للنفس ميزان يوزن بها السمو والانحطاط والرفعة والضعة فإذا دخله نقص أو انحراف، أوجب خللاً في الكيل والوزن وخيالاً في المقايسة والموازنة... إن كل نفس لا بد وأن يكون لها مقدار من الثقل أو الخفّة، فإرادة أن ترى أثقل أو أخف مدارات ورياء ومع ذلك فصعوبة يتحملها الإنسان...
إن النفس البشرية تحب السمو المادي والأدبي. ولا يخلو من هذه الغريزة فرد ولا جماعة.. ولكنه قد يسيء في استغلال هذه الملكة، فيصرفها في مصارف ضارة لا تؤتي ثمارها إلا بشعةً مرّةً وكأنها من رؤوس الشياطين، وبذلك تتقهقر الكمالات والملكات الخيرة إلى الوراء بالعكس مما زعم صاحبها من إنها تدفعه إلى الإمام.
وللنفس ميزان يوزن بها السمو والانحطاط والرفعة والضعة فإذا دخله نقص أو انحراف، أوجب خللاً في الكيل والوزن وخيالاً في المقايسة والموازنة... إن كل نفس لا بد وأن يكون لها مقدار من الثقل أو الخفّة، فإرادة أن ترى أثقل أو أخف مدارات ورياء ومع ذلك فصعوبة يتحملها الإنسان بلا أي فائدة.
ومصيبة المتكبر هذه:
انه ضيع مقياس نفسه، فيريد أن ينفعها من حيث يعاكسه القدر، فيضرها.
ولا يقال: كبر أو تكبر أو كبرياء، إلا إذا زاد الشخص في مقداره زيادة باطلة لا يسندها الحق ولا يقرها المنطق... كما لا يقال: مهانة وذلة وابتذال، إلا إذا نقص الشخص في مقداره نقصاناً مخالفاً للحقيقة والواقع.. وكلاهما انحراف عن الواقع وزيغ عن الوسط العدل ولا يجران إلى المتصف بهما إلاّ ضعةً وانحطاطاً!.
فالمتكبر يريد أن يسمو بنفسه، حيث يضعها برغمه. والمتبذل يريد أن يخدم ذاته حيث ينقصها.
وفرق بين العزة والتكبر، كما انه فرق بين التواضع والابتذال فالأولان ممدوحان والآخران مذمومان.
والإسلام حيث يتطلب الحقيقة ويأمر بها، ويكره كل مدارات ورياء وكذب وانحراف، يأمر بالعزة (... ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين...)(1) من غير كبر وينهي عن الابتذال والمهانة دون التواضع.
ونسرد بعض الآثار في ذم التكبر والمتكبر.
قال الله تعالى: (... كذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبّر جبار)(2).
وقال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون...)(3).
وقال تعالى: (... والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم... وكنتم عن آياته تستكبرون)(4).
وقال تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبّرين)(5).
وقال تعالى: (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون)(6).
وقال تعالى: (...إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)(7).
وقال تعالى: (... إن في صدورهم إلاّ كِبرٌ ما هم ببالغيه...)(8).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)(9).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من تعظَّم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان)(10).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطراً)(11).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في جهنم)(12).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب)(13).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري(14) متكبر)(15).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يدخل الجنة جبار، ولا بخيل، ولا سيئ الملكة)(16).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يخرج من النار عنق له أُذنان تسمعان، وعينان تبصران، ولسان ينطق، يقول: وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين)(17)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك جبار، ومقل مختال)(18).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد تبختر واختال ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد غفل وسها ونسي المقابر والبلى، بئس العبد عبد عتا وبغى ونسي المبدأ والمنتهى)(19).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ أبغضكم إلينا وأبعدكم عنا في الآخرة الثرثارون المتشدقون المتفيقهون)(20) أي المتكبرون.
وقال (صلى الله عليه واله وسلم): (يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطأهم الناس لهوانهم على الله تعالى)(21).
انهم أرادوا أن يظهروا للأعين فوق حقائقهم التي هم عليها فعاكستهم الأقدار، فهم في الدنيا مهانون يجتنب عنهم لكبرهم ونخوتهم فلا يوقر لهم مجلس ولا يحترم لهم مشهد ولا يحفظ فيهم مغيبهم بل تشرع عليهم الألسنة من كل مكان بالذم والازدراء وفي الآخرة في صورة الذر تطأهم الناس! يا للحقارة والهون!!.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يحشر المتكبرون يوم القيامة في مثل صور الذر تطأهم الناس ذراً في مثل صور الرجال يعلوهم كل شيء من الصغار، ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له (يولس) تعلوهم نار شر أنيار، يسقون، من طينة الخبال وعصارة أهل النار)(22).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ في جهنم وادياً يقال له (هبهب) حق على الله أن يسكنه كل جبار)(23).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ في النار قصراً يجعل فيه المتكبرون، ويطبق عليهم)(24). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا مشت أمتي المطيطاء (مشية فيها اختيال) وخدمتهم فارس والروم سلّط الله بعضهم على بعض)(25).
وقد ضرب المسيح (عليه السلام) أروع الأمثلة لقبول قلوب المتواضعين الحكمة دون المتكبرين.
قال (عليه السلام): (كما إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفاء، كذلك الحكمة تنبت في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبر، ألا ترون أنه من يتشمخ برأسه إلى السقف شجّه ومن يطأطىء أظلّه وأكنّه)(26).
وليس التحذير عن الكبر خاصّاً بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المسيح (عليه السلام) وإنما حذر منه كل الأنبياء لعواقبه الوخيمة ومضادته للفطرة الإنسانية.
في الحديث: (إنّ نوحاً (عليه السلام) لمّا حضرته الوفاة، دعا إبنيه فقال:إني آمركما باثنتين، وأنهاكما عن اثنتين: أنها كما عن الشرك والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده)(27).
ثم المتكبر لماذا يتكبر؟ انه يجد خفة في وزنه فيريد إن يسدها بالكبر، ولكن الأقدار تعاكسه دائماً، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه)(28) فهو ذليل يريد أن يتعزز بالكبر ولكن هيهات!...
التواضع رأس الفضائل
وبالعكس من التكبر: التواضع، فهو رأس الفضائل، ودليل على كبر النفس وسموها، ولذا كان النبي العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) متصفاً بهذه الصفة الرفيعة وينبغي للمسلم أن يجتهد كي يحتذي به (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال أبو سعيد الخدري:
(كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلف الناضح.
ويعقل البعير.
ويقمّ البيت.
ويحلب الشاة.
ويخصف النعل.
ويرقع الثوب.
ويأكل مع خادمه.
ويطحن عنه إذا أعيى.
ويشتري الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلّقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه وينقلب إلى أهله.
يصافح الغني والفقير والصغير والكبير.
ويسلم مبتدئاً على كل من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر، حر أو عبد: من أهل الصلاة.
ليست له حلة لمدخله ولا لمخرجه.
لا يستحي من أن يجيب إذا دعي وان كان أشعث أغبر.
ولا يحقر ما دعي إليه وان لم يجد إلا حشف الرَّقل.
لا يرفع غداءً لعشاء ولا عشاءً لغداء.
هيّن المؤنة.
لين الخلق.
كريم الطبيعة.
جميل المعاشرة.
طلق الوجه.
بسّاماً من غير ضحك.
محزوناً من غير عبوس.
شديداً في غير عنف.
متواضعاً في غير مذلّة.
جواداً من غير سرف.
رحيماً لكل ذي قربى.
قريباً من كل ذمي ومسلم.
رقيق القلب.
دائم الإطراق.
لم يبشم قط من شبع.
ولا يمدّ يده إلى طمع)(29).
وهذه الملكات الفاضلة كانت بعض ما اتصف به نبي الإسلام العظيم، الذي يجب على المسلم أن يقتدي به كما يقول الله تعالى: (... لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر...)(30).
وحيث إن التواضع من الصفات الحسنة أرصد الإسلام له جملة من الأحاديث.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما تواضع أحد لله إلاّ رفعه الله)(31).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):(طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالاً جمعه من غير معصية، ورحم أهل الذلّة والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة)(32).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ لأصحابه ـ: (مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟! قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم):التواضع)(33).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة)(34) كناية عن مرتبة ليست فوقها مرتبة.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا هدى الله عبداً للإسلام حسّن صورته، وجعله في موضع غير شائن له، ورزقه مع ذلك تواضعاً، فذلك من صفوة الله)(35).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أربع لا يعطيهن الله إلا من يحبه: الصمت وهو أوّل العبادة، والتوكّل على الله، والتواضع، والزهد في الدنيا)(36).
وقـــال (صلى الله عـــليه وآله وسلم): (ليعــجبني أن يحمل الـــرجل الشـــيء في يده يكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه)(37).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر خفضه الله، ومن اقتصد في معيشته رزقه الله، ومن بذر حرمه الله، ومن أكثر ذكر الموت أحبّه الله، ومن أكثر ذكر الله أظلّه الله في جنته)(38).
وفي الحديث: (أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملك فقال: إن الله تعالى يخبرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أو ملكاً رسولاً؟ فنظر إلى جبرائيل (عليه السلام) فأومى بيده أن تواضع، فقال: عبداً متواضعاً رسولاً فقال الملك: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئاً، قال: ومعه مفاتيح خزائن الأرض)(39).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):(إن التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرفعكم الله)(40).
وقال عيسى بن مريم (عليه السلام): (طوبى للمتواضعين في الدنيا، هم أصحاب المنابر يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا، هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة، طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله تعالى (أي إلى رحمته وفضله) يوم القيامة)(41).
وفي الحديث أوحى الله تعالى إلى داود: (يا داود كما أن اقرب الناس إلى الله المتواضعون، كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون)(42).
وروي: (أن سليمان بن داود إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين، فيقعد معهم ويقول: مسكين مع مساكين)(43).
وأئمة المسلمين عليهم السلام كانوا الزم الناس لهذه الخصلة الحميدة قولاً وعملاً.
فقد روي: (انه ورد على أمير المؤمنين (عليه السلام) أخوان مؤمنان: أب وابن فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين أيديهما ثم أمر بطعام فأُحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل وجاء ليصب على يد الرجل فوثب أمير المؤمنين (عليه السلام) واخذ الإبريق ليصب على يد الرجل فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟! قال: اقعد واغسل فإن الله عز وجل يراك وأخوك الذي لا يتميز منك ولا يتفضّل عليك يخدمك يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، فقعد الرجل وقال له علي (عليه السلام): أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبحلته وتواضعك لله حتى جازاك عنه بأن ندبني لما شرّفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصابّ عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك فلما فرغ ناول الإبريق (إبنه) محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده ولكن الله عز وجل يأبى أن يساوي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأب على الأب، فليصبّ الابن على الابن، فصبّ محمد بن الحنفية على الإبن)(44).
والمتواضع لا يزال متواضعاً حتى يكون من الصدّيقين.
قال الإمام العسكري (عليه السلام): (أعرف الناس بحقوق إخوانهم وأشدهم قضاءً لها، أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب حقاً)(45).
وقد حدد الإسلام التواضع تحديداً دقيقاً حتى لا يقال: ما هو؟ ولا يعتذر بتركه معتذر قائلاً: لم أك أعرفه.
سئل أبو الحسن (عليه السلام): (عن حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟ فقال: التواضع درجات منها: أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه أن رأى سيئة درأها بالحسنة كاظم الغيظ، عاف عن الناس، والله يحب المحسنين)(46).
وفي حديث آخر قال (عليه السلام): (التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه)(47).
وإذا كان التواضع ممدوحاً فإن المذلة مذمومة فإنّ كلا طرفي التواضع خارج عن الاعتدال وعن الموازين الإنسانية فإفراطهما: التكبر، وتفريطهما: المذلة، واللازم على الإنسان أن لا يبذل نفسه حتى يهان ويحتقر، بل يكون متواضعا في غير مهانة ولذا فإذا كان هناك متكبر طاغ يذل الإنسان ويزدريه فالأليق أن لا يبالي به الشخص ويتكبر عليه، اعتزازاً بالنفس عن مساقط الهوان وإرغاماً لكبريائه المصطنع.
والى هذا ينظر ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا رأيتم المتواضعين من أمتي، فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين، فتكبروا عليهم فإن ذلك لهم مذلةً وصغاراً)(48).
اضف تعليق