل الحكومات التابعة للقوانين الغربية، وغيرها من القوانين الدخيلة، رغم توفر المواد الأولية وغيرها مما يحتاجه المزارع، وقد صودرت الطبعة الأولى من الكتاب من قبل الحكومة العراقية، وسجن صاحب المطبعة وغرم بغرامة ثقيلة، وكان تأليف هذا الكتاب أحد أسباب مطاردة ومضايقة مؤلفه حتى آل الأمر إلى هجرته نتيجة لنشاطه الإسلامي، وقد ذكر وزير الزراعة العراقي آن ذاك(19) بأنه يرفض عرض الكتاب في الأسواق؟! فطلبت من أحد الأصدقاء أن يذهب إلى الوزير ويعطيه نسخة من الكتاب، ويطلب رأيه فيه بعد قراءته، وبعد أسبوع اتصل صاحبنا بالوزير وسأله عن الكتاب؟
فأجاب الوزير ضاحكاً: إن كل الذي دون في هذا الكتاب صحيح، ولا يرد عليه أي إشكال ولكن مسألة الإصلاح الزراعي في البلد ليست كل قنواتها بيدي، بل هناك أمور خارجة عن يد الحكومة نفسها، أحدها التأثيرات الدولية على الحكومة ومقرراتها وخططها؛ إذ أن من مصلحة كثير من الدول الغربية أن تبقى مشكلة التخلف الزراعي والإرباك والاضطراب الاقتصادي قائمة في بلادنا.
تبعية البلاد الإسلامية للاستعمار
عندما حدث الانقلاب العسكري ضد عبد الكريم قاسم في (الثامن من شباط سنة 1963م)، وجاء محله (عبد السلام عارف) للحكم، طلبوا من أحد وزراء الحكومة العراقية الجديدة أن يعطي توضيحات عن سوء الأعمال التي يمارسها الرئيس، ثم يقترح عليه لو أنه يعدل إلى غيرها.
فأجاب الوزير: هل تتصورون أن عبد السلام عارف يمتلك الحرية الكافية التي بها يتم إدارة البلاد بشكل أفضل؟!
إن العراق كان ملغوماً بشكل كبير بشبكات التجسس الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية وغيرها، وعبر هذه الشبكات تتدخل تلك الدول، وتستغل الجو القلق والمضطرب دائماً.
فعندما تطلب بريطانيا ـ مثلاً ـ من عبد السلام عارف أن يكون النظام العراقي قائماً على أساس معين، فلا يملك عارف أي رأي أمام رغبة بريطانيا وإرادتها.
وهكذا الأمر في مصر، وفي البلاد التابعة الأخرى.
إذاً، فكل ادعاءات التحرر والاستقلال التي تتبجح بها أغلب الحكومات الإسلامية عبر أبواقها وإعلامها، ما هي إلّا أكاذيب وخدع وأباطيل لتضليل الرأي العام والشعوب المغلوبة على أمرها.
حوار حول الإصلاح الزراعي المزعوم
ذكر لي أحد الأشخاص ـ أيام المد الشيوعي في العراق ـ: أن هنالك أحد الشيوعيين من الحلة يريد مقابلتك، وبعد أن حذرني ـ الشخص ـ من أن أتكلم بشيء لأن الرجل الشيوعي سيخبر السلطة برأيي حول ما يسمى بالإصلاح الزراعي. (وكان الزمان إبان طغيان عبد الكريم قاسم).
جاء الرجل الشيوعي وكان يظهر أنه مثقف، ومعه الشخص الذي أخبرني عنه.
وبعد مقدمة، قال: المعروف عنك أنك مخالف للإصلاح الزراعي؟
قلت: هل تريد أن نتكلم حول الموضوع من الوجهة السياسية، أو من الوجهة الدينية، أو من الوجهة الاجتماعية؟
قال: وهل يختلف الأمر من الوجهات المختلفة؟
قلت: نعم.
قال: إذاً نتكلم من الوجهة الاجتماعية؟
قلت: تفضل.
قال: ألا تعترف بأن الملاكين الكبار والإقطاعيين قد ظلموا الناس الفلاحين المساكين، وامتصوا دماءهم، ولعبوا بمقدراتهم؟
قلت: لنفرض كل ذلك؟
قال: فلا بدّ من إزالتهم، وتوزيع الأرض للفلاحين!
قلت: ولماذا هذا الحل؟
قال: فماذا تصنع؟
قلت: نقول كما قال الإسلام.
قال: وماذا قال الإسلام؟
قلت: نوقف الملاك عند حده، والفلاح عند حده، فلا يظلم الملاك الفلاح ولا يظلم الفلاح الملاك.
قال: وكيف؟
قلت: نجعل أرض الملاك في يده، ونمنعه من ظلم الفلاح. قال: وهل الأرض للملاك؟
قلت: فلمن إذاً؟!
قال: للدولة.
قلت: ولماذا للدولة؟ إن الملاك تعب حتى حصل على الأرض، فلماذا تهدر أتعابه؟!
قال: وهل الإسلام يقر أن يلعب الملاك بملايين الدنانير والفلاح لا قوت له؟
قلت: الإسلام يقول: لكل تعبه وعمله. ويقول: إن الفلاح يجب أن يكون له قوت، إما من تعبه، وإن لم يحصل من تعبه فعلى الدولة أن تقوم بالإنفاق عليه.
قال: ولماذا الفرق بين الفلاح والملاك؟
قلت: ولماذا الفرق بين المهندس والعامل، ولماذا الفرق بين السلطة والشعب، ولماذا الفرق بين الطبيب والشخص العادي؟!
قال: لأن أولئك تعبوا ودرسوا، فما يحصلونه من العيش السعيد إنما هو إزاء تعبهم.
قلت: والملاك تعب وجهد، فما حصله إنما هو إزاء تعبه.
قال: إن الملاك حصل على الأرض من جراء النهب والظلم والسلب.
قلت: أي ملاك كان كذلك، كان اللازم على الدولة بعد التحقيق أن ترد الأرض إلى المنهوب منه، أما أن نقول: كل المالكين كذلك، فهذا إدعاء فارغ.
قال: من يميز بين الملاك الظالم والملاك غير الظالم؟
قلت: المحكمة والحاكم والشهود.
قال: لماذا تفاوت الطبقات؟
قلت: هذا شيء طبيعي.
قال: وكيف؟!
قلت: لماذا تقدم الذكي على الغبي، والنشيط على الكسول، والمفكر على العادي؟
قال: جزاءً لتفوقهم الطبيعي.
قلت: وفي الملاك والفلاح، ما المانع من أن يكون التفاوت جزاءً لتفوق الملاكين؟
قال: أليس الأحسن أن نسوي كل الطبقات؟
قلت: الشيوعيون لا يقبلون ذلك.
قال: بل العكس؛ فإن في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، كل الناس متساوون.
قلت: فلماذا طبقة تحكم على طبقة؟ ولماذا طبقة لها خصائص دون طبقة؟
قلت: ثم إنكم أيها الشيوعيون عندكم الملاك والفلاح.
قال: وكيف؟
قلت: إنكم تجعلون الملاك الدولة، والفلاح هو الفلاح، وحاله عندكم أسوء من الفلاح عند الملاك.
قال: وكيف؟
قلت: لأن الفلاح عند الملاك، إذا ظلمه الملاك اشتكاه عند الدولة، أما الفلاح عند الدولة إذا ظلمته الدولة، فليس هناك من يشتكي عنده، وكذلك حدث في زمن ستالين، حيث قتل وشرد ملايين الفلاحين، في تطبيق نظام المزارع الجماعية، فهل حدث مثل ذلك تحت ظل القوانين الإسلامية المعترفة بالملاك والفلاح؟
قال: إذاً أنت لا تعترف بظلم الملاك للفلاح.
قلت: نعم لا اعترف بهذا، كما لا اعترف بظلم الفلاح للملاك.
قال: لا نظلم الملاك وإنما نوزع أراضيه بين الفلاحين!
قلت: أليس هذا ظلماً، ثم ولماذا نفعل ذلك؟!
قال: ليكثر الزرع.
قلت: وهل الاتحاد السوفييتي أكثر زراعة أم أمريكا الرأسمالية، إني لا أعترف برأسمالية أمريكا، لكن أريد نقض كلامك، ثم أليس من الأفضل أن نوزع الأراضي البائرة بين الفلاحين ونسعفهم باللوازم، ليكونوا هم (ملاكين) بدون أن نظلم الملاك، وبذلك قد عمرنا كل الأرض، كما كان الإسلام يفعل كذلك؟!
قال: إذاً أنت إقطاعي؟
قلت: الإقطاع بهذا المعنى الذي ذكرت ـ أنا ـ نعم، أما بالمعنى الذي أنت تذكر، فلا.
ثم أردفت: فالأفضل أن تترك أنت الشيوعية، وتقبل الإسلام.
قال: إني من المستحيل أن أترك الشيوعية.
قلت: لكنك تهدم بلدك وتظلم الناس.
قال: وكيف؟
قلت: لأنك الآن اعترفت بأن الإسلام خير من الشيوعية، ومع ذلك تقف بعيداً عن الإسلام، وتعتنق المبدأ الذي فيه ظلم الناس، وتقليل للزرع.
قال: وعلى كل.
قلت: يكفيني أن أُثبت لك أنك تهدم البلد وتظلم الناس.
وهنا توسط الشخص الذي جلبه ليقنعه بقبول كلامي، لكنه لم يقبل، وقاما وذهبا، وبعد زمان جاء الصديق، وقال: إني أتعجب من هذا الإنسان! كنت أحسبه مثقفاً وتبين أنه جاهل عنود؛ ولذا الأفضل أن أتركه.
قلت: بل الأفضل أن تصادقه لتنقذه.
الاختلاس وعدم الإخلاص
قبل ما يقارب أربعين سنة زار أحد نواب المجلس الوطني الإيراني صديقاً له، وكان أيضاً وكيلاً لمجلس البرلمان، وكانت الزيارة في بيته، فلما دخل بيت صديقه ـ الذي هو وكيل في المجلس مثله ـ تعجب من حاله ووضعه المعيشي الضعيف، حيث كانت حالة بيته والأثاث الموجودة فيه بسيطة وعادية؟! فقال له: لماذا وضعك هكذا، وأنت نائب في المجلس؟
فقال صاحبه: إن وضعي المادي لا يساعدني لأن أكون أفضل من هذه الصورة.
فقال له: أعلمك طريقة تحصل من خلالها على أموال كثيرة، وبها تستطيع أن تحسن حالك المعاشي! والطريقة هي: أن تقوم غداً وعندما يعلنون عن الاجتماع المقبل لوكلاء المجلس، تقوم وتسأل رئيس الوزراء: أين صرفت أموال النفط لهذه السنة؟ وما هي الموارد التي صرفت فيها؟ وأين هي السجلات والاعتمادات في ذلك؟ ثم التزم الصمت ولا تتكلم أبداً، وسترى كيف تأتيك الأموال ليلاً؟ فإذا جاءتك الأموال لا تتسلمها وأخبرني بما يحدث.
وفعلاً قام صاحبه بهذا الأمر، فقال له رئيس الوزراء: سوف أتحدث لك بشكل مفصّل في وقت آخر إذا عقدت الجلسة فالوقت لا يسمح بذلك، وفي الليل طرق عليه الباب بعض الأفراد وقدموا له مقدار من المال فرفض استلامه.
ثم أخبر صاحبه بالأمر. وفي اليوم التالي قال له صاحبه: اليوم أيضاً اعترض في المجلس، وقل نفس الكلام السابق، وفعلاً تم ذلك، وأوصاه بأن لا يقبل المال هذا اليوم أيضاً.
وفي اليوم الثالث قال له صاحبه: في هذا اليوم قدم اعتراضك أيضاً، ولكن بصورة أخرى. وإذا جاءوا إليك بالأموال ليلاً فخذها، فإنها أكثر بكثير من الأموال التي جاءوا بها في اليوم الأول والثاني، وإذا لم تستلمها فسيحكم عليك إما بالسجن أو الإعدام أو التبعيد، بعد أن يلقوا عليك تهمة كبيرة، وفعلاً في الليلة الثالثة أخذ الأموال التي جاءوا بها إليه، وقالوا له: خذ هذه الأموال هدية لك من رئيس الوزراء، فأخذها وحسّن بها وضعه المادي!
هذا نموذج من الحكومات التي تدير البلاد الإسلامية، وهو مثال بسيط لما يتم من حالات الاختلاس وأخذ الرشوة، على حساب الشعب المسلوب المنهوب.
كيف نعالج الوضع؟
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «يا علي، لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل»(20).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً، فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف مَن نصحه ومَن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه ومَوْصوله ومفصوله وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة، فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات ووارداً على ما هو آت، يعرف ما هو فيه ولأي شيء هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل»(21).
نحن أمام مشكلتين:
الأولى: أزمة التخلف التي تمر بها شعوبنا الإسلامية.
الثانية: مشكلة وجود هؤلاء الحكام العملاء والدكتاتوريين.
ويمكن أن نعالج كلتا الحالتين معاً؛ وذلك عبر تثقيف الناس وبث الوعي العام بين صفوف الأمة الإسلامية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عبر تربية أفراد المجتمع الإسلامي وكوادرها على الإخلاص في العمل، وإشعارهم بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عواتقهم. ورويداً رويداً سوف تنتج لنا هذه الشعوب جيلاً يحمل الصفات الإنسانية الرفيعة، والمثل العليا، ويطبق القيم على أرض الواقع، فقد حثت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) على الإخلاص واعتبرته أفضل العبادة، روي عن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الإخلاص»(22).
كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «قال اللّه عزّ وجلّ أنا خير شريك، ومن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً»(23).
أما التثقيف وبث روح الوعي والمعرفة؛ فذلك يتم بأمور منها السعي وراء تأسيس المدارس والمعاهد العلمية والحوزوية، وإنشاء المكتبات العامة، وطباعة المزيد من الكتب والمجلات والجرائد الهادفة، كما نحتاج إلى زيادة عدد المبلغين ونشرهم في كل القرى والأرياف، وذلك في كل منطقة يتواجد فيها مسلم، كما نحتاج إلى تأسيس إذاعات مرئية وصوتية تبين أحكام الإسلام إلى جانب المبادئ الإسلامية والقيم العظيمة، وإرشاد الناس إلى مسألة الاكتفاء الذاتي، وشرح أبعاده وفوائده بصورة مبسطة، ولو بتشجيعهم على ترك الأمور الكمالية التي نحتاج بها إلى الغرب. ولو عمل المسلمون بهذه الخطوات لتقدموا إلى الأمام، مهما قلّت نسبة التقدم.
من برامج التنمية والاكتفاء الذاتي
بطبيعة الحال إن ما ذكرناه آنفاً في (كيفية علاج الوضع) يقف جنباً إلى جنب مع برامج التنمية والاكتفاء الذاتي، حيث أنه هو جزء منها ولا يستهان به مطلقاً، إن الأصل هو إيجاد حالة الوعي ـ الاقتصادي ـ التي تفقدها الأمة، ومن ثم محاولة البناء على هذه الأرضية الخصبة.
ولعل برامج الاكتفاء الذاتي تبدأ أولاً من خلق فرص العمل للمواطنين، وتسهيل أمور العمل وتوفير لوازمه، وفق الحريات الإسلامية الاقتصادية، بلا ضريبة ولا رسوم ولا ما أشبه، فيتم القضاء على حالة البطالة التي تهدم الأمة، وهذه البرامج هي من واجبات الدولة قبل الآخرين، وذلك عبر السعي في تشغيل أكبر قدر ممكن من الشعب، وفتح المعاهد والجامعات التي تهتم بتدريس وتخريج الكوادر الأساسية، التي يقع على عاتقها وضع البرامج للدولة والأمة. ثم محاولة إعطاء أكبر قدر ممكن من الحرية الفكرية لأبناء الشعب، لتحريضهم على الابداع، وتوفير المواد الأولية لذلك، لتتم مراحل الاكتشاف والاختراع والتقدم.
وكذلك وضع الأكفاء المؤهلين في مناصبهم الحقيقية التي بها يتمكنون من إظهار قدراتهم وطاقاتهم في سبيل بناء وخدمة الأمة الإسلامية، وعدم إهدار قوى المجتمع، وإحراق طاقاته، وذلك بجعل المهندس الكيميائي ـ مثلاً ـ معلماً في المدارس الابتدائية، وتنصيب المعلم رئيساً لنقابة المهندسين، بل لابد من توزيع الأدوار بصورة صحيحة وعادلة، ليكون الناتج مثمراً.
وأيضاً إلغاء الضرائب غير المشروعة والعالية، بل فتح متنفس للشعب من خلاله يستطيع أن يبدع.
ثم لابد من إعطاء فرص إنشاء شركات أهلية، تحاول أن تستفيد من المواد الأولية المحلية واستثمارها، وكذلك الشركات الحكومية بشرط عدم الإجحاف بالآخرين، من خلال استخراج المعادن واستكشاف موارد الثروات الطبيعة غير المكتشفة والمستغلة. وتنظيم أمور الناس وغيرها من البرامج، التي تصب في مجال التنمية والتقدم، والحث على الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي. وعندها سوف تصبح هذه البرامج تطبيقاً لقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «واستغن عمن شئت تكن نظيره»(24).
نسأل اللّه عزّ وجلّ أن ينعم علينا بالاكتفاء الذاتي والتقدم الاقتصادي للتخلص من التبعية والاستعمار.
«اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(25).
بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.
من هدي القرآن الحكيم
الخسران في العبودية لغير اللّه تعالى
قـال اللّه تعالى: {وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَـصۡرَكُمۡ وَلَآ أَنفُسَهُمۡ يَنصُرُونَ}(26).
وقال سبحانه: {وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ}(27).
وقـال عزّ وجلّ: {قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا يَضُرُّكُمۡ * أُفّٖ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ}(28).
وقال جلّ وعلا: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ}(29).
وقال سبحانه: {وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ}(30).
الابتعاد عن الإسلام وعاقبته
قال اللّه تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ}(31).
وقال سبحانه: {وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(32).
وقــال عـزّ وجـلّ: {وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَـإِنَّ لَـهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ}(33).
وقال جلّ وعلا: {وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا}(34).
وقال عزّ اسمه: {وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا}(35).
العبادة المطلوبة هي الإخلاص
قال اللّه تعالى: {إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا}(36).
وقال سبحانه: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ}(37).
وقال عزّ وجلّ: {فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}(38).
وقال جلّ وعلا: {هُوَ ٱلۡحَيُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۗ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}(39).
وقال عزّ اسمه: {وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ}(40).
فضيلة العلم والمعرفة
قال اللّه تعالى: {وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ}(41).
وقال سبحانه: {قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ}(42).
وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ}(43).
من هدي السنّة المطهّرة
الإنسان وكرامته في الاستغناء
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «ويكون استغناؤك عنهم ـ عن الناس ـ في نزاهة عرضك وبقاء عزك»(44).
وقال (عليه السلام): «من أتحف العفة والقناعة حالفه العز»(45).
وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): «شرف المؤمن قيام الليل وعزّه استغناؤه عن الناس»(46).
العبودية فقط للّه عزّ وجلّ
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أمّا بعد، فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه الّذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم؛ فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم(47)، وضياء سواد ظلمتكم، فاجعلوا طاعة اللّه شعاراً(48) دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك(49) طلبتكم، وجنّةً ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فإنّ طاعة اللّه حرزٌ من متالف مكتنفةٍ، ومخاوف متوقّعةٍ، وأوار(50) نيرانٍ موقدةٍ، فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصّعاب بعد إنصابها(51)، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها(52)، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها، فاتّقوا اللّه الّذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، واخرجوا إليه من حقّ طاعته»(53).
وقال (عليه السلام): «قال اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه: يا عبادي، اعبدوني فيما أمرتكم ولا تعلّموني ما يصلحكم؛ فإني أعلم به ولا أبخل عليكم بمصالحكم»(54).
وقالت الصديقة فاطمة (عليه السلام): «من أصعد إلى اللّه خالص عبادته أهبط اللّه إليه أفضل مصلحته»(55).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «خرج الحسين بن علي(صلوات اللّه عليهما) ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد لله جلّ وعزّ، والصلاة على محمد رسوله (صلى الله عليه وآله): يا أيها الناس، إن اللّه ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته من سواه...»(56).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليَّ أن أسد فاقتك، وأملأ قلبك خوفاً مني، وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا، ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك»(57).
ما هو الإخلاص؟
سُئل سيد الأولون والآخرون نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) عن الإخلاص؟
فقال: «سألته عن جبرئيل، فقال: سألته عن اللّه تعالى، فقال: الإخلاص سر من سري أودعه في قلب من أحببته»(58).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل اللّه»(59).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ومن لم يختلف سره وعلانيته وفعله ومقالته فقد أدى الأمانة وأخلص العبادة...»(60).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللّه عزّ وجلّ»(61).
فضيلة العلم والمعرفة
قال الرسول الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله): «بالعلم يطاع اللّه ويُعبد، وبالعلم يُعرف اللّه ويوحد، وبه توصل الأرحام،ويعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل»(62).
وقال (صلى الله عليه وآله): «أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة»(63).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «المعرفة نور القلب»(64).
وعن أبي الصلت الهروي قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة تعلقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا ابن رسول اللّه، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدِّثنا عن آبائك (صلواتك عليهم أجمعين).
فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف(65) خَزٍّ فقال: «حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن اللّه تقدست أسماؤه وجل وجهه، قال: إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا وحدي، عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة: أن لا إله إلّا اللّه مخلصا بها أنه قد دخل حصني، و من دخل حصني أمن عذابي».
قالوا: يا ابن رسول اللّه، وما إخلاص الشهادة لله؟
قال (عليه السلام): «طاعة اللّه و رسوله وولاية أهل بيته (عليهم السلام) »(66).
اضف تعليق