فالإنسان محتاج إلى الاُلفة من قرنه إلى قدمه ومن مهده إلى لحده. والذي يفيض على هذه الاحتياجات صبغة الكمال هو الاُلفة بعد أن يكون قدر منها ضرورية لأصل العيش فمن الناس من يخضع إلى القدر الضروري طوعاً أو كرهاً ثم يبتعد عن الناس وهذا إنسان ناقص، أخذه...

من الناس من فطر على الألفة فتراه يألف من الحيوان والجماد، فكيف بالإنسان!

ومنهم من جُبل على الهجرة، فهو كالصخرة الصماء لا تُلصق بشيء، وإن ألصقت فسرعان ما هجرت وابتعدت.

وإذا نظرنا إلى مجتمع الإنسان رأيناه أحوج ما يكون إلى الاُلفة:

إنّ الجماد يتمكن أن يحتفظ على كيانه وحده، فالحصاة لا تحتاج إلى حصاة أخرى.

والنبات يتمكن أن ينبت وحده في الصحراء ويبقى على ريّه وبهجته إلى أن يصير هشيماً. والحيوان، إذا سرّح في واحة، أخذ ما يكفيه من النبات ولو ترك في صحراء تحرى جهده، حتى يصل إلى ماء وكلأ، فيعيش حتى يخترمه الموت.

أما الإنسان فهل يمكن أن يعيش بلا لباس؟ أو هل يمكن أن يبقى بلا قوت؟ أو هل يمكن أن يظل بغير مسكن؟ وهكذا قل: في دوائه إذا مرض وسفره براً وبحراً إذا احتاج.

ثم انظر قليلاً إلى ما تستعمله!

فثريد تأكله احتاج إلى ألوف من الأفراد فمن هيأ الأرض للزرع؟. ومن أجرى فيها الماء، ومن ربّى الثيران ومن نجر المحراث؟ ومن صنع حديدته ومن أخذ البذر؟ ومن زرعه؟ ومن حرسه؟ ومن سقاه؟ ومن؟ ومن؟

هذا ثريد تأكله، وقُل: في دار تسكنه، ولباس تلبسه، وزوجة تتمتع بها، وآلة تستعملها ولو كانت قلماً للكتابة وهكذا.. وهكذا.

فالإنسان محتاج إلى الاُلفة من قرنه إلى قدمه ومن مهده إلى لحده.

والذي يفيض على هذه الاحتياجات صبغة الكمال هو الاُلفة بعد أن يكون قدر منها ضرورية لأصل العيش فمن الناس من يخضع إلى القدر الضروري طوعاً أو كرهاً ثم يبتعد عن الناس وهذا إنسان ناقص، أخذه عن المجتمع كثير، وإعطاؤه له قليل.

ومنهم من يعطي أكثر مما يأخذ يألف أكثر من الحاجات الإنسانية وهذا مستكمل يأخذ بالمجتمع إلى الأمام.

ومنهم من يعطي قدر ما يأخذ وهذا إنسان فحسب، أمّا أنّه يخدم فلا.

والإسلام يحرص على القسم الثاني فإنه يريد الرقي والصعود، والحب والطهارة.

ألم يقل الحكماء: إن الإنسان اشتق من الإنس؟

وما تراه معتبراً في ثنايا الشريعة المطهرة، من الضيافة، والهدية، والصلة، والبر، وحسن الخلق، والتزوار، والمشايعة، والاستقبال و.. و.. و... كلها مرتبطة بهذا السلك العام وهو إيجاد الاُلفة ـ بمعناها الواسع ـ

فاسمع إلى شطر من الأحاديث الواردة بهذا الصدد.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لقاء الأخوان مغنم جسيم، وإن قلّوا)(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (ان لله عز وجل جنة لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في الله، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله)(2).

وقال (عليه السلام): (إنّ المؤمن ليخرج إلى أخيه يزوره، فيوكل الله عز وجل به ملكاً فيضع جناحاً في الأرض، وجناحاً في السماء يظله، فإذا دخل إلى منزله ناداه الجبار تبارك وتعالى: أيها العبد المعظم لحقي المتبع لآثار نبيّي، حق علي إعظامك، سلني أعطك، إدعني أجبك، اسكت أبتدئك، فإذا انصرف شيعه الملك يظله بجناحه حتى يدخل إلى منزله، ثم يناديه تبارك وتعالى: أيها العبد المعظم لحقي حق علي إكرامك، قد أوجبت لك جنتي وشفعتك في عبادي)(3).

إنه زار أخاً وكسب صداقة وشدّ عروة الوداد ومع ذلك يعطيه الله من الثواب هذا المقدار الهائل! فأي إسلام هذا الذي لا يأتي مثله أبداً؟ وما أعظمه وأسماه؟ وهل يجد الإنسان بديلاً منه؟.

وإن شئت المزيد فاسمع:

قال (عليه السلام): (أيّما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره عارفاً بحقه كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة ورفعت له درجة فإذا طرق الباب فتحت له أبواب السماء فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا أقبل الله عليهما بوجهه ثم باهى بهما الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبديّ تزاورا وتحابّا فيّ، حق عليّ أن لا أعذبهما بالنار، بعد ذا الموقف.

فإذا انصرف شيّعه ملائكة عدد نفسه وخطاه وكلامه يحفظونه عن بلاء الدنيا وبوائق الآخرة إلى مثل تلك الليلة من قابل، فإن مات فيما بينهما أعفي من الحساب.

وإن كان المزور يعرف من حق الزائر، ما عرفه الزائر من حق المزور، كان له مثل أجره)(4).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من زار أخاه لله لا لشيء غيره، لإلتماس ما وعد الله وتنجّز ما عنده، وكّل الله به سبعين ألف ملك ينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنة)(5).

وقال (عليه السلام): (من زار أخاه في الله قال عز وجل: إياي زرت وثوابك عليّ ولست أرضى لك ثواباً دون الجنة)(6).

وقال (عليه السلام): (من زار أخاه في الله في مرض أو صحة لا يأتيه خداعاً ولا استبدالاً وكّل الله به سبعين ألف ملك ينادون في قفاه: أن طبت وطابت لك الجنة، فأنتم زوار الله وأنتم وفد الرحمن حتى يأتي منزله.

فقال له يسير: جعلت فداك فإن كان المكان بعيداً؟ قال: نعم يا يسير، وإن كان المكان مسيرة سنة، فإن الله جواد والملائكة كثيرة يشيعونه حتى يرجع إلى منزله)(7).

وربما يخطر على بال بعض الناس: كيف يكون الملائكة بهذه الكثرة؟

إنّهم غافلون عن خلق الله وهل من مانع أن يخلق الله ملايين من الملائكة بكلمة (كن)؟

إسمع:

يقول العلم الحديث: عند التناسل يفرز الرجل (26) مليون حيواناً منويّاً صغير الحجم.

فهل من يقدر على خلق (200) مليون حيوان في قطرة ماء لا يقدر على خلق بلايين البلايين من الملائكة في أقطار الأرض وآفاق السماء؟.

وحقّاً: إنّ من ينكر الشرع لسخافات وهمية، بعيد عن موازين المنطق والعقل!

وبالأخص بعدما ظهر من أسرار الأحاديث كثرة كبيرة وتبين أنّها مطابقة للواقع والحقيقة.

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من زار أخاه في الله تعالى ولله، جاء يوم القيامة، يخطر بين قباطي من نور، لا يمر بشيء إلا أضاء له حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله عز وجل له: مرحباً وإذا قال: مرحباً أجزل الله عزّ وجل له العطيّة)(8).

ومعنى الوقوف بين يدي الله: حيث توجّه خطابه وإلا فليس لله مكان كما ذكر في العقائد.

وقال (عليه السلام): (لزيارة مؤمن في الله، خير من عتق عشر رقبات مؤمنات، ومن أعتق رقبة مؤمنة وقى كل عضو عضواً من النار حتى إن الفرج يقي الفرج)(9).

وقال (عليه السلام) ـ لأبي خديجة ـ:

كم بينك وبين البصرة؟

قال: في الماء خمس إذا طابت الريح.. وعلى الظهر ثمان ونحو ذلك.

فقال (عليه السلام): ما أقرب هذا! تزاوروا وتعاهدوا بعضكم بعضاً فإنه لا بد ـ يوم القيامة ـ يأتي كل إنسان بشاهد شهد له على دينه)(10).

وقال (عليه السلام): (إنّ المسلم إذا رأى أخاه كان حياة لدينه إذا ذكر الله)(11).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مثل الأخوين إذا التقيا: مثل اليدين.. تغسل إحداهما الأخرى ما التقى المؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً)(12).

وفي القرآن نص الأحاديث على الألفة بلفظها:

(... لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم...)(13).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)(14).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (فرحم الله امرءً ألّف بين وليّين لنا يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا)(15).

كما أنّ في الأحاديث ترغيب إلى أسباب الالفة:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أولى الناس بالله وبرسوله: من بدأ بالسلام)(16).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تغضبوا ولا تقبضوا، إفشوا السلام وأطيبوا الكلام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)(17) وقال الباقر (عليه السلام): إنّ الله يحبّ إطعام الطعام وإفشاء السلام)(18).

وقال (عليه السلام): (من التواضع أن تسلّم على من لقيت)(19).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (تصافحوا فإنها تذهب بالسخيمة)(20).

وقال (عليه السلام): (مصافحة المؤمن أفضل من مصافحة الملائكة)(21).

ومن الطبيعي أن يكره الإسلام الهجرة ـ بعد ذلك ـ ويندد في النكير على من هجر أخاه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام ولم يكن بينهما ولاية فأيهما سبق الكلام لأخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب)(22).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا هجرة فوق ثلاث)(23).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما، فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا للظالم فما بال المظلوم؟

قال (عليه السلام): لأنه لا يدعو إلى صلة أخيه، ولا يتعامى له عن كلامه)(24).

سمعت أبي (عليه السلام) يقول: (اذا تنازع اثنان فعاز أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلى صاحبه، حتى يقول لصاحبه: أي أخي أنا الظالم حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه فإن الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم)(25).

وقولة المظلوم: أنا الظالم خال عن المتعلق فلا يوجب الكذب.

وقال (عليه السلام): (لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر مسلمان فإذا التقيا اصطكت ركبتاه وتخلعت أوصاله، ونادى يا ويله: ما لقي من الثبور)(26).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه. فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه، وتمدّد، ثم قال: فزت)(27).

والإنسان المبتعد عن الاجتماع، لا بد وأن تهتاج في نفسه عوامل أكثر إنّه يراهم، وكلهم إثم، أليسوا يهمزون ويلمزون؟ ويمنعون حقّاً؟ ويخوضون في باطل؟ ولذا تراه يهجرهم هجراً غير جميل وفي ههنا يكمن انفصام المجتمع الخيّر.

لكن الإسلام يريد الإلفة والاجتماع، حتى اذا رأى الإنسان الشر رأى الخير إلى جانبه، فلا يكون مبتعداً سيء الظن.

* مقتطف من كتاب الفضيلة الإسلامية للمرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

...............................
1 ـ بحار الأنوار: 74/350، ب21 ـ جامع السعادات: 2/253.
2 ـ بحار الأنوار: 74/348، ب21 ـ جامع السعادات: 2/253.
3 ـ أصول الكافي: 2/178 ـ جامع السعادات: 2/253.
4 ـ جامع السعادات: 2/253.
5 ـ بحار الأنوار: 74/355، ب21 ـ جامع السعادات: 2/254.
6 ـ بحار الأنوار: 74/345، ب21 ـ جامع السعادات: 2/254.
7 ـ بحار الأنوار: 74/345، ب21 ـ جامع السعادات: 2/254.
8 ـ بحار الأنوار، 74/347، ب21 ـ جامع السعادات: 2/254.
9 ـ بحار الأنوار، 74/349، ب21 ـ جامع السعادات: 2/254.
10 ـ جامع السعادات: 2/254.
11 ـ جامع السعادات: 2/254.
12 ـ جامع السعادات: 2/254.
13 ـ سورة الأنفال: الآية، 63.
14 ـ أصول الكافي: 2/106 ـ جامع السعادات: 2/255.
15 ـ أصول الكافي: 2/344.
16 ـ جامع السعادات: 2/255.
17 ـ جامع السعادات: 2/255.
18 ـ بحار الأنوار: 74/361، ب21 ـ جامع السعادات: 2/255.
19 ـ بحار الأنوار: 75/120، ب51 ـ جامع السعادات: 2/255.
20 ـ أصول الكافي: 2/183 ـ جامع السعادات: 2/256.
21 ـ أصول الكافي: 2/183 ـ جامع السعادات: 2/256.
22 ـ أصول الكافي: 2/345 ـ جامع السعادات: 2/251.
23 ـ أصول الكافي: 2/344 ـ جامع السعادات: 2/251.
24 ـ أصول الكافي: 2/344 ـ جامع السعادات: 2/251.
25 ـ أصول الكافي: 2/344 ـ جامع السعادات: 2/251.
26 ـ أصول الكافي: 2/346 ـ جامع السعادات: 2/252.
27 ـ أصول الكافي: 2/345 ـ جامع السعادات: 2/252.

اضف تعليق