العلم فضيلة، والفضيلة لا تكون فضيلة إلا إذا اُريد بها ذاتها، فمن تعلم لتكمل نفسه وليخدم الناس أو ما أشبه، فهو حقّاً طلب العلم لذاته وله من الله المثوبة، ولدى الناس الذكر الحسن أما لو طلبه لجاه أو مال، أو مراء أو مباهاة فيكيل له الناس الإهانة والازدراء...
العلم فضيلة، والفضيلة لا تكون فضيلة إلا إذا اُريد بها ذاتها، أما لو اُريد بها غيرها بأن جعلت قنطرة إلى لذّة عابرة، أو شهوة طارئة أو مال أو جاه.. فهي بالرذيلة أشبه. أليس الجود حسناً؟ ومع ذلك فإذا أراد المنفق غير الجود ذاته بأن أراد مدحاً أو شهرةً أو ما إليهما إنقلب الجود رذيلة بعيدة عن القيم الإنسانية والمثل العالية.
وهكذا العلم، فمن تعلم لتكمل نفسه وليخدم الناس أو ما أشبه، فهو حقّاً طلب العلم لذاته وله من الله المثوبة، ولدى الناس الذكر الحسن أما لو طلبه لجاه أو مال، أو مراء أو مباهاة فيكيل له الناس الإهانة والازدراء، ويجزيه الله الجزاء السيء.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس فليتبوّأ مقعده من النار، إنّ الرياسة لا تصلح إلاّ لأهلها)(1). فالعلم المراد به المباهاة والمماراة، والجاه، لا يؤهّل الإنسان للرئاسة، إنّه بعكس ذلك يبعد عن هذا المقام فالناس تبع لكلّ متواضع مجامل، لا كلّ متكبر مباه...
وقد قسم الإمام الصادق (عليه السلام) طلبة العلم إلى ثلاثة أقسام وبيّن علائم كل واحد كي لا يغترّ الناس بمن جعل صدره صندوق الكتب وهو فارغ عن بهاء العلم وفضله، ويكون حاله حال من حفظ كتاب البخاري فقيل لأحد العلماء: إنّ فلاناً حفظ كتاب البخاري، قال: ازدادت نسخة في البلد! يريد أنّ حفظه إيّاه ليس إلا كنسخة مطبوعة وما قيمة النسخة: إنّها على أكثر الفروض ثلاثة دنانير أو ما يقاربها.
قال (عليه السلام): (طلبة العلم ثلاثة، فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم، صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل.
فصاحب الجهل والمراء: مؤذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم وقد تسربل بالخشوع، وتخلى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.
وصاحب الاستطالة والختل: ذو خب وملق، يستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوانهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره، وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنّك في برنسه وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى وجلاً داعياً مشفقاً مقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه، مستوحشاً من أوثق إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه)(2).
ونتوقف عند هذا الحديث ـ لا للشرح فشرحه طويل ـ بل لأن نقول: إن من الظريف أن الناس بطبيعتهم يعرفون هذه الأقسام فيعاكسون الأوّلين ويلتفّون حول القسم الثالث ومن نظر إلى العلماء في كل زمان رأى صدق ما ذكرناه.
وكفى هذا خزيا للأوّلين ورفعة وسمّوا للثالث!
ثمّ إنّ العلم مهما كان نوعه فإنه يحتاج إلى العمل بخط مستقيم لا غير، وإلا فسرعان ما يذهب العلم وتبقى الحسرة، مثلاً: علم الطب والهندسة والرياضيات وما إليها... تحتاج إلى أعمال مباشرة، وعلم أصول الدين والحكمة والفلسفة ونحوها تحتاج إلى الممارسة والتكرار والعمل بمقتضاها، فالعالم ينبغي له أن يراعي هذا الجانب المهم من العلم.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (العلم مقرون إلى العمل، من علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه! وإلاّ ارتحل عنه)(3) وكيف لا يرتحل ولا يستمد ما يقضي بقاءه؟ وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (ومكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعملون ولمّا تعملوا بما علمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفراً، ولم يزدد من الله إلا بعداً)(4) إنّ من يعلم أنّ الشيء الفلاني محرم ثم لا يبالي بفعله إنّه يبتعد عن الله أكثر مما يبتعد الجاهل، فمن يعرف القانون ثم يخترقه أكثر جرماً ممن لا يعلم بالقانون.
وقد اشتد اللوم على تارك العمل حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وأن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشدّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له، وقــبل منه، فأطاع الله، فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بترك علمه واتّباعــه الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة)(5).
ومما يزيد العلم بهاءً والعالم سؤدداً أن يتحلى بالحلم والتواضع فالتواضع والحلم يزينان كل شيء، والتكبر والخرق يشينان كل شيء، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقـار، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقكم)(6).
وما يجدر الإشارة إليه: إن العلم ثمين جداً فعلى العالم أن يتحرى موضع وضع هذا الجوهر الغالي فكثير من العلوم يسبب الدمار والهلاك إذا وضع بين يدي السفاكين، وبالعكس يسبب العمران والرقي إذا بذل لمن يريد خير البشرية وازدهارها، فمثلاً علم (جراثيم الأوبئة) سبب لنشر الأمراض، إذا تعلمه أعداء البشرية، وبالعكس هو بذاته سبب لقتل الأمراض، ونجاة الناس من فتكها، إذا تعلّمه الطبيب الشفيق.
والى هذه النقطة المهمة يشير النبي العــظيم عيسى بن مريم (عليه السلام) كما يرويه الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قام عيسى بن مريم خطيباً في بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل! لا تحدّثوا الجهّال بالحكمة فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم)(7).
والإسلام يريد الصدق في كل شيء، ويكره الالتواء والزيغ ولأجل هذا يحرم القول بغير العلم ويحرم التجديف بدون دراية قال الإمام الباقر (عليه السلام): (حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عندما لا يعلمون)(8) فلا يبخلوا بالعلم ـ كي يتسع ـ ولا يسخو بالجهل ـ كي لا يستشري ضرره ـ فإن كل جهل ضار وكل علم نافع، وفي معنى ذلك ما عن ولده الإمام الصادق (عليه السلام) قال:(إن الله تعالى خصّ عباده بآيتين من كتابه: ألا يقولوا حتى يعلموا ولا يردّوا ما لم يعلموا فقال: (... ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق...)(9) وقال (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله...)(10) (11).
وليس الأمر يقف على هذا الحد بل أبعد من هذا فلا يريد الإسلام أن يقول الرجل ما يوهم أنّه يعلم ـ والحال أنّه لا يعلم ـ تحفّظاً على موازين الصدق ومقاييس الاستقامة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري. ولا يقل: الله أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكّاً، وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يتّهمه السائل)(12).
ليصفو قلب الطرفين: هذا صادق في قوله، والسائل مصدّق له.
اضف تعليق