من عوامل الحسد أيضاً: التنافس غير المشروع في أمور الدنيا، وهو من البواعث التي تساعد على نمو هذا المرض في نفس الإنسان، وان التنافس الحاصل اليوم في أغلب بقاع العالم بين بعض الأحزاب والمنظمات وبعض الأفراد للحصول على السلطة السياسية وما أشبه أو بعض المطالب الدنيوية الزائلة...
قال الله تعالى في محكم كتابه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)(1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «آفة الدين الحسد»(2).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً»(3).
يذكر علماء النفس: أن في نفس الإنسان قوتين، قوة تجره إلى طريق الخير والصلاح، وتسمى القوة الخيرة، وأخرى تجره إلى طريق الضلالة وتسمى القوة الشريرة.
وبين هاتين القوتين صراع مستمر، فإذا غلبت قوة الخير قوة الشر، فان الإنسان يصبح صالحاً، وبانقلاب الكفة، تنعكس النتيجة، وبين هذا وذاك درجات، فمنهم من يكون خيره أو شره بدرجة (100%)، ومنهم من يكون بدرجة (90%) وهكذا، وكل ذلك يتبع نتائج الصراع الدائر بين القوة الخيرة والقوة الشريرة.
علماً بأن هذه القوى لا تعمل مستقلة، أي بدون تدخل الانسان، حتى تكون النتائج قسرية عليه، وإنما للإنسان الدخل الأكبر، في مساندة ومناصرة احداهما للتغلب على الأخرى، ولهذا يكون الإنسان شريكاً مع نفسه في النتيجة الحاصلة خيراً كانت أم شراً.
الآثار المترتبة
وهناك مسألة أخرى، من المناسب توضيحها هنا، وهي أن الآثار المترتبة، على انتصار كل قوة من هذه القوى متعددة وكثيرة، فآثار القوة الخيرة هي جميع أعمال الخير والصلاح، ابتداءً من مساعدة المحتاجين وقضاء حوائجهم إلى بذل النفس في سبيل الله تعالى.
وكذلك آثار القوة الشريرة متعددة وكثيرة، منها: الكذب، والنفاق، والدجل، والسرقة، والحقد، والحسد؛ فإن الحسد هو من الآثار الناتجة عن انتصار قوة الشر على قوة الخير، والكلام في هذا الكراس يكون حول الحسد بإذنه تعالى.
الحسد والغبطة
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عزوجل لموسى بن عمران: يا ابن عمران، لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فان الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني»(4).
وقال (عليه السلام): «أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد»(5).
فان الحسد معناه: أن يتمنى الإنسان زوال نعمة الآخرين، وانتقالها إليه أو إتلافها، فهو من أبشع الصفات التي يمكن أن تنسب إلى الإنسان.. وهو من أسوأ الأمراض الخلقية وأخبثها التي يمكن ان تفتك بالإنسان والعياذ بالله!
فالحسود إذا رأى نعمة يتمتع بها أحد من الناس، مثلاً رأى شخصاً يملك بيتاً جميلاً أو سيارة فارهة، أو كان له أولاد وزوجة يتنعم بهم وبها، أو أي فضل أو نعمة مستمتع بها، فانه ـ أي الحسود ـ يسوؤه ذلك، ويتمنى أن تزول هذه النعمة عن ذلك الشخص، سواء أراد ان تنقل إليه هو، أو لا، فأقل ذلك أن يتمنى لها التلف من صاحبها.
قال تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)(6).
وهذا الفعل من أكبر رذائل الأخلاق والأمراض النفسية وقد تكون من الأمور المحرمة في الإسلام.
وفي بعض الأحيان، قد تصل المرحلة بالشخص الحسود، إلى أن يعرض نفسه للخطر، في سبيل أن يعرض صاحب النعمة إلى الضرر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
أما الغبطة فليس كذلك، بل هي عكس الحسد تماماً، لأنها تعني أن يتمنى الإنسان ـ عندما يشاهد نعمة أنعمها الله تعالى على أحد من الناس ـ أن يكون له مثلها، أو أفضل منها، مع بقائها لصاحبها.
فاذا شاهد عند صديقه، أو جاره، أو أي إنسان، شيئاً جميلاً، كالبيت الواسع الجميل، فانه يتمنى أن يكون له بيت مثله، أو أجمل منه، ولكن لا يتمنى أن تزول هذه النعمة من صديقه أو تنتقل إليه، بل يطمح أن يكون له بيت مثله.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط»(7).
مضار الحسد
قال الإمام الباقر (عليه السلام): «.. ان الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»(8).
ذكر علماء الأخلاق وعلماء النفس أن للحسد مضاراً وخيمة، تضر بالإنسان والمجتمع، وهذه المضار تظهر نتائجها على الإنسان الحسود بالدرجة الأولى، فبالاضافة إلى العقوبة الإلهية أي العقاب الأخروي الذي سوف يناله، هناك أضرار دنيوية بالغة، نذكر بعضاً منها على سبيل الإيجاز، سائلين الله عزوجل أن يصفي النفوس ويطيبها، ويجنبنا مضار الحسد:
أولاً: العزلة وكراهية الناس، وهي من المضار المشهورة التي تلاحق الحسود، حيث ينبذه المجتمع، وتزيد كراهية الناس له، ويحاولون تجنب مصاحبته أو الاجتماع به، أو إجراء أي نوع من أنواع المعاملة معه، وهذا مما يسبب تعكر صفو حياة الحسود، فيجعله قرين الحزن والهم والآلام، بعد طرده عن الناس، واعتزاله تقوقعه على نفسه.
ثانياً: الاكتئاب وغيره من الأمراض، وهو كذلك من العوارض المعروفة التي تطرأ على الحسود في أغلب الأحيان، وربما وصلت الحالة به إلى مرحلة الجنون، وذلك لشعوره بالنقص، والخذلان، والمقاطعة من قبل المجتمع، وقد أجاد الشاعر حين قال:
اصبر على حسد الحسود-----فان صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها-----إن لم تجد ما تأكله(9)
إن الإنسان مجبول على الاجتماع والعيش فيه، وكما قيل: هو مخلوق اجتماعي، يألف الناس ويألفونه وفي الحديث الشريف: «المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»(10).
ان الإنسان قد يصبر على كثير من أنواع البلاء والمحن، دون أن يجد لذلك حزازة في نفسه، أما أن يخرج إلى الشارع فيفاجأ بالأبواب كلها مؤصدة في وجهه، والوجوه كلها مشيمة عنه، فذلك عقاب لا يحتمله ولا يطيقه عادة، ولشدة وقع هذا العقاب على الإنسان، لذلك اختارته قريش للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وصحبه الأقربين بعدما جرّبوا مختلف الأساليب اللاإنسانية معه، فقرروا حصاره (صلى الله عليه وآله) في شعب أبي طالب (عليه السلام)، في قصة مفصلة(11)، وكذلك قرر الثلاثة الذين خلفوا أن يلجأوا إلى الجبل، ليبتعدوا عن أعين الناس، ووشوشاتهم، وإعراضهم حتى نزلت الآيات بقبول توبتهم(12).
ومن أجل ذلك كله يعرف أن الحسود هو أول من يتأذى بحسده، فكم من الأذى والأمراض والصعوبات، التي يمكن أن تحيق بالمطرود من المجتمع ومن أوساط الناس وكم هي تلك الآثار السلبية التي تكون لمن يأكل نفسه بنفسه، وخير تعبير لهذا كله؛ قول الإمام الصادق (عليه السلام): «الحاسد مضر بنفسه قبل أن يضر بالمحسود..»(13).
من حفر بئراً لأخيه
يقول المثل المشهور: «من حفر بئراً لأخيه وقع فيه».
في بعض الأحيان، ونتيجة للحسد الكامن في نفس الإنسان فانه يقدم على أعمال مخالفة للشرع ومنفرة للطبع، وخطيرة جداً في نفس الوقت، فيسمح لنفسه أن تخرج عن حد دائرة الأماني والهوى والرغبات إلى الخارج، فيحاول أن يطبقها على ساحة الواقع ولو كلفه ذلك الكثير والكثير، بل في بعض الأحيان يقوده إلى خسارة نفسه، أو أحد أفراد عائلته أو ماء وجهه ومكانته الاجتماعية أو أمواله وما يملكه، إلى غير ذلك والأخطر من كل شيء أنه يخسر إيمانه ودينه، ولا بأس هنا بذكر القصص لتكون عبرة في هذا الباب.
اقتلني!!
ينقل المحدث المقدس الشيخ عباس القمي (رحمة الله عليه)(14)، قصة عن الحسد مجملها:
كان أحد الناس يحسد جاره كثيراً، حتى وصل به الحال إلى أن يعمل أعمالاً غريبة وعجيبة، بحيث أنه في أحد الأيام، قال لعبده: إن لي عليك فضلاً كثيراً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وإني أطلب منك طلباً مهماً، وأريد منك أن تنفذه.
فقال له العبد: ما هو طلبك وسأنفذه؟
قال له الحسود: سوف نذهب إلى سطح الجيران، فاذبحني هناك، وبعد ذلك سوف يطلع الناس على أنني قتلت، ويتهموا جارنا بقتلي ويقتلونه قصاصاً!!
في البداية رفض العبد أمر سيده، ولكن إصرار المولى على عبده جعله يوافق، فقتل سيده كما أمره، وبعد ذلك عرف الناس بأن فلاناً قُتل، وجثته وجدت في بيت الجيران، فجاءت الشرطة، وألقت القبض على الجار بتهمة القتل، ولكن قبل أن ينفّذ القصاص، جاء العبد، واعترف بكل ما حدث.
فأطلق سراح الشخص الذي أراد الحاسد الإيقاع به!
فكانت النتيجة أن قتل الحسود، دون أن يحقق شيئاً من أمانيه الخبيثة، فخسر نفسه في الدنيا والآخرة، وصدق عز من قائل: (نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(15).
فالحسود يعميه الحسد ويسوّد قلبه، بحيث يصبح لا يفرح إلا بمضرة الآخرين وزوال نعمهم، حتى ولو كلفه ذلك حياته، ومن هنا لا يستغرب عمل هذا الشخص الذي أعماه الحسد، فقتل نفسه في سبيل مضرة غيره، والتاريخ ينقل لنا نماذج شبيهة بهذا العمل أو أبشع منه لا لسبب سوى إشباع غرائزهم الشيطانية، واستجابة لنفوسهم المريضة بداء الحسد وغيره من الرذائل.
التاجر والقروي
ينقل في كتب التاريخ، أن تاجراً كان يذهب إلى إحدى القرى المجاورة لمدينته، ويشتري منهم الدجاج والبيض، وفي أحد الأيام، أخذ التاجر معه مبلغاً كبيراً ليعطيه إلى أحد القرويين، وكان هذا الأخير يملك حقلاً، يبيع فيه الدجاج والبيض، فأعطاه النقود، وطلب منه أن يرسل له الدجاج والبيض إلى مكانه في المدينة، وحيث وصل ليلاً أراد أن ينام في بيت القروي، وفي الصباح يرجع إلى مدينته.
فهيأ القروي للتاجر غرفة لكي ينام فيها، وعندما رجع القروي إلى زوجته، أخذ الشيطان يوسوس لهما بقتل التاجر، وأخذ أمواله، دون أن يرسلا الدجاج والبيض فقررا أن يقتلاه، ويدفناه في بيتهما.
ولكن التاجر لم يستطع النوم في تلك الليلة، وفجأة ألقى بنظرة إلى الخارج، فرأى القروي وزوجته يحفرون قبراً في وسط الدار، فخاف من الأمر كثيراً، وأوجس ريبة من عملهما، فخرج من الغرفة بهدوء، وذهب إلى حظيرة الحيوانات، وأخفى نفسه بين الأغنام والبقر التي كان القروي يمتلكها.
وبعد فترة، جاء ابن القروي، وكان مسافراً خارج المنزل، ودخل البيت وذهب على رسله إلى غرفة الضيوف فرأى فراشاً معداً ومهيئاً للنوم، فاستلقى فيه لكي ينام ويستريح.
وبعد ما أكمل القروي وزوجته حفر القبر، جاءا إلى غرفة الضيوف لقتل التاجر، فأخذ القروي سكيناً، وطعن الشخص النائم في الفراش فقتله، وكل ظنه أنه التاجر، ولكن بعد أن انتبه إلى الجثة، وعرف أنها لولده فلم تقو رجلاه على حمله، فعض أصبع الندم ولات ساعة مندم، ودفن ابنه في الحفرة التي أعدها للتاجر، وعند منتصف الليل، خرج التاجر سراً من مخبئه، وهرب نحو المدينة، وعندما وصل، أخبر الشرطة بتفاصيل الحادث، فجاءت الشرطة، وألقت القبض على القروي، وأخذت الأموال التي استلمها وأعادتها للتاجر، وبهذا العمل خسر القروي نفسه وولده، وماله، وسمعته، وسمعة عائلته، هذا في الدنيا، أما جزاء الآخرة فأعظم وأشد، وكان كل ذلك بفعل الحسد الذي أجج نار الطمع في قلبه، وقاده إلى هذا العمل الجنوني.
وهناك كثير من القصص مسجلة في التاريخ، وكذلك في يومنا هذا يقوم أصحابها بأفعال اجرامية كبيرة تؤدي إلى خسائر فادحة، يكون الحسد الدافع الأساس ورائها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي الأسباب والدوافع، التي تؤدي إلى الحسد عند الإنسان؟ وكيف يمكن علاجه؟
منشأ الحسد
الحسد ينشأ بفعل عوامل عديدة، أهمها وأخطرها هو خبث الباطن والعياذ بالله، فهو لا يتحمل أن يرى نعمة موفورة عند أحد، فيسعى لإزالتها وافنائها بكل ما أوتي من فهم وقوة، ومهما كانت الوسيلة والطريق. وهناك عوامل أخرى ذكرها العلماء كالعداوة والبغضاء والإحساس بالنقص والهزيمة أمام الآخرين.
فبعض الناس إذا ساءت علاقتهم بشخص، فانهم يتمنون زوال نعمته، بل في بعض الأحيان يخرج من مجرد التمني إلى العمل في سبيل زوال هذه النعمة، ومنها: الفقر، قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر»(16).
فالفقر من العوامل الرئيسية والمهمة، لإصابة بعض الناس بهذا المرض الخبيث.
وقلنا (بعض الناس) ولم نعمم على جميع الفقراء؛ لأن من الفقراء من يتصفون بالكمالات الأخلاقية ولا يجرهم فقرهم إلى حسد الآخرين؛ فانهم يملكون حصناً حصيناً لا تؤثر فيه جميع العوامل والأعراض، وهو إيمانهم بالله تعالى، والاقتناع بما رزقهم من النعم.
ومن عوامل الحسد أيضاً: التنافس غير المشروع في أمور الدنيا، وهو من البواعث التي تساعد على نمو هذا المرض في نفس الإنسان، وان التنافس الحاصل اليوم في أغلب بقاع العالم بين بعض الأحزاب والمنظمات وبعض الأفراد للحصول على السلطة السياسية وما أشبه أو بعض المطالب الدنيوية الزائلة، هو من هذا القبيل... فمن أجل الإثراء السريع، أو الوصول إلى الكرسي في احدى الدوائر أو الحكومات، أو الحصول على زوجة جميلة، أو الحيازة على لقب من الألقاب المغرية، ترتكب المنكرات والجرائم، وتنتهك الحرمات، من دون رادع من ضمير أو دين.. لأن دينهم ورائدهم ساعتها أن الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت رذيلة وشنيعة نعود بالله من ذلك.
إشارة
فان قيل: ان التنافس من مبادئنا الإسلامية ومن المستحبات الشرعية، وفيه آيات وروايات عديدة، أشارت إلى العمل به، مثل قوله تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(17)، فكيف يتماشى هذا مع قولكم بأن التنافس يولد الحسد؟
قلنا في جوابه: ان التنافس الذي يولد الحسد، هو التنافس غير المشروع، أي الصراع الذي لا يستند إلى المبادئ السليمة، وانما همّ صاحبه الوحيد هو الفوز على خصمه وبكل الطرق، وهذا هو جوهر الفرق بين التنافس المشروع، والذي أقره الإسلام، وبين التنافس غير المشروع، والذي نهت وحذرت منه الشريعة السماوية السمحاء.
ومن عوامل الحسد: الجهل، وهو أخطر الأسباب والبواعث، التي بسببها يصبح الإنسان حسوداً، بل إن أغلب العادات والتقاليد السيئة ناجمة عن الجهل، لأن الإنسان الجاهل هو التربة الخصبة لنمو العادات والتقاليد السيئة، فالجاهل لا يتحسب للعواقب، ولا يعتبر بالتجارب، فتجده غالباً يحسد الناس إما لكونهم أكثر علماً منه أو أكثر مالاً أو ما شابه ذلك. فقد قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهشام: «يا هشام، من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله عزوجل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى...»(18).
ثم إن هناك، عوامل أخرى أيضاً، من شأنها أن تزرع في النفس بذرة هذا المرض الخبيث، مثل الأنانية والازدراء والكبر والعجب.. وربما اجتمعت أكثر من خصلة في شخص واحد، فيكون إنساناً جاهلاً وفقيراً ومغروراً، وحينئذ تصبح نسبة تعرضه للحسد أكبر، فيغدو مثل بركان ينفجر حسداً وغيضاً وبغياً، فلا يمكنه كتمان ذلك، فتتحول حياته إلى مستنقع من الحقد والجريمة، وسائر مفردات الشر، والعياذ بالله.
الوقاية من الحسد
الأمراض التي يتعرض لها الإنسان عديدة، منها: ما يصيب البدن، مثل الزكام، والكوليرا، وما شابه، وتسمى الأمراض العضوية أي: التي تصيب أعضاء الإنسان.
ومنها: ما يصيب روح الإنسان ونفسه مثل الغيبة، والحسد، وما شابه، وتسمى هذه: بالأمراض النفسية.
وكما أن للأمراض العضوية طرق وقاية وعلاج، فالأمراض النفسية ومنها الحسد، لها طرق وقاية وعلاج أيضاً. وقد ذكر علماء الأخلاق أموراً، لمواجهة الحسد والتخلص منه، من أهمها:
أولاً: الابتعاد عن مسببات الحسد، وهي تلك العوامل التي ذكرنا بعضها، من قبيل: الكبر والأنانية، وحب المال والسلطة، والعداوة.. وما شاكل ذلك.
ثانياً: ترويض النفس على فعل المضاد للحسد، فمثلاً: الإنسان عندما تسول له نفسه في تمني زوال نعمة الآخرين، أو العمل على زوالها، عليه أن يعمل المضاد لهذه الأمنية، ويتمنى زيادة نعمة الآخرين، أو يعمل هو بنفسه على زيادة هذه النعمة، وبتكرار هذا العمل عدة مرات سوف تروض نفسه على فعل الخير، ويتجنب الحسد، وهذا النوع من العلاج يسمى العلاج العملي.
ثالثاً: تذكير النفس بمضار الحسد: إن الإنسان الحسود تلحقه أضرار في الدنيا والآخرة، كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الحاسد مضر بنفسه قبل أن يضر بالمحسود»(19). فتذكير الإنسان نفسه بهذه المضار والنتائج المترتبة عليها، يساعده في الابتعاد عن الحسد.
رابعاً: مطالعة أحوال الحاسدين وما حلّ بهم من الخسائر الدنيوية والاخروية، فانها تكون سبباً لابتعاده عن ذلك.
خامساً: تذكير النفس بقبح الحسد؛ لأن الحسد سمة (قبيحة) غير جيدة وهي صفة مذمومة عند عامة الناس، حتى عند الإنسان الحسود نفسه، فإذا ما وجه له هذا السؤال: ما هو رأيك بالحسد؟ فإنه دون شك سوف يجيب بأنه من الخصال المذمومة.
وجوابه هذا هو ليس بتمويه، وإنما هو نابع من وجدانه؛ لأن الحسد وعلى رأي أغلب العلماء، هو صفة القلب لا صفة الفعل، فما دام الحسد قبيحاً حتى بالنسبة للإنسان الحاسد وان لم يظهر على أفعاله، والإنسان السليم بطبيعته ينفر من القبيح، فان تذكير النفس بقبح الحسد، هو من العوامل المساعدة لتجنب الوقوع في الحسد، أو للخلاص منه.
وهناك نقطة مهمة، تجدر الإشارة إليها وهي: أن أحسن طريق للوقاية والعلاج من هذا المرض وغيره هو الإيمان الخالص بالله عزوجل والدعاء طلباً في النجاة منه، فانه دواء لكل داء.
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما أخلص العبد الإيمان بالله عزوجل أربعين يوماً أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله عزوجل أربعين يوماً إلا زهده الله عزوجل في الدنيا وبصّره داءها ودواءها فأثبت الحكمة في قلبه..»(20).
وكانت هذه بعض الطرق والعوامل، والتي إذا ما اتبعها الإنسان، فانه قد يتمكن من أن يحصن نفسه من الوقوع في هذا الداء الفتاك.
«اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلة القناعة، وشكاسة الخلق، وإلحاح الشهوة، وملكة الحمية، ومتابعة الهوى، ومخالفة الهدى، وسنة الغفلة، وتعاطي الكلفة، وإيثار الباطل على الحق، والإصرار على المآثم، واستصغار المعصية، واستكبار الطاعة، ومباهات المكثرين والإزراء بالمقلين، وسوء الولاية لمن تحت أيدينا، وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا؛ أو أن نعضد ظالماً، أو نخذل ملهوفاً، أو نروم ما ليس لنا بحق، أو نقول في العلم بغير العلم»(21).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
محمد الشيرازي-قم المقدسة
اضف تعليق