نحن لا نضع اللّوم كلّه على أعداء الإسلام من الغرب والشرق، بل يجب أن نضع بعضه على أنفسنا نحن فنوبّخها؛ لأننا بأنفسنا وبأيدينا عبّدنا الطريق للمستعمرين لغزو بلادنا الإسلامية بتركنا العمل بأوامر اللّه فسلبوا ما تزخر به بلادنا من ثروات، بل إنّهم تمكنوا أن يجرّدوا المسلم من شخصيته الإسلامية...
قال تعالى في كتابه المجيد: (إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ)(1).
وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ)(2).
وقد اختلف في معنى الأمة الواحدة؛ ففي بعض التفاسير جاء: أي هذا دينكم دين واحد، عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وأصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة، لاجتماعهم بها على مقصد واحد، وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى، أي فلا تكونوا إلّا على دين واحد. وقيل: معناه: هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق، كما يقال: هؤلاء أمتنا أي فريقنا وموافقونا على مذهبنا»(3).
ولكن الظاهر أنّ سياق الآية يدل على وحدة العقيدة، ووحدة الأمة، ووحدة رسالة الأنبياء. وتجد أيضاً في آية الأمة الواحدة، أنّ الباري عزّ وجلّ يخاطب عباده بأن يكونوا أمة واحدة مجتمعة على مقصد واحد يجمعهم دين وكلمة واحدة. وهنا لسائل أن يسأل: ولكن أين الآن هذا الاجتماع، وأين هذه الوحدة التي تحدث عنها القرآن الكريم؟
الوحدة بين الادعاء والتطبيق
إنّ الواقع الحالي يكشف لنا وبكل وضوح أنّ الوحدة التي أشار لها القرآن الكريم غير موجودة بين أبناء الأمة الإسلامية، أو بين البشر أجمع، نعم كانت في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) واليوم قد حلّ العكس منها، وظهرت حالة أخرى بدلاً عن تلك الوحدة التي دعا لها الباري عزّ وجلّ، وهي حالة التفرقة والتشتت التي ابتدعها الاستعمار والحكام المنحرفون، الذين يتمسكون بالقوميات والعنصريات، في الوقت الذي يلصقون أنفسهم بالإسلام، ولكن أفكارهم وأعمالهم تؤكد عدم إسلامهم، فقد قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ * كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ * إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ)(4).
هذه الحالة التي تعيشها البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر، والتي أدت إلى ذلة المسلمين واستعبادهم على أيدي الغزاة المستعمرين، وتجزئة الأراضي الإسلامية التي كانت موحّدة في عصر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، إلى دويلات متناثرة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر، ووضع الحواجز والحدود الجغرافية المصطنعة، التي تفصل الدولة عن جارتها الأخرى، كي تسهل لهم عمليات النهب والاستغلال، بل والاستعباد أيضاً.
نحن لا نضع اللّوم كلّه على أعداء الإسلام من الغرب والشرق، بل يجب أن نضع بعضه على أنفسنا نحن فنوبّخها؛ لأننا بأنفسنا وبأيدينا عبّدنا الطريق للمستعمرين لغزو بلادنا الإسلامية بتركنا العمل بأوامر اللّه تعالى، فسلبوا واغتصبوا ما تزخر به بلادنا من ثروات، بل إنّهم تمكنوا أن يجرّدوا الإنسان المسلم من شخصيته الإسلامية، وقد تم لهم ذلك عن طريق محو الشخصية الإسلامية، وطمس وتشويه الثقافة والأفكار الإسلامية الصحيحة، ودسوا بدلاً عنها أحكاماً وقوانين وضعية مزيّفة، خدمة لمصالحهم ومطامعهم التي كانوا يصبون إلى تحقيقها.
فقدان الوعي
كل هذه الترويجات الغربية، وهذه الأحكام المزيفة التي غزت البلاد الإسلامية، وفعلت ما فعلت بالمسلمين قد تدفقت بسبب فسح المجال لها بالدخول، وعدم التصدي لها إلّا من قبل بعض العلماء الذين يعدّون على عدد الأصابع، ومن الواضح أنّ اليد الواحدة لا تصفّق، ولذا لم يتمكنوا من منعها كلها، بل منعوا جزءاً يسيراً منها، أمّا الباقي فقد تسرّب إلى شعوب البلاد الإسلامية، واختلط بنفوس المسلمين، بحيث أخذ الناس في بلادنا يستمرئون أفكارهم ويتلبسون بها بدون شعور. والسبب في ذلك يعود إلى مسألة الإعراض عن ذكر اللّه، والقوانين الإلهية في الكتاب الحميد، وهجر سيرة نبيّنا الكريم (صلى الله عليه وآله) وأئمتنا الهداة الصالحين (عليهم السلام)، فقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: (فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ)(5)، قال (صلى الله عليه وآله): «يا أيها الناس اتبعوا هدى اللّه تهتدوا وترشدوا، وهو هداي وهداي وهدى علي بن أبي طالب فمن اتبع هداه في حياتي وبعد موتي فقد اتبع هداي ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى اللّه ومن اتبع هدى اللّه فلا يضل ولا يشقى»(6). هذا الإعراض عن الأفكار الصحيحة والسيرة النبيلة لأئمة الإسلام، أدّى بنا إلى بقاء حالتنا على ما هي عليه من المآسي والويلات، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ)(7).
الضنك في المعيشة
(فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا) أي عيشاً ضيّقاً... وهو أن يقتر اللّه عليه الرزق، عقوبة له على إعراضه، فإن وسّع عليه، فإنّه يضيّق عليه المعيشة، بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه، وإن أنفقه فإنّ الحرص على الجمع، وزيادة الطلب يضيّق المعيشة عليه... وقيل: معناه: أن يكون عيشه منغّصاً، بأن ينفق إنفاق من لا يوقن بالخلف... وقيل: عيشاً ضيّقاً في الدنيا لقصرها وسائر ما يشوبها ويكدرها، وإنما العيش الرغد في الجنة(8). لذا فان (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي) أي بأن لم يتبع أوامري التي ذكرته بها. وسميت الأوامر ذكراً؛ لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها (فَإِنَّ لَهُۥ) في الدنيا (مَعِيشَةٗ ضَنكٗا) أي ضيقة؛ وذلك لأن أوامر اللّه سبحانه أكثر ملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش مادياً أو روحياً، ولذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية هم في أضنك الحالات الروحية، وأضيق المجالات النفسية (وَنَحۡشُرُهُۥ) أي نحشر المعرض، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في (يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ) العين لا يرى شيئاً(9). فهذه الأقوال الكثيرة، أغلبها يؤكد على المعيشة الضيقة، التي يعيشها الإنسان البعيد عن ذكر اللّه والمعرض عن أحكامه السماوية.
الواقع الإسلامي
نعم، فهذا الضيق الذي يصفه الباري جلّت قدرته، هو عين الضيق الذي يعيشه المسلمون حالياً، حقاً ما وصف به الباري عزّ وجلّ معيشتهم الضنك التي ابتلاهم بها من جراء إعراضهم عن ذكر اللّه، فالمسلمون اليوم يعيشون نفس هذه المعيشة الضنك، والسبب هو الإعراض عن ذكر الباري وأحكامه الجليلة، ولن يرفع عنهم إلّا بعد الرجوع إلى اللّه، والعمل بما يكون فيه مرضاته، وتطبيق أحكامه. وبالإضافة إلى ذلك جعل سيرة المعصومين (عليهم السلام) المبدأ الأساس في العمل، والاقتداء بهم في كل حركة وسكون.
وبالرغم من هذه المضايقات التي يعيشها المسلمون اليوم، وما تعانيه البلاد الإسلامية من مؤامرات ومخططات، تسعى دوائر الاستعمار دائماً إلى أن تنفذ إلى داخل صفوف المسلمين لتهيئة الأجواء التي من شأنها أن تثير الخلافات والصراعات بين المسلمين، بالإضافة إلى إلقاء الفتن العنصرية بينهم، وذلك للقضاء على الخطر الإسلامي الذي يعتبره الاستعمار المشكلة الأولى والأخيرة التي تقف بوجه أطماعه، فلنبحث عن السبب الذي ساعد المستعمرين في أن يتمكنوا من النفوذ والتغلغل بين المسلمين.
نقاط الضعف
لنرجع إلى المجتمع ونضرب مثالاً بسيطاً ومن ثم نقارنه بالوضع العام، مثلاً: إذا كان شخصان متخاصمين لأيّ سبب كان، فكلاهما يحاول أن يجد نقطة ضعف في خصمه ليستطيع بها أن ينكل به، ثم ينتصر عليه، فإذا ما وجد نقطة ضعف أو طرقاً مؤدية وممهدة في خصمه توصله إلى نقاط ضعفه، اغتنم تلك الطرق وتمكن بواسطتها أن يصل إلى نقطة ضعف الخصم ومن ثم ينتصر عليه.
ونحن اليوم توجد الكثير والكثير من نقاط الضعف فينا، والكثير الكثير من الطرق الممهدة التي توصل العدو إلى نقاط ضعفنا، ونحن بأنفسنا أوجدنا بعض هذه النقاط، وبأنفسنا سهّلنا للعدو الوصول والتغلغل إلى صفوفنا عن طريق تمهيدنا له، وإعلامه بشكل مباشر وغير مباشر بنقاط ضعفنا.
ومن أهم وأبرز نقاط ضعفنا التي مهّدت الطريق لاستعمارنا:
1- التخلف العلمي والجهل المتفشي في كافة مجالات الحياة وبشكل واسع، فبالرغم من أنّ الإسلام يشجّع على طلب العلم والمعرفة، لا بل أنه يفرضه على المسلمين كواجب شرعي ففي الحديث الشريف عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(10).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اطلبوا العلم ولو بالصين»(11).
بالإضافة إلى أنّ الإسلام يعتبره أساساً وقاعدة لبناء شخصية الإنسان كما جاء في الحديث:
قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): «لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جنة، والصدق عز، والجهل ذل، والفهم مجد، والجود نجح، وحسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(12).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «كان في ما وعظ لقمان ابنه أن قال له: يا بني اجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك في طلب العلم، فانك لن تجد له تضييعاً مثل تركه»(13).
وعن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) وقد سئل عن قوله تعالى: (فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ)(14) فقال: «إذا كان يوم القيامة قال اللّه تعالى للعبد: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت. وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت فيخصمه، فتلك الحجة البالغة لله عزّ وجلّ على خلقه»(15).
2- عدم وجود التنظيم الذي هو العمود الفقري لتوحيد الطاقات والصفوف، فلأن المسلمين يفتقرون اليوم إلى التنظيم، نرى أن طاقاتهم وجهودهم مبعثرة غير منظمة في الوقت الذي يسعى أعداؤهم إلى التنظيم في محاربة الإسلام والمسلمين، فهم ينظمون أنفسهم ليجمعوا قواهم ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين، وينضوي أبناء المسلمين تحت تنظيمات منحرفة لكي لا يستفيد منها المسلمون.
3- انعدام الوحدة والأخوة الإسلامية التي تحدّث عنها القرآن الكريم، ومن ثم دعا لها المعصومون (عليهم السلام)، وحثوا المسلمين على العمل بها، كما فعلوا هم (عليه السلام).
ومن الواضح أنّ انعدام مثل هذه الأمور المهمة بين المسلمين، سهّلت للعدو الوصول وبدون أي مشقة إلى أهدافه وأطماعه، فسيطر على بلاد الإسلام، وبسط نفوذه فيها، فقام باستغلال الموارد والثروات الطبيعية التي تزخر بها أراضي البلدان الإسلامية، وتسخيرها لنفسه، واستثمار رؤوس أموالها لصالح منافعه الشخصية، بين ما القرآن الكريم يقول لنا: (إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ)(16).
ما هي البداية؟
إذاً فلا بدّ من تبديل هذه الحالات المريضة إلى الحالات الإيمانية الصالحة، إذ لا بد وأن تتبدل حالة التفرقة هذه التي يعيشها المسلمون اليوم إلى حالة الوحدة والأخوة، ولا بدّ من تشكيل الأمة الإسلامية الواحدة.
ولأجل تحقيق هذا الأمر المهم، لا بدّ لنا من تأسيس منظمة، أو مؤسسة، أو هيئة قوية، تأخذ على عاتقها تحقيق الوحدة والأخوة الإسلامية التي أشار إليها القرآن الكريم. كما يجب أن تكون هذه المؤسسة في بلدٍ تسوده الحرية، ليتمكن أعضاء هذه المؤسسة من القيام بدورهم من دون أن يُفرض عليهم، أي نوع من الضغوطات التي من شأنها أن تحدد أو تقلّص من نشاطاتهم في هذا المجال.
ولأجل أن تصل هذه المؤسسة إلى هذا الهدف الكبير، يجب أن تعمل وبجهد وإخلاص على إيجاد الأمور التالية بين المسلمين:
1- تنظيم المسلمين وتوحيد طاقاتهم وكفاءاتهم، ومن ثم صبّها في وعاء أو مجهود واحد، يعود إلى خدمة الإسلام والمسلمين.
2- نشر الوعي وثقافة الحياة المنبثقة من القرآن وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، كبديل عن التخلف المتفشي، والسائد بين المسلمين، وكبديل أيضاً عن الثقافة المزيفة والمنحرفة التي غزت بلاد الإسلام، حتى نعدّ من الأجيال اللاحقة أجيالاً واعية مثقفة عارفة بمكائد الغزاة المستعمرين، ومتبصرة بأمور دينها ودنياها.
ومن الخطوات التي يمكن أن تعمل عليها في هذا المجال هي: إصدار الكتب في هذا المجال تتحدث عن كيفية تكوين الأمة الإسلامية الموحدة، والسبل التي تحقق ذلك، والموانع التي يمكن أن تحول دونها وهكذا.
كما أنّ من المهم جداً أن يتحلّى أعضاء المؤسسة بالأخلاق الكريمة والصفات الحميدة والوعي والإخلاص والتفاني، كي يتمكنوا من تبديل عدة أمور منتشرة في المجتمع إلى مضاداتها على الصورة الآتية:
أ: تبديل حالة حبّ الذات والامتيازات الشخصية إلى «فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك»(17) ونبذ روح (الأنا) التي أصبحت الكلمة الجارية على ألسن المسلمين، وزرع مبدأ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، ورعاية حقوقهم كبديل عنها. فلو تتبعنا التاريخ الإسلامي لوجدنا أن أحد الأمور التي دعت كفّار قريش إلى أن يقفوا ضد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأن يحاربوا رسالته، بالرغم من أنهم يعرفونه بالصادق الأمين، هو أنهم لاحظوا أنّ بإيمانهم برسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وتصديقهم رسالته، يتحتم عليهم أن يرفعوا أيديهم عن الامتيازات التي كانت تحت تصرفهم، لكنهم لا يدركون أن الإسلام لا يلغي الامتيازات الصحيحة والمشروعة لذوي الكفاءات، كما يرتقي أصحاب الوجاهة، والمقامات الرسمية والاجتماعية إلى مراتب أعلى وأعلى؛ لأن الأمة إذا ارتقت وارتفعت ارتفع كل شيء فيها، فقد قال تعالى: (قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ)(18).
ب: تبديل حالة التفرقة الموجودة بين المسلمين إلى حالة الاجتماع والوحدة، كما كان عليه المسلمون الأوائل في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فقد قال تعالى: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا)(19)، وإذا ما قمنا بهذا الأمر فسوف يكون تأثيره جيداً مع مرور الزمن، وخصوصاً على أفكار الشباب، فمن شبّ على شيء شاب عليه، ومن مال إلى فكرة أو عقيدة فإنها ستكون جزءاً منه بمرور الزمن، فإذا تمكّنا أن نوجد هذه الفكرة على الساحة العملية، عندها ستتبدل الثقافات والأهداف الإقليمية المحددة الضيقة بين المسلمين، إلى تفكير أسمى، وهدف واحد أكبر وأوسع، وهو ضرورة الانضمام إلى الأمة الإسلامية الواحدة، التي تضم تحت أكنافها جميع شرائح وطبقات المسلمين، على اختلاف هوياتهم وجنسياتهم، وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم، إذ لا اعتبار باللون أو الجنسية، كما في الحديث الشريف عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، إذ «لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود، إلّا بالتقوى»(20).
فإذن يجب على المسلمين أن يجدّوا بإخلاص في تحقيق هذا الأمر الإلهي، ذلك أن الاستعمار على أتم الاستعداد والتأهب للانقضاض على الإسلام والمسلمين، فإنه إذا ما شاهد مثل هذه الفرصة وهي عدم الوحدة فإنه سرعان ما ينتهزها، ولا يجعلها تفلت من يده، فيحقق بها مصالحه وأغراضه الاستعمارية التي هي هدف ومبدأ أساسي من أهدافه ومبادئه العنصرية.
مسؤولية المسلمين
هناك مسألة لا بأس بذكرها ومن ثم نقارنها مع ما عليه حال المسلمين في الوقت الحاضر؛ فلقد كانت مسألة العبيد منتشرة في أمريكا كما كان قبل ظهور الإسلام، كانت حياة العبيد في أمريكا سيئة جداً، وهناك كتاب يشرح هذه القضية لا بأس بمراجعته(21)، وستتعرف عند مطالعته على الحالة المروّعة التي كان يعيشها العبيد في أمريكا، وظلت أحوالهم ومعاناتهم على هذه الحالة المأساوية، بانتظار المنقذ الذي ينجيهم من هذه المآسي والأحوال، حتى جاء من كان يريد إنقاذهم(22) وتحريرهم، فأخذ يدعو إلى تحرير العبيد، وإعطائهم حرياتهم، كإخوانهم البيض، والمطالبة بحقوقهم كافة بلا استثناء، فقدم في سبيل ذلك الغالي والنفيس، حتى قيل: إنه ضحّى بنفسه في سبيل ذلك المبدأ الذي أعلن فيه المطالبة بحقوق وحريات العبيد.
وكتب المؤرخون أنه بعد أن طرح نظريته على الساحة العملية قام بعض العبيد بالمظاهرات الاحتجاجية ضد نظرية التحرير، ومعنى ذلك أنهم كانوا يطلبون البقاء على عبوديتهم وحياتهم الأولى، حياة العبودية والحرمان، بحيث أنهم كانوا يعتقدون أن حياة العبودية هي أفضل لهم من حياة الحرية؛ والسبب يعود إلى أنهم لم يذوقوا ولو لمرة واحدة طعم الحرية في حياتهم، فقد قضوا سنيناً طويلة على هذه الحالة، فتشبعت نفوسهم وأفكارهم بالعبودية، فكانت النتيجة أنهم فضّلوها على الحرية، واعتبروا أن الحياة لا يوجد فيها شيء مضاد للعبودية، بل أنّ الاستعباد هو كل شيء في هذه الحياة وإنّ الأمثال تضرب ولا تقاس.
المسلمون اليوم
فلو قارنّا بين حال عبيد أمريكا وبين ما هو عليه حال بعض المسلمين اليوم، لوجدنا أن الأمر جارٍ هكذا أيضاً في بعض البلاد الإسلامية، فاليوم ترى ما يحدث في بلاد الإسلام من مخططات استعمارية خبيثة، هدفها القضاء على شخصية المسلم بصورة خاصة، وعلى الإسلام بصورة عامة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما نراه يحدث اليوم من نشوب الحروب الكثيرة بين المسلمين أنفسهم وليس مع غيرهم، بل إنّ المسلم في الدولة الكذائية مثلاً بدأ يقتل أخاه المسلم الذي يعيش معه على أرض واحدة، وتجمعهم عقيدة واحدة، وتربطهم روابط اجتماعية معينة، ولكن من داوعي الأسف أن يفقد بعض المسلمين هذه الروابط ويستبدلها بالتناحر والتنازع.
بالإضافة إلى ذلك ما تعانيه البلدان الإسلامية ككل من عمليات نهب واستغلال لثرواتها الطبيعية الوفيرة، حيث أخذ المستعمرون يستغلونها لصالح منافعهم الشخصية، ومن ثم يضربون بها المسلمين.
ومع كل هذه المعاناة، وهذه الأوضاع، فإنّا لو طرحنا مبدأ الوحدة الإسلامية ترى البعض لا يقبلون بتكوين الأمة الإسلامية الواحدة، أو يتصورون أنّ إرجاع المسلمين إلى الأمة الإسلامية الواحدة من المسائل المثالية التي لا تقبل التحقق؛ وذلك بسب رسوخ حالة التفرقة والتشتت بين المسلمين. فالبعض من الناس يهلكون أنفسهم لأجل شهوة مؤقتة، فمثلاً هناك من يدخن الكثير من السجائر بالرغم من منع الطبيب له، فما هو السبب الذي يدعوه لهذا؟
الجواب: إنّ الإنسان الذي يدخّن كثيراً، بالرغم من منع الطبيب له هو: أنه قد أبطل قدرته الفكرية، وهكذا بالنسبة إلى إرادته، فقد عطلهما عن العمل، بحيث أنه جعل الرغبة هي البديل، فأصبح هذا الإنسان مسيّراً من قبلها، ويعمل بحسب الإيحاءات التي توجهها له شهوته من دون أن يراجع نفسه وعقله، ومثل هذا الأمر تراه يجري الآن عند بعض المسلمين، إذ أنهم يرغبون بالتفرقة والتشتت بدلاً من الوحدة والأخوة، وذلك تلبية لنداء الشهوة والشيطان والعصيان، ومثل هذه الأمور تصبّ في صالح الاستعمار الذي يدعو إليها، ويعمل ليله ونهاره على خلق مثل هذه الأجواء المضطربة التي من خلالها يسعى إلى تحقيق غاياته وأهدافه العنصرية.
الاستعمار وراء التجزئة
قبل مائتي سنة كانت أفغانستان جزءاً من إيران، ولكن اليوم نجدهما على هيئة أخرى، فقد أصبحت أفغانستان دولة ذات سيادة مستقلة استقلالاً تاماً عن إيران.
ومن الأمثلة الأخرى، أننا لو تتبعنا التاريخ المعاصر، ووقفنا وقفة قصيرة عند العهد العثماني، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية قد سيطرت سيطرة تامة على مناطق شاسعة وكبيرة من الدول الإسلامية، فلم تكن هناك أي موانع أو حواجز تعرقل وتقيد تحرك الأفراد من منطقة إلى أخرى، على العكس مما هو عليه الآن، لأن عمر الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين لم يتجاوز الستين سنة، حيث كانت البلاد الإسلامية بلداً واحداً والشعب المسلم شعباً واحداً، فلا تفرّق ولا عنصريات ولا قوميات، وبقي الأمر على هذا الحال يجري وفق مجراه، حتى بات الضعف والعجز يدبّان في إدارة ومؤسسات الحكومة العثمانية؛ نتيجة سياساتهم الهوجاء.
وقد فسح هذا الضعف المجال لبوادر الاستعمار أن تنشأ وتتهيأ للظهور على الساحة العالمية، وبالفعل ظهرت هذه القوى الجديدة، وأخذت تباشر عملها العدواني ضد الإسلام، فأول عمل قامت به هو أنها عملت على تشتيت هذا الشمل وتمزيقه، فتجزأت دولة العثمانيين ـ بعد أن كانت موحّدة ـ إلى دويلات ذات حواجز وحدود جغرافية تفصلها عن جاراتها، فأصبحت الدولة الإسلامية منقسمة تحت سيطرة واستعمار قوى استعمارية عديدة. فما هو السبب الذي يقف وراء مثل هذه العمليات الاستعمارية في تجزئة بلادنا الإسلامية؟
الجواب: الكل يعرف أنّ هدف الاستعمار الأول والأخير هو النهب والاستغلال، فكيف يتم له ذلك؟ لا بدّ من وجود طرق توصله إلى ما يريد، ومن هذه الطرق: تجزئة الدول الإسلامية، وهذا ما يسعى الاستعمار إلى تحقيقه بالذات، فإنهم يعملون ليل نهار على إيجاد مخططات عدوانية بموجبها يتم ترسيخ تجزئة البلاد الإسلامية، ومن بعدها تتم لهم السيطرة عليها، هذا من جانب، ومن جانب آخر تراهم ينشرون الفساد، وبشتى أنواعه في بلادنا؛ ولهذا نرى أن الفساد يزداد يوماً بعد آخر، بدون أن نشعر به، وما علينا إلّا أن نقف بكل حزم وقوة أمام هذه الهجمات الاستعمارية، لرد هذا المكر الشيطاني الذي يستخدمه العدوّ وسياساته العدوانية ضد أبناء أمتنا الإسلامية.
التخلف خطة استعمارية
أحد الأمور التي جعلت الاستعمار يتكالب على البلاد الإسلامية هو ما تزخر به أراضي هذه البلاد من ثروات معدنية هائلة، وهناك أمور أخرى كثيرة مذكورة في محلها، ولكن الأمر الذي لا بدّ من الإشارة إليه هو أنّ ما تعانيه البلدان الإسلامية من التخلف الطاغي عليها هو الذي مكّن الاستعمار أن يسيطر على هذا البلاد، ويسخّر ما يشاء من ثرواتها لصالحه، وقد عمل المستعمرون على تكريس هذا التخلف حتى لا يفيق المسلمون من سباتهم، ومن ثم يطالبون بالتحرر والاستقلال.
وقد رأى أن الحل الوحيد للحد من هذه الأخطار هو تجزئة هذه البلاد إلى دويلات، فبعد أن تمّ له ما أراد وجد أنه وبتجزئة هذه البلاد يستطيع أن ينشّط نفوذه ويقويه بين حين وآخر، وأنه يتمكن من بسط هيمنته متى ما يشاء، فأخذ يسرح ويمرح كيف ما يريد. فالواجب علينا إيجاد الحل للتخلص والقضاء على هذه المخططات الاستعمارية.
التصدي للمخططات الاستعمارية
ولأجل القضاء عليها نستطيع أن نوجز بعض النقاط علّها تكون جزءاً من الحل لهذه المخططات الغربية:
1- إننا إذا أردنا أن نقف بوجه هذه المخططات، فالأمر الأول الذي يجب علينا أن نعمل به، هو أن نغيّر ما بأنفسنا كما قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ)(23).
فالواجب علينا أن نغير من أنفسنا تغييراً جذرياً، وهذا يتم بالرجوع إلى القرآن الكريم وسيرة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله)، وأئمتنا الطاهرين (عليهم السلام)، وأن نعمل بمثل ما عملوا، فإذا تمكنا من السير على نهجهم بالشكل الصحيح، فسوف نتمكن من طرد الاستعمار من بلادنا بالتأكيد، وإننا على أقلّ تقدير سوف لا نكون سوقاً لتصريف منتجاتهم وبضائعهم، بل سوف نسعى إلى الاعتماد على أنفسنا في ما يسمى بعالم اليوم بالاكتفاء الذاتي والاستعمار يعلم أنه إذا حصل المسلمون على سيادتهم وكرامتهم الكاملة سوف لا يطول عمره كثيراً.
فسيرة الأئمة الهداة المعصومين عليهم الصلاة والسلام شعلة وضاءة تكشف لنا سواد الظلمات، وترشدنا إلى سبل الضياء والنور، الذي يرضي اللّه سبحانه وتعالى ورسوله الكريم (صلى الله عليه وآله).
روي عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) في وصيته لعبد اللّه بن جندب أنه قال: «يا ابن جندب! حقّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها...» ثم قال (عليه السلام): «رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس كمن يذيع أسرارنا...»، ثم قال (عليه السلام): «يا ابن جندب! إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده».
قلت: يا ابن رسول اللّه وما هي؟
قال: «أمّا مصائده فصد عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها اللّه...» ثم قال (عليه السلام): «يا ابن جندب، الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه يوم بدر وأحد، وما عذّب اللّه أمة إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم. يا ابن جندب، بلِّغ معاشر شيعتنا، وقل لهم، لا تذهبنّ بكم المذاهب، فوالله لا تنال ولايتنا إلّا بالورع والاجتهاد في الدنيا، ومواساة الإخوان في اللّه، وليس من شيعتنا من يظلم الناس!» ثم قال (عليه السلام): «يا ابن جندب إنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) قال لأصحابه: أرأيتم لو أن أحدكم مرّ بأخيه، فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته، أكان كاشفاً عنها كلّها أم يرد عليها ما انكشف منها؟
قالوا: بل نرد عليها.
قال: كلا بل تكشفون عنها كلها ـ فعرفوا أنه مثل ضربه لهم ـ.
فقيل: يا روح اللّه وكيف ذلك؟
قال: الرجل منكم يطّلع على العورة من أخيه فلا يسترها، بحق.
أقول لكم: إنكم لا تصيبون ما تريدون إلّا بترك ما تشتهون. ولا تنالون ما تأملون إلّا بالصبر على ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه. لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبكم كهيئة العبيد، إنما الناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا المبتلى واحمدوا اللّه على العافية»(24).
ومن وصيته (عليه السلام) لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول مؤمن الطاق جاء فيها وهو يخاطب ابن النعمان: «يا ابن النعمان إيّاك والمراء فإنه يحبط عملك...» إلى أن قال (عليه السلام) «إن أبغضكم إليّ المترئسون، المشاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا مني ولا أنا منهم، إنما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا واتبعوا آثارنا واقتدوا بنا في كل أمورنا»(25).
2- العمل على تنمية ثلاثة أمور: العقل، العلم، التربية.
أ: العقل
قال الإمام الباقر (عليه السلام): «لما خلق اللّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(26).
فيجب على المسلمين أن يعملوا على تنمية عقول أبنائهم؛ لأن العقل نعمة أنعم بها اللّه عزّ وجلّ على عباده؛ حتى يتمكن العبد من مواجهة الأهواء والشهوات والانحرافات التي يواجهها من كل حدب وصوب، فالعقل يجب أن يكون هو الحاكم لدى الفرد المسلم لا الشهوة والرغبة، فإذا ما أصبح العقل هو الحاكم، وهو المقرر، فستتغير بالتأكيد جميع أعمال الإنسان، وتتجه نحو الصواب والصلاح.
لقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) تبيّن دور العقل، وتفضيل اللّه سبحانه وتعالى له على باقي المخلوقات في البدن الإنساني.
فقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «لكل شيء آلة وعدة، وآلة المؤمن وعدته: العقل، ولكل شيء مطية، ومطية المرء العقل، ولكل شيء دعامة ودعامة الدين العقل، ولكل شيء غاية، وغاية العبادة العقل، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل، ولكل تاجر بضاعة، وبضاعة المجتهدين العقل، ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل، ولكل سفر فسطاط يلجأون إليه وفسطاط المسلمين العقل»(27).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ليس الرؤية مع الأبصار، وقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من انتصحه»(28).
وقال الإمام السجاد علي بن الحسين (عليهما السلام): «من لم يكن عقله من أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه»(29).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «يغوص العقل على الكلام، فيستخرجه من مكنون الصدر كما يغوص الغائص على اللؤلؤ المستكنّة في البحر»(30).
ب: العلم
وهو كالمصباح المضيء في الظلمات، إذ يحفظ الإنسان من الوقوع في المهلكات، وبالعلم يتمكن الإنسان أن يحفظ نفسه، ويقيها من الانحراف إلى تيارات الكفر والعصيان؛ فلذا يجب أن يتعلم كل فرد صغيراً كان أو كبيراً من المسلمين، لينتبهوا إلى ما يحاك لهم من مؤامرات تريد الهلاك لهم؛ لذا يجب أن تطبع الكتب فضلاً عن الصحف والمجلات والإذاعات وباقي وسائل التوعية؛ لأنّ عدد المسلمين في العالم أكثر من مليار ونصف المليار(31).
فقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «اطلبوا العلم ولو بالصين فان طلب العلم فريضة على كل مسلم»(32).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «كلّما زاد علم الرجل زادت عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»(33).
وقال (عليه السلام): «يا مؤمن، إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمها فما يزيد من علمك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك فإن بالعلم تهتدي إلى ربك وبالأدب تحسن خدمة ربك وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه فاقبل النصيحة كي تنجو من العذاب»(34).
وقد جعل الباري عزّ وجلّ العلم ذا شأن وشرف عظيم، وهذه الشرفية والشأنية العظيمة لا تليق بأن تستودع في غير محلها، فلا بد وأن توضع في المحل المناسب لها، وقد وضعها سبحانه في مكانها الذي يتلاءم مع منزلتها الرفيعة فأودعها في أفضل مخلوقاته، وهو الإنسان.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أنّ الباري عزّ وجلّ في أول سورة أنزلها على نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) تحدث عن العلم والمعرفة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدلّ على أن القرآن قد أعطى للعلم مكانة خاصة من بين آياته الشريفة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم... به يطاع الرب وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام والعلم إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء»(35).
ج: التربية
وهي عامل مهم في تعديل وتهذيب أفكار المسلمين، ونرى الذين اهتموا بهذا الجانب رأوا ثماراً طيبة ونتاجاً رائعاً، وأصل التربية هي هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كلّف بالأدب قلت مساويه»(36).
وقال (عليه السلام): «إن الناس إلى صالح الأدب أحوج منهم إلى الفضة والذهب»(37).
وفي وصية لقمان لابنه قال: «يا بني إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً، ومن غني بالأدب اهتمُ به ومن أهتم به تكلف علمه، ومن تكلف علمه اشتد طلبه ومن اشتد طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فانك تخلف في سلفك وتنفع به من خلفك ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك راهب وإياك والكسل عنه والطلب لغيره..»(38). ولكن الشيء الذي يثير الحزن هو أن بلادنا الإسلامية أصبحت مملوءة بالمناهج والأفكار الغربية.
قال أحد الشخصيات الغربية: بأنّ مناهجنا في البلد الكذائي موجودة كاملاً، ولكن دون أن يشعروا بذلك كالماء الموجود في إناء زجاجي شفاف فالذي ينظر إلى الإناء يتصور أنّه فارغ، ولكنّه مملوء بالماء.
هكذا تسللت المناهج الغربية إلينا، وأخذنا نعمل بها دون أن نشعر، بين ما جعلنا الأحكام الإسلامية الصحيحة التي دعانا اللّه عزّ وجلّ وأئمتنا الهداة (عليهم السلام) إلى تطبيقها على الرفوف للتراث، أو للزينة فقط.
إذاً، فلا بدّ أن نسعى إلى تحقيق تلك الأمور التي ذكرناها آنفاً، وأن نعمل على تنميتها لأنها من الأمور العليا التي دعا إليها الإسلام العظيم، وإن شقّ علينا ذلك وطال بنا العناء والجهد، إذ أنّ اللّه عزّ وجلّ وراء عباده المؤمنين، وقد وعدهم بنصره حيث قال سبحانه وتعالى:
(إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ)(39).
«اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(40).
من هدي القرآن الحكيم
الإسلام يرفض التفرقة
قال تعالى: (وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ)(41).
وقال سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ)(42).
وقال عزّ وجلّ: (وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ)(43).
وقال تبارك وتعالى: (وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ)(44).
وقال عزّ من قائل: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ)(45).
مسؤولية المسلمين
قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسَۡٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(46).
وقال عزّ وجلّ: (وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَلَتُسَۡٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ)(47).
وقال سبحانه: (وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسُۡٔولُونَ)(48).
وقال تعالى: (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ)(49).
الإسلام يدعو للعلم والتعلم
قال تعالى: (وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ)(50).
وقال سبحانه: (وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا)(51).
وقال جلّ وعلا: (ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ * ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ)(52).
وقال عزّ وجلّ: (فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ)(53).
العمل بسيرة المعصومين (عليهم السلام)
قال تعالى: (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ)(54).
وقال سبحانه: (لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِيهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَۚ)(55).
من هدي السنّة المطهّرة
الإسلام يرفض التفرقة
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدّوا الأمانة»(56).
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «لا تزال أمتي بخير ما لم يتخاونوا وأدوا الأمانه وآتوا الزكاة وإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين»(57).
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «إلزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة»(58).
وقال (عليه السلام): «إياكم والفرقة فإنّ الشاذ عن أهل الحق للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب»(59).
وقال (عليه السلام): «إياكم والتدابر والتقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(60).
مسؤولية المسلمين
وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «يا معاشر قرّاء القرآن اتقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حمَّلكم من كتابه فإني مسؤول وإنّكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب اللّه وسنتي»(61).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(62).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «أوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون فإن اللّه تعالى يقول: (كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ)(63)، ويقول: (وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ)(64)، ويقول: (فَوَرَبِّكَ لَنَسَۡٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(65) يا عباد اللّه أن اللّه جلّ وعزّ سائلكم عن الصغير من عملكم والكبير»(66).
عن سفيان قال سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(67).
السنة تدعو للعلم والتعلم
عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «تعلموا العلم فإنّ تعلمه حسنة»(68).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لست أحب أن أرى الشاب منكم إلّا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً»(69).
وعن قال الإمام الصادق (عليه السلام): «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تُعلِّمونَه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فذهب باطلكم بحقكم»(70).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام):«عليكم بالتفقه في دين اللّه ولا تكونوا أعراباً»(71).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا»(72).
العمل بسيرة المعصومين (عليهم السلام)
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في خطبة له في حجة الوداع:
«يا أيها الناس، والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه»(73).
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «اسمعوا وأطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر فإنه نظام الإسلام»(74).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي»(75).
اضف تعليق