التأليف هو فن خاص، إذ هو بالإضافة إلى احتياجه إلى العلم، يحتاج إلى الخبرة في كيفية بيان المطالب بفصاحة وبلاغة، وتصويرها بصورة جميلة وواضحة تستطيع إقناع الناس واستهواءهم ولكنه ليس بصعب ويمكن لكل أحد أن يبدأ به. وعن رسول الله (ص) قال: المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم...
من مقومات رجل الدين: التأليف، فينبغي لرجل الدين أن يؤلف الكتب النافعة للدين والدنيا، فان الإسلام دين ودنيا معاً، وذلك كما قال سبحانه: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا)(1).
أما أن يقتنع رجل الدين بإرشاد الناس في الأمور الدينية فحسب، أو يقتنع بإرشادهم في الأمور الدنيوية فقط، فليس ذلك حسب الموازين الواردة في الآيات والروايات، ولا وفق السيرة التي سبق عليها الفقهاء المؤلفون.
ومن الواضح: أن التأليف هو فن خاص، إذ هو بالإضافة إلى احتياجه إلى العلم، يحتاج إلى الخبرة في كيفية بيان المطالب بفصاحة وبلاغة، وتصويرها بصورة جميلة وواضحة تستطيع إقناع الناس واستهواءهم ولكنه ليس بصعب ويمكن لكل أحد أن يبدأ به.
وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلا ناداه ربه عزوجل جلست إلى حبيبي فوعزتي وجلالي لأسكنتك الجنة معه ولا أبالي»(2).
نشر العلم وعدم كتمانه
هذا وقد ورد الحث الكبير على نشر العلم وعدم كتمانه، ومن الواضح أن التأليف من مصاديق النشر، وكذلك المنبر، وهكذا التدريس على ما سيأتي.
قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)(3).
وقال سبحانه: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(4).
وقال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)(5).
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون)(6).
التأليف وكثرة وسائل الإعلام
ثم إن التأليف من الأشياء المهمة جداً حتى في زمن كثرة وسائل الإعلام، كالراديو والتلفزيون والإنترنت والقنوات الفضائية وما أشبه، فان كل واحد من هذه الوسائل له أهميته الخاصة إلى جانب أهمية الكتاب والمجلة والنشرة وما أشبه، وقد اهتم بالتأليف ونشر الثقافة عبر الكتاب كل من الأديان والمبادئ الصحيحة والباطلة، وإليك بعض القصص وهي قطرة من بحر وفيض من غيض للدلالة على ما ذكر وذلك بقدر ما يسعه هذا الكتاب.
عند مفترق الطريق
ذات مرة ذهبنا على عادتنا لمهمة دينية إلى الكاظمية المشرفة، ثم رجعنا إلى كربلاء المقدسة، وفي طريقنا كان الرجوع من بغداد، وعندما وصلنا مفترق الطريق توقفت السيارة لأجل الإشارة الحمراء وذلك على مقربة من الجسر، وتوقفت حوالينا سيارات كثيرة كما هي العادة حيث التوقف عند الإشارة الحمراء، وهنا عمدت إلى نافذة السيارة وأنزلت زجاجتها لأن الهواء كان حاراً جداً وإذا بي أرى أن شيئاً حجيماً ألقي في سيارتنا، فنظرت فإذا هو مجموعة من الكتب ولعلها كانت عشرة أو عشرين كتاباً فتعجبت وتابعت بنظراتي إلى خارج السيارة لأرى من الذي رمى بهذه الكتب في داخل سيارتنا، فإذا بي أرى قساً مسيحياً بلباسه الخاص وأمامه عربة ممتلئة من الكتب يسوقها حمال معه وكلما وصل إلى سيارة مفتوحة نافذتها أخذ مجموعة من الكتب وألقاها فيها. ثم إني أخذت أتصفح تلك الكتب فكانت كتباً متنوعة تبلغ للمسيحية وتبشر بها، وكان من جملتها كتاب الإنجيل أيضاً.
هذا ولا يخفى أن هذه القصة قد اتفقت لي قبل خمس وأربعين سنة، أي: قبل نصف قرن تقريباً.
وقد قال الشاعر:
لا تقولن مضت أيامه
إن من جد على الدرب وصل
وقبل ذلك قال الله في القرآن الحكيم: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)(7) أي: أن الله تعالى يعطي في الدنيا المؤمنين والكافرين والمنافقين كلا بقدر عمله فإنها دار أسباب ومسببات.
ولقد حرض الله تعالى المؤمنين على العمل في الدنيا بقوله سبحانه: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(8).
ما كتب حول غاندي
لقد كتبوا حول غاندي(9) ـ الزعيم الهندي ـ إضافة إلى الكتب المتفرقة، موسوعة في ثلاثمائة مجلد (10) فهل كتبنا نحن المسلمين عن سيرة نبينا رسول الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) أو عن حياة وصيه وابن عمه بطل الإسلام الخالد علي بن أبي طالب (عليه السلام) موسوعة تضم ثلاثمائة مجلد؟
وقد كتب حول (إقبال اللاهوري)(11) خمسة آلاف كتاب ومقال بمختلف اللغات(12).
وقد تم ترجمة كتاب مؤسس الصين الشيوعية وزعيم الحزب الأحمر في الصين (ماوتسي تونغ)(13) الذي يشرح فيه أسس الشيوعية؛ بمائة لغة من اللغات المعروفة في الدنيا.
وإن هناك مؤلفة تدعى (آغاثا كريستي)(14) قد ألفت ـ على ما قالوا ـ مائة وأربعة عشر كتابا ترجمت إلى مائة وثلاث لغات، وقد طبع منها أكثر من ملياري نسخة وكان من مجموع هذا المقدار ستمائة وخمسة ملايين كتاب باللغة الإنجليزية فقط.
الطبع والنشر
نعم انه ينبغي لنا كرجال دين الاهتمام بالتأليف والإكثار من الكتب، والإسراع في الطبع والنشر، والتوزيع والتعميم، فقد قال سبحانه: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك)(15).
وقد قال الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا»(16).
علماً بأن الغزو الثقافي والفكري هو أسرع نفوذاً وأمض ألماً وأسرع نفوذاً في الشعوب من الغزو العسكري والسياسي.
لكن علينا نحن رجال الدين أن لا نيأس من قلة إمكاناتنا، وكثرة إمكانات غيرنا، وان لا يكون ذلك سبباً لتوقفنا أو تباطئنا عن التأليف والتصنيف، وعن الطبع والنشر، وذلك لأن الله تعالى وعدنا العلو والتقدم على غيرنا بقوله: (ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون)(17) وقد ذكر المفسرون: انه كان في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أزمة حادة في العلم والثقافة، وكانت نسبة الأمية نسبة عالية بحيث لم يكن في مكة من يستطيع الكتابة والقراءة إلا عشرة أشخاص فقط، بينما نشاهد أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال تشجيعاً للعلم والعلماء وكشفاً للحقيقة والواقع: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به»(18).
وقد اقبل المسلمون على ما كشفه لهم نبيهم (صلى الله عليه وآله) من حقيقة العلم وواقعه إقبالاً حسناً، حتى قبضوا بناصية العلم وصاروا بسببه سادة العالم، بينما ترك المسلمون اليوم العلم والعمل فتأخروا وأخذ بهما الآخرون فتقدموا، فقد بلغ حسب التقارير الرسمية عدد محطات الإذاعة والتلفزيون الموجّهة من المؤسسات المسيحية إلى العالم: ثلاثة آلاف وسبعمائة وسبعين محطة(19).
وقالوا: إن أوروبا وحدها وفي خلال السنوات العشر المقبلة يكون بإمكانها استقبال ثلاثة آلاف وخمسمائة قناة فضائية(20).
ومن الواضح: أن كلها تدعو إلى الفكر الغربي المسيحي، والى الحضارة الغربية المسيحية.
كما انه من الواضح أيضاً ما لهذه الإذاعات والتلفزيونات والصحف وما أشبه ذلك من التأثير الكبير في العالم، وهكذا الارتباطات وسرعة الاتصالات، فان لها أثراً بالغاً في إيصال المعلومات إلى أقصى العالم وأدناه، وها هو عندي الآن مجلتان مسيحيتان إحداهما تطبع منها ثمانية عشر مليون نسخة في كل شهر، والثانية تطبع منها أربعين مليون نسخة في كل شهر وذلك بلغات مختلفة، فهل عندنا نحن المسلمين مجلات كهذه؟
هذا وقد كان علماؤنا الأعلام (قدس الله أسرارهم) يهتمون بالكتابة والتأليف كثيراً وهذه آثارهم بين أيدينا(21).
مع صاحب الجواهر
كان صاحب الجواهر (قدس سره) قد عهد على نفسه أن يكتب في كل ليلة مقداراً من كتاب الجواهر، وفي ذات ليلة مات ولد له، قالوا: فأخذ القلم والقرطاس، وهو باك العين محترق القلب، فجاء وجلس عند جثمان ولده وأخذ يكتب وفاءً بعهده.
وهكذا استطاع صاحب الجواهر بصبره وتجلده وثباته واستقامته أن يخلد كتاب الجواهر للحوزات الدينية والمجامع العلمية.
مع المحدث القمي
يذكر في أحوال المحدث القمي الشيخ عباس (قدس سره) صاحب كتاب (مفاتيح الجنان) أنه سافر مع جماعة من التجار إلى سوريا، فكان (قدس سره) منكباً على التأليف والمطالعة باستثناء وقت الصلاة والزيارة، وحين كان رفقته يخرجون للتنزه يصرون عليه بالخروج معهم، إلا انه كان يأبى ذلك. وكان (قدس سره) يسهر الليل، وهو يطالع ويؤلف.
في سوق الصفارين
لنرجع إلى ما ذكرناه سابقاً من أهمية الكتاب والتأليف فنقول: كان في الكاظمية المشرفة سوق يسمى: (سوق الصفارين) وكان يسمى سابقاً: (سوق الرياحين) وهذا الاسم هو بمناسبة تاريخية معروفة، ترجع إلى زمان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حيث أنه لما سمه هارون العباسي وقضى (عليه السلام) في السجن مسموماً، حمل جثمانه إلى خارج السجن وبعد تجهيزه شيع أهل بغداد جثمانه الطاهر ومرّوا به في هذا السوق فنثر أهل السوق هنا الورود والرياحين عليه، فسمّي بسوق الرياحين، وأما تسميته في هذا اليوم بسوق الصفارين فهو لأن الصفارين يعملون فيه، فعرف بهذا الاسم.
وكيف كان: فانه كان هناك قس مسيحي يأتي كل أسبوع إلى هذا السوق فيمر به من أوله إلى آخره ومعه حمال يدفع عربة مملوءة من الكتب التي تدعو إلى المسيحية وتبشر بها، فكان ذلك القس يوزّع تلك الكتب على أفراد هذا السوق وغالب أهل هذا السوق كانوا أميين لا يقرؤون ولا يكتبون، فكانوا يأخذون منه الكتب، ولكن بمجرد ذهاب القس من السوق كانوا يلقون الكتب في النار ويحرقونها.
وكان هذا القس مستمراً على عمله هذا في كل أسبوع، وفي يوم من الأيام لحقه أحد الصفارين وقال له: انك عندما تعطي الكتب لهؤلاء الصفارين، فانهم بمجرد خروجك من السوق يلقونها في النار ويحرقونها، فتبسم القس وقال: إني أعلم هذا ولكن آمل أن يذهب أحدهم بواحد من هذه الكتب إلى داره وله ابن أو بنت فيقرؤون الكتاب، فيميلون بذلك إلى المسيحية وهذا الأمل يكفيني في بذل هذه الكتب علماً بأن الكتب ليست لي وإنما هي لمؤسسة خيرية مسيحية تقوم بطبع الكتب ونشرها.
من أنشطة الوهابيين
نقل لي أحد الأصدقاء الذين توفقوا للحج وتشرفوا إلى زيارة بيت الله الحرام قبل سنوات القصة التالية قائلاً: لقد التقيت بعضو من أعضاء إدارة توزيع الكتب في المدينة المنورة وطلبت منه شيئاً من الكتب.
فقال لي: أظنك رجل دين؟
قلت: نعم.
قال: اذهب إلى المخزن وخذ ما شئت من الكتب.
قال: فذهبت إلى المخزن وإذا بي أرى بناية ضخمة، ومكاناً واسعاً جداً وهو يشتمل على ردهات وصالات مملوءة من أرضها إلى سقفها بالكتب المتنوعة وباللغات المختلفة من العربية والفارسية والتركية والهندية والاندنوسية وغيرها.
قال: فأخذت جملة من تلك الكتب وبقدر ما يمكنني حمله وخرجت، ثم جئت بها إلى قم وقد قدرت سعرها بالعملة المحلية في ذلك الوقت فكانت ما يقارب من عشرين أو ثلاثين ألف تومان.
أقول: لقد رأيت أنا بعض تلك الكتب وطالعتها، فوجدتها تدعو إلى الوهابية وتزرع الفرقة بين المسلمين، وتؤلّب بعض المسلمين ضد بعض، يعني: على خلاف ما أمر الله به وبلغ له رسوله (صلى الله عليه وآله) من قوله تعالى: (وان هذه أمتكم أمة واحدة)(22) وقوله سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(23).
ان في القرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) من ثقافة وفكر ما يسعد حياة البشر، ويرغد عيشه، ويحقق أمانيه وآماله، فينبغي لرجال الدين الاهتمام بالتأليف والتصنيف، والبث والنشر، وإيصال ثقافة الإسلام الراقية، وفكره المنطقي الصحيح إلى كل العالم، (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)(24).
اضف تعليق